الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في مساءلة التراجع الحضاري للأمتنا العربية : هل سببه تخليها عن دينها أم سببه ارتباطها بدينها ؟

إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي

(Driss Jandari)

2009 / 1 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عاش التاريخ العربي منذ بداية القرن الخامس عشر الميلادي و حتى الآن أسوأ فتراته على السواء ؛ فقد تراجع العرب إلى حدودهم القديمة بعد أن اكتسحوا العالم من شرقه إلى غربه ؛ و دخل التاريخ العربي في ما يطلق عليه المؤرخون عصور الانحطاط على جميع المستويات . لقد تساءلت النخبة العربية المثقفة عن هذا التراجع بكل حيرة ؛ بل لقد تحول التساؤل إلى إشكال فكري صاغ تيارات فكرية مختلفة ؛ كل تيار يحاول مقاربة الإشكال من زاويته الخاصة .
لكن العودة إلى مجموع هذه التيارات تؤكد أن مقاربة إشكال التراجع التاريخي الحاصل كانت في أغلبها تحمل حنينا إلى الماضي ؛ باعتباره بديلا للحاضر المتلاشي ؛ و دائما كان التذكير بما عرفته الأمة العربية من ازدهار في ماضيها . و حينما نذكر الماضي هنا فنحن نقصد أن نسبة كبيرة من هذه التيارات الفكرية كانت تعتبر أنه لا صلاح لحال هذه الأمة إلا بما صلح به حال سلفها ؛ و السلف هنا يرتبط لا شعوريا بالدين ؛ باعتباره القوة الخارقة التي صنعت التاريخ العربي في اعتبار هؤلاء .
لكن يمكن أن نتساءل لماذا تعتبر مرحلة القرن الخامس عشر بداية التراجع الحقيقي و الواضح للحضارة العربية ؟ هل كان الأمر مصادفة أم إن منطق التاريخ العقلاني هو الذي حكم عليها بالتراجع ؟
هل السبب في تراجع الحضارة العربية يكمن في تخليها عن دينها –كما يؤكد السلفيون- أم على العكس من ذلك يكمن في ارتباطها بدينها خلال مرحلة بدأ التاريخ الإنساني يعرف تحولات عميقة ؛ تسعى إلى القطع مع القرون الوسطى باعتبارها مرحلة الفكر الديني ؟
هل يمكن ربط التراجع الحاصل في الحضارة العربية منذ هذه المرحلة بخسارة الثقافة العربية لرهان القطيعة مع الفكر الديني و التأسيس في المقابل لفكر يستلهم منطق التفكير الإنساني الحديث ؛ الذي بدأ يتبلور منذ هذه المرحلة ؟
إنها أسئلة كثيرة تراود كل باحث ؛ و هو يسعى إلى مقاربة ذلك التراجع الكبير الذي دخلت فيه حضارة ؛ توسعت عبر العالم حاملة قيما فكرية و سياسية و دينية جديدة ؛ لكن الجواب يرتبط في العمق بحس تاريخاني يسعى إلى قراءة الأحداث على ضوء التحولات التاريخية بشكل مادي في منأى عن أية مثالية ؛ يمكنها أن تكرس الأجوبة الجاهزة في الثقافة العربية .
لقد تم التركيز غالبا على مرحلة القرن الخامس عشر في مقاربة التراجع الحضاري الذي دخلت فيه الأمة العربية ؛ رغم أن هذا التراجع بدت بوادره قبل هذه المرحلة ؛ لكن (سقوط الأندلس ) و ما رافقه من طرد للعرب المسلمين ؛ و استئصال لكل مظاهر الحضارة العربية من الأندلس كان أبرز حدث تاريخي يؤرخ للتراجع الحضاري العربي .
و خلال نفس المرحلة كان الغرب الأوربي يؤسس معالم مرحلة تاريخية جديدة على أنقاض الحضارة العربية الإسلامية التي دخلت في التلاشي ؛ و قد كانت معالم الحضارة الجديدة تشي منذ البداية بتحولات جذرية يدخل فيها التاريخ الإنساني ؛ عبر القطيعة مع مجموع أفكار و تصورات القرون الوسطى ؛ و ذلك عبر التأسيس للمفهوم الجديد للإنسان و الكون و الزمن و الدين و الدولة ...
