الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجربتي مع الشيوعية: من اجل (علمانية متدينة) و(تدين علماني)!

سليم مطر

2009 / 1 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يقال ان التيارات (العلمانية الوطنية) في العراق تحاول ان تستعيد عافيتها، كرد فعل على السلوكيات الطائفية والمتعصبة للتيارات الدينية. ولكي لا يتم الانتقال من المغالات الدينية الى المغالات العلمانية، علينا مراجعة تجاربنا السابقة ونقدها وتقييمها من اجل ايجاد الحلول الوسطى بين الخيارات المتطرفة. فمثلما للطروحات الدينية محاسنها وعيوبها كذلك للطروحات العلمانية محاسنها وعيوبها. والحل الافضل والامثل، ان نبتدع الطروحات التي تجمع بين محاسن التدين والاصالة ومحاسن العلمانية والحداثة.
بالحقيقة ان مفهوم(العلمانية) منذ منشأه قبل حوالي القرنين في اوربا وحتى الآن، قد أسيء فهمه واستخدامه، بصورة مناقضة تماما لما يدعيه من انسانية وديمقراطية. فأن شعار(فصل الدين عن الدولة)، تم تحريفه تربويا وتطبيقيا الى (محاربة الدين وفرض الالحاد على الدولة والمجتمع)! والمشكلة ان هذا التفسير المشوه قد تم تبنيه بصورة اكثر تطرفا في مجتمعات العالم الثالث، والعالم العربي، وخصوصا في العراق، حيث كانت التيارات الحداثية واليسارية مؤثرة. لهذا فاني في هذا النص اسجل معايناتي الحياتية والفكرية من خلال تجربتي في (الحزب الشيوعي العراقي) الذي يعتبر من اكثر الاحزاب العراقية دعوة الى العلمانية والحداثة.
الشيوعية والالحاد
اتذكر في اواسط سن مراهقتي، في اوائل سبعينات القرن الماضي، بعد تجربة حب فاشلة، ثرت على الله واصبحت ملحدا. وكنت استغرب عندما بدأ الناس يقولون لي: ( انت تحكي مثل الشيوعيين)..
فأندفعت الى قراءة الكتيبات الشيوعية السرية، بحثا عن افكار الالحاد. وفي (اعدادية الكندي المسائية) في (شارع ابو نؤاس) التقيت بـ(نوري لطفي حاجي) ذلك الشاب الكردي الشيوعي الهارب من مدينته دهوك بسبب مطاردة جماعة البرزاني للشيوعيين. بعد ان اصبح صديقي الحميم كان اول من ادخلني في تفاصيل الفكر الماركسي. رغم توكيداتي له فأنه رفض ان يصدق بأني لم اكن منتميا الى الحزب الشيوعي، لأن (الحادي المتطرف) اقنعه بأني لا بد ان اكون مثقفا(تقدميا) وشيوعيا نموذجيا، حتى انه تصور بأني كنت اخفي عنه انتمائي لأسباب امنية.
في الفكر الماركسي وجدت كل ما كنت احلم به من افكار الحادية واضحة ومنظمة وصريحة، والاكثر من هذا انها لا تخجل ابدا من انكارها لوجود الله ولكل ما هو روحاني وغيبي، لأنها تعتقد بأنها تتكلم بأسم المنطق والعقل والعلم والتقدم. اكثر ما جذبني الى هذه(الفلسفة الماركسية) جزئيها الاساسيين:(المادية الديالكتيكية) و(المادية التاريخية)، اللذان يهتمان باثبات بأن كل (الوجود الكوني والمجتمعي) قائم على (المادة المحسوسة) وتتحكم به(قوانين التطور والصدفة)، وليس هنالك أي دور لأية (قوة مثالية، أي غيبية والهية)، واعتبار (الله) مجرد اوهام وخزعبلات من صنع (الدجالين ورجال الدين!) ومعهم (الطبقات الاقطاعية والبرجوازية) التي تسخدم الدين كـ(أفيون) من اجل تخدير الشعب وتجهيله واستغلاله!
في صفوف الحزب الشيوعي، تعلمنا بصورة مباشرة وغير مباشرة اتباع(التقية) أي التكتم والمراوغة، ليس في نشاطنا السياسي فقط، بل خصوصا في طروحاتنا الفكرية. فكان هنالك دائما خطابان، احدهما علني دبلوماسي خداع، والثاني داخلي حقيقي. فمن الناحية العلنية كانت نشريات وخطابات القادة تدعي بأن الشيوعية لا تتعارض مع الدين وتعطي الامثلة عن متدينين انتموا الى الحزب. بينما في تفاصيل تربيتنا الفكرية ونشرياتنا الداخلية كنا مجبرين على تعلم واتقان الفلسفة الماركسية القائمة اولا واخيرا على انكار وجود الله وكل ما هو روحاني، بل العداء التام والشرس لكل ما هو ديني وغيبي باعتباره(متخلفا ورجعيا) ولا يخدم غير الطبقات المهيمنة والظلامية.
