الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لو كانت الطرق واضحة

حمزة الحسن

2009 / 1 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ماذا يمكن أن افعل ايها المسلمون؟
لست أعرف من أكون.
لست مسيحيا ولا يهوديا،
ولست مسلما ولا مجوسيا.
إنني لا أنتمي الى الغرب ولا الى الشرق،
لست من اليابسة ولا من البحر.

" جلال الدين الرومي، شاعر صوفي ـ1207 ـ1273"

ماذا يريد جلال الدين الرومي أن يقول في هذه الاسئلة؟ لمن يلقي بها؟ وهل يبحث عن اجوبة؟ وما نوع الاجوبة على هذا النوع من الاسئلة؟ اغلب الظن ان الرومي الشاعر الصوفي يسخر. لكن يسخر من اي شيء أو وضع؟

قد يكون بهذه الاسئلة يعرف نفسه على انه خارج كل تصنيف. وربما ما دمنا في حقل الاحتمال الذي لا يغلق قد يكون الرومي في لحظة عجز. لكن عجز عن اي شيء أو حالة؟ هل هو عجز في تحديد الهوية؟ وما نوعها؟ هل يكون هذا العجز المفترض هو قوة الاصالة حين تكون خلقا وابداعا؟ ام هو قوة العجز في مواجهة زمانه؟ والى اين تقود هذه الاسئلة ـ اسئلة الاستقصاء؟

اذا اخذنا بتفسير موريس بلانشو، فإن الاسئلة الكبرى هي محاكمة للزمان وبحث في الجذور، وكل بحث في الجذور هو اسئتصال للجاهز والمعد والمسبق. جلال الدين الرومي هنا لا يطرح سؤالا على الزمان ولا على أحد، لأن الصوفي خارجه، كما انه لا يطرحه على " أحد" لأن أحد الرومي يختلف عن كل" احد" آخر موجود في العادي واليومي والمألوف.

اذن على من يطرح هذه الاسئلة؟ على نفسه، ربما. لكن اذا كان" يجهل" أناه الجاهزة، الدينية والعامة، هويته المسبقة ومكانه في الغرب أم في الشرق، على البحر أم في اليابسة، فهل هذا يعني انه يجهل ذاته الخاصة؟

جلال الدين الرومي يعترف ـ قد تكون هذه مغالطة لأن الاعتراف يأتي، تقليديا من الاجوبة ـ بأنه اذا كان يجهل هويته العامة ومكانه العام المعد له، لكنه لا يجهل من يكون.

علاقته مع هويته الجاهزة علاقة غريب بغريب، وعلاقته مع هويته المنتجة ابداعيا هي علاقة صداقة: علاقة متعة كعلاقة المنتج بالنص.


هو لا يريد أن يكون ما أريد له على مستوى الزمان وعلى مستوى المكان، ولكنه يريد أن يكون كما يريد، اي ان الهوية خلق، كما ان الاصالة خلق. الرومي حين ينفي ان" يعرف" من يكون، فهو ينفي المعرفة الجاهزة، ينفي معرفة" جلال الدين الرومي" الصيغة الاجتماعية الجاهزة، ولكنه " يعرف" من يكون جلال الدين الرومي صاحب سؤال الاستقصاء والاستئصال: كلاهما بحث في الجذور ولكنها ليست جذور الهوية العامة، الأنا المسبقة، الايمان المسبق، المكان المعد