فمن الثابت تاريخيا أن منظومة الحداثة ؛ قد قطعت مع منظومة التفكير القروسطوي ؛ التي تعتبر آخر مرحلة من مراحل القطيعة الابستمولوجية مع الماضي ؛ وانفتحت بالمقابل على عصر جديد يقوم بالأساس على تفكك بطيء لنمط الإنتاج الإقطاعي ؛ وانهيار متواصل لهيمنة طبقة النبلاء ؛ اقتصاديا و ثقافيا وسياسيا ؛ وولادة نمط الإنتاج الرأسمالي الذي ما فتئ يراكم الفتوحات اعتمادا على طبقة اجتماعية جديدة هي البورجوازية ؛ التي تحمل مشروعا مجتمعيا جديدا أكثر تقدما بما لا يقاس مع سابقه ؛ يرتكز على أساس حرية التجارة ؛ وحرية الملكية الفردية اقتصاديا ؛ وعلى محاربة الاستبداد ؛ والإيمان بسيادة الشعب ؛ والتبشير بالمساواة والديمقراطية ؛ اجتماعيا وسياسيا ؛ وعلى الإيمان بالعقل وسيلة لمعرفة أسرار الكون ؛ وإخضاعه لإرادة الإنسان . بالإضافة إلى تشجيع روح الابتكار والتجديد والمخاطرة في سبيل معرفة المجهول؛ والسيطرة عليه .
لقد تحققت –إذن- ثورة كبيرة في مختلف أشكال التفكير و الممارسة ؛ و انفتحت شهية الإنسان لاكتشاف العوالم المجهولة التي كان يحرم الفكر الديني ارتيادها باعتبارها من اختصاصه ؛ يبث فيها بأمر إلهي .
في المعرفة : تحقق تطور كبير في هذا المجال ؛ لا يمكن أن يقاس بما سبقه ؛ فقد " ظهرت طرائق و أساليب جديدة في المعرفة ؛ قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية ؛ إلى المعرفة التقنية ". (1)
في الطبيعة : وقد كان لنموذج المعرفة الجديد الذي فرضته الثورة التقنية الجديدة كبير الأثر على نظرة الإنسان إلى الطبيعة ؛ فمقابل طبيعة تمثل في العصور الوسطى نظاما متكاملا ؛ يتسم بالاتساق الأزلي ؛ نجد طبيعة جديدة يتحكم فيها الإنسان ؛ عبر عقليته الحسابية . " وقد تمثل هذا التحول المفصلي .. في الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس ؛ مفتتحا الانتقال الحديث من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي " . (2)
في الزمن والتاريخ : وقد كان للنظرية الجديدة في المعرفة و الطبيعة كبير الأثر على ظهور نظرية جديدة في الزمن والتاريخ ؛ الذي أصبح للإنسان دور كبير في صناعته " فقد أصبح التاريخ سيرورة و صيرورة أي مسارا حتميا تحكمه و تحدده و تفسره عوامل ملموسة ؛ كالمناخ والحاجات الاقتصادية للناس ؛ أو حروبهم وصراعاتهم من أجل الكسب " . (3)
في الإنسان : كان للثورة المعرفية الجديدة ؛ سواء في المعرفة أو في الطبيعة أو في الزمن والتاريخ ... تأثيرا مباشرا على صياغة صورة جديدة للإنسان ؛ كسيد للكون ؛ يمتلك الكثير من القدرة على تشكيله على طريقته الخاصة . وبذلك فقد أصبحت للإنسان الحديث " قيمة مركزية وعملية ؛ ففي مجال المعرفة أصبحت ذاتية العقل الإنساني هي المؤسسة لموضوعية الموضوعات ؛ وتم إرجاع كل معرفة إلى الذات المفكرة أو الشيء المفكر فيه ؛ أو الكوجيتو " . (4)
في ظل هذه التحولات الجذرية التي مر بها التاريخ الإنساني ؛ كان الفكر العربي يعيد إنتاج منظومة القرون الوسطى ؛ معتبرا أن النص الديني هو منبع المعرفة الإنسانية بمختلف أشكالها . لقد كان يحدث هذا في مرحلة وصل خلالها الفكر الإنساني إلى قمة رشده ؛ رافضا كل وصاية سماوية توجهه ؛ باعتبار أن الحقيقة في كل شيء تبنى بشكل عقلاني و لا تمنح بشكل (لدني).