والاكثر طرافة في سلوك الشيوعيين، اننا كنا نستغرب ونرفض اي شخص من اصدقائنا عندما يصوم او يذهب الى الجامع، ولكننا بنفس الوقت نعتبر الامر طبيعيا بل وحتى تقدميا عندما يذهب رفاقنا المسيحيين الى(الكنيسة)! وهذا يقينا يعود الى (عقدة الخواجة) الكامنة في نفوسنا وفكرنا التي تعتقد ان الكنيسة(حالة اوربية)، وهذا يعني اذن انها تقدمية ومقبولة، مقارنة بالجامع الذي هو حالة شرقية عربية اسلامية، اذن متخلفة ورجعية!!
كذلك كان علينا في حياتنا اليومية ان نكافح ونسخر من أي سلوك او قناعة دينية مهما كانت بسيطة وانسانية. فكنا نعيش ازدواجية غريبة وقاسية: من ناحية كنا ندعي كفاحنا من اجل حقوق(الطبقات الكادحة والشعبية) وحريتها وكرامتها، وبنفس القوت نمضي وقتنا بالسخرية من كل عاداتها ومعتقداتها المورثة منذ آلاف السنين، بحجة انها متخلفة وظلامية ولا تلائم العصر. كم من المرات سخرت من المسكينة امي واغلقت المسجل لأمنعها من سماع(واقعة كربلاء)، بحجة انها حالة متخلفة!
الشيوعية والخمرة
اذن تطرفنا في التمرد على الدين والتقاليد، ومحاولة تقليد اوربا، لم يكن فقط على الصعيد الفكري، بل كذلك على صعيد الممارسة اليومية والسلوك الحياتي. ومن اكثر الامثلة فضاعة هي انتشار عادة(شرب الخمرة). صحيح ان الخمرة معروفة عند العراقيين من ايام (المرحوم كلكامش) وحفيده(ابو نؤاس)، الا انها منذ اعوام الستينات اصبحت عادة اجبارية في جميع الاوساط المدينية والمتعلمة العراقية، بصورة تتجاوز بتطرفها حتى المجتمعات الاوربية. كل ذلك بفضل الشيوعيين العراقيين. اذ تعودنا بصورة تلقائية على أعتبار (احتساء الخمرة) من اولى علامات التقدم و(الالحاد) والتمرد على (السلوكيات التقليدية المحافظة المتخلفة). واذا رفضت احتساء الخمرة مع الشيوعيين وانتقدتها من الناحية الصحية، فأنك لا بد ان تكون(مشكوكا بعقيدتك التقدمية وبدأت تنحرف نحو الدين!). وتبلغ السذاجة والشعور بالنقص من الذات الوطنية و(عقدة الخواجة) ازاء كل ما هو اوربي وسوفيتي، ان (قنينة فودكا روسية) تعتبر افضل هدية يمكن ان تقدمها لرفيق شيوعي، بعد عودتك من زيارة احدى البلدان الاشتراكية.
الشيوعية والمرأة
اما ناحية الموقف من المرأة، فيتوجب الاعتراف وقول الحقيقة بأن الشيوعيين لم يشجعوا (الانحلال الاخلاقي) كما يشيعه عنهم اعدائهم، بل بقيت العلاقات بين(الرفاق) و(الرفيقات) نسبية وتابعة للقناعة وللظروف الخاصة بكل رفيق ورفيقة. وعموما فأن الوضع(العلاقاتي) لم يكن مختلفا كثيرا عن وضعه بين باقي العراقيين. لكن هذا الامر ينطبق بصورة اقل بين القيادات العليا، التي كانت تسمح لنفسها بسلوكيات اكثر حرة و(تقدمية). ومن الامثلة المعروفة، نموذج (الرفيق فخري كريم زنكنه) عندما كان في سنوات الثمانينات مسؤولا عن منظمة بيروت للحزب الشيوعي العراقي، وتحت سلطته آلاف الرفاق والرفيقات الهاربين والمتجمعين هناك. غالبية الشيوعيين يتداولون لحد الآن تلك الاساطير التي تحكى عن (المغامرات العجيبة) لهذا القيادي الذي كان يمتلك القدرة على اصدار احد القرارين النقيضين المصيريين بحق أي رفيق ورفيقة: اما ارساله الى شمال العراق للقتال ضد السلطة، او اعطائه زمالة ومنحة للدراسة في دولة اشتراكية! ويقال ان رفيقنا العزيز قد استثمر سلطته الجبارة هذه الى اقصى الحدود (خصوصا مع الرفيقات)، حتى اطلق عليه لقب(دون جوان الحزب)!