من هذا المنظور يمكن أن نفهم التراجع الكبير الذي دخلت فيه الحضارة العربية ؛ إنه تراجع يرتبط بتقوقعها حول تصورات دينية عتيقة خلال مرحلة تاريخية تتخذ المعرفة العلمية سبيلا لاكتشاف الكون و السيطرة عليه بهدف توجيهه لخدمة مصالحها . ففي الوقت الذي دخلت العقلية العلمية على الخط ؛ محاولة تفكيك أساطير النص الديني حول الإنسان و الكون و التاريخ ... كانت العقلية الدينية في الثقافة العربية تعيد الاعتبار لهذا النص و تمنحه سلطة أوسع ؛ باعتباره يحوي كل علوم الدنيا و الدين . و كل من يخالف هذا النص يعتبر محدثا لسنة سيئة ؛ يقع عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القامة ؛ و في نفس الآن اعتبرت كل محافظة على منطق هذا النص استحداثا لسنة حسنة ؛ أجرها و أجر من عمل بها ؛ لمن استحدثها إلى يوم القيامة .
و ارتباطا بمنطق النص الديني هذا دخل الفكر العربي في إعادة إنتاج المنظومة اللاهوتية القديمة ؛ باعتبارها أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني في اعتباره ؛ و بذلك ساد الجمود في الثقافة العربية قرون طويلة ؛ حتى اعترفت به هذه الثقافة نفسها و أطلقت عليه اسم الانحطاط .
و من منظور استحداث السنة الحسنة طلبا لأجرها و أجر من عمل بها ؛ تم التفكير في الخروج من هذا الانحطاط باعتماد نفس منطق النص الديني ؛ لكن هذه المرة تم التفكير في العودة به إلى أصوله الأولى .
و قد تكرست سلطة النص الديني خلال التاريخ المعاصر بشكل أفدح من الأشكال السابقة بظهور ما يسمى بالحركات الإسلامية ؛ التي تفتخر بأنها تشكل صحوة لهذا النص ؛ و استعادة للمكبوت الديني القديم .
و خلال كل هذه المراحل كان الفكر العربي يفشل في الارتباط بروح العصر ؛ و يكرس روح الماضي في شكل سلفي باهت ؛ يقتل في الحاضر روح الخلق و الإبداع ؛ و يفتح لمستقبل فكري مظلم سمته التردي الشامل .
و هذا ما ينعكس بشكل مباشر على واقعنا الذي يعاني من جميع أشكال التخلف ؛ سياسيا عبر تكريس الاستبداد و غياب أي أفق للديمقراطية ؛ و اقتصاديا عبر تكريس اقتصاد الريع المتخلف و غير المنتج ؛ و اجتماعيا عبر تكريس نموذج القبيلة و العشيرة و الروابط الدموية ؛ و ثقافيا عبر تكريس الخرافات و الشعوذة و الفكر الغيبي التواكلي و القدرية العمياء و الدروشة ...
إن حاضر أمتنا العربية يعاني جميع أشكال الاختلال ؛ الأمر الذي يهدد في المستقبل القريب بانفجارات خطيرة تقودها شعوب تعيش بأجسادها في العصر الحديث بينما ترتبط ثقافيا ووجدانيا بعصور غابرة ضاربة في القدم ؛ تستعير منها أشكال التفكير و الشعور و الممارسة .
في ظل هذا الوضع المتردي الذي نمر به ؛ أتساءل –كعادتي- عن مسؤولية المثقف التنويري ؛ الذي ينهل من الفكر الحديث ؛ و يمتلك رؤية فكرية حديثة هل يقف متفرجا على ما يحدث متذرعا بعدم قدرته على التواؤم مع شعوب تعرف القرن الثاني الهجري أكثر مما تعرف عصرها ؟ أم إن مسؤوليته مضاعفة الآن أكثر من أي وقت مضى ؛ باعتباره مثقفا نقديا ؛ يفضح كل أشكال التردي السائد ؟

الهوامش :
1 – محمد سبيلا – الحداثة و ما بعد الحداثة – دار توبقال للنشر –
ط:1- 2000- ص: 8 .
2- نفسه – ص: 9 .
3- نفسه – ص: 11 .
4- نفسه – ص: 13 .


















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حقيقة المدنية العربية الإسلامية
سامر إبراهيم ( 2009 / 1 / 5 - 01:10 )
المدنية التي تدعى المدنية العربية الإسلامية، لم تكن عربية إسلامية في أصولها أو أركانها ولا بجنسية أربابها، وإنما كان أثر العرب فيها مقتصراً على اللغة فقط. وقد بزّ العجم العرب حتى في هذا المجال، ولم تزدهر دولة الإسلام حتى قام السوريون والعراقيون والفرس والمصريون، سواء من تأسلم منهم أو من بقي على دينه، طوال تلك الحقبة يتقدمون الصفوف في حمل مشعل الفكر والثقافة والعلم، شأن اليونان لما غلبهم الرومان.. فالمدنية العربية الإسلامية، إذن، قامت على أساس المدنية الآرامية - الهيلينية، والمدنية الإيرانية، وعبرت عن نفسها باللسان العربي. ويقول المرحوم الأستاذ صادق النيهوم : (( إن منجزات العلماء المسلمين لا علاقة لها بالإسلام، بل بموقع المسلمين في الشرق.. إنها ثمرة حضارة قديمة قدم الأهرام نفسها، حضارة تكفلت منذ الأزل بإرتياد المعارف العلمية في الحساب والطب والهندسة والكيمياء والفلك، ونجحت في تطويرها قبل الإسلام وبعهده.. ولعل خير من عبر عن هذه الحقيقة هو الخليفة سليمان بن عبدالملك، حيث قال : (( العجب لهذه الأعاجم، كان الملك فيهم فلم يحتاجوا إلينا يوماً واحداً، فلما ولينا لم نستغن عنهم ساعة واحدة.. لقد إحتجنا إليهم في كل شيء حتى في تعلم لغتنا منهم )). المصدر : أبو القاسم الأصفهاني، محاضرات الأدباء ومحا


2 - تصحيح
مغربي ( 2009 / 1 / 5 - 15:56 )
شكرا سيدي على مقالتك وشكرا على دعوتك للتنوير٠أود فقط أن ألفت نظرك إلى خطأ جاء في مقدمة مقالتك :ـ فقد تراجع العرب إلى حدودهم القديمة بعد أن إكتسحوا العالم من شرقه إلى غربه ـ العرب ياسيدي لم يتراجعوا إلى حدودهم القديمة كما تقول ، وياليتهم تراجعوا فعلا٠هل شمال إفريقيا هو حدود العرب القديمة،وهل مصر هي حدود العرب القديمة وهل السودان وهل الصومال، وهل٠٠٠؟ هده الأقطار لم تكن يوما من العرب في شيء، ولكنها( لحسن حظها )الآن (تنعم) تحت ظل العروبة٠٠٠
مع إحترامي لصاحب المقال

اخر الافلام

.. رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك يزور كنيسا يهوديا في لندن


.. -الجنة المفقودة-.. مصري يستكشف دولة ربما تسمع عنها أول مرة




.. وجوه تقارب بين تنظيم الاخوان المسلمين والتنظيم الماسوني يطرح


.. الدوحة.. انعقاد الاجتماع الأممي الثالث للمبعوثين الخاصين الم




.. الهيئة القبطية الإنجيلية تنظم قافلة طبية لفحص واكتشاف أمراض