لكن يبقى ان النقد الذي يمكن ان يوجه الى الشيوعيين بخصوص (قضية المرأة) انهم كما في جميع مواقفهم، تناسوا تماما خصوصية المجتمع العراقي، واعتبروه بصورة حرفية وساذجة مطابقا للمجتمعات الاوربية! رغم انه حتى في المجتمعات الاوربية وفي امريكا، ثمة اصوات وتيارات عديدة حتى بين انصار الحركة النسوية، بدأت تراجع وتنتقد الخطاب المساوتي المتطرف. فبحجة الدعوة الى المساوات يتم قتل كل الخصوصيات الانثوية البيوليجية والطبيعية للمرأة، واجبارها بالنهاية ان تسلك سلوك الرجل من ناحية ترك البيت والعمل والثياب والعلاقات والحرية الجنسية. والاتعس في هذا، ان على المرأة بنفس الوقت، ان تحمل وتنجب وان تبقى جميلة ورشيقة ومثيرة، أي ان تبقى انثى وخصوصا في الحب وفي الفراش. يعني ان تبقى انثى في البيت، ولكنها يجب ان تنمسخ الى رجل خارج البيت.
ومن افضع نتائج هذا الوضع الاجتماعي المشوه، هو(تحطيم العائلة)، وانتشار الطلاق بصورة تبلغ احيانا اكثر من نصف حالات الزواج، وما يعنى هذا من معانات غالبية الاطفال من الحرمان من الاب، بالاضافة الى الحرمان من الام التي تلهث كل النهار في عملها المضنك والقاسي وتحت التهديد الدائم بشبح البطالة. ثم اضيف الى هذا عامل تدميري آخر، حيث لجأت بعض الدول الغربية ولأول مرة في تاريخ البشرية الى تشريع الزواج بين المثليين واعتبار العلاقة اللواطية والسحاقية (حالة زوجية عائلية) بل يحق لهم حتى تبني الاطفال !!
ما دام المرض والموت يهددان الانسان، فأنه يبقى بحاجة الى الله!
ارجو ان لايفهم من كلامي هذا، بأني متدين ومن انصار الاحزاب الدينية. في الحقيقة اني حتى الآن لم انتم الى أي دين، رغم اعتزازي بالاسلام لانه اولا دين طفولتي واهلي، ثم انه خصوصا دين شعبي. لكني من ناحية القناعة الروحية، فاني افضل ان اطلق على نفسي صفة(روحاني انساني) بدلا من (متدين)! وروحانيتي انسانية، بمعنى اني اؤمن بالقوى الروحية والالهية من دون الاعتماد على أي دين او عقيدة معينة. ايماني منفتح على جميع العقائد الروحانية مثل العرفانية(الغنوصية) الاسلامية والمسيحية، كذلك البوذية والهندوسية. نعم ان حياتي في اوربا جعلتني اتخلص من(عقدة الخواجة) واحتقار الروحانيات وكل ما يتعلق بالذات الوطنية، التي تعلمتها من الشيوعيين والحداثيين في بلادي. ادركت عن قرب ان الانسان الغربي بكل هيمنته الثقافية والعلمية وبكل شعوره بعظمته السياسية والعسكرية، فأنه سرعان يتناسى كل هذه الامتيازات ويستحيل الى انسان بسيط حائر ورقيق امام هذا السؤال الابدي:
ـ كيف يمكن ان استمر في الحياة واجنب نفس واحبائي مخاطر المرض والحوادث والموت!
فأنا الذي بذلت كل جهدي لأقناع جاري وصديقي السويسري الطيب(ميشيل) ان يلجأ الى الدين والكنيسة ليخفف من يأسه وآلامه وفقدانه لأي رغبة بالحياة، بعد مرض زوجته. رغم اني شخصيا بعيد عن المسيحية الرسمية، لكني اعتقد انها مناسبة لصديقي لأنها ديانة طفولته واهله ومجتمعه.
نعم ان الانسان الغربي مهما ادعى وعظم واختلف يبقى انسان مثل جميع البشر، ما دام لم يكتشف سر الحياة واكسير الخلود. انه لن يكف عن اطلاق تلك الصرخة السرمدية التي اطلقها قبله جدنا (كلكامش) وهو يشاهد صديقه انكيدو يرحل الى عالم الموتى المجهول:
ـ ايه ايتها للحياة، لماذا انت من طين؟
الانسان الغربي الحداثي العلمي العلماني المادي التقدمي، مهما ابتعد فأنه في اعماقه يظل يردد ذات الفكرة التي رددها من قبله الامام علي:
(( اعمل لدنياك وكأن تعيش ابدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا))!
وهذا القول هو تعبير رائع يجمع بين العلمانية (الدنيا)، والدين (الآخرة)!
نعم ان المطلوب هو المشروع (الواقعي الوسطي) الذي يجمع بين الثنائيات المتكاملة للأنسانية، والتي يستحيل الفصل بين طرفيها: الدين والدنيا، البدن والروح، الفرد والمجتمع، المادي والغيبي، الاصالة والحداثة، الماضي والمستقبل.... وأي خلل في هذه الثنائية او تجاهل لطرف منها، يؤدي الى خلل المجتمع وتطرف العقيدة وانحراف الدولة، ومن ثم الكوارث.. وهذا الذي حاصل لبلادنا منذ اكثر من قرن وحتى ألآن!!











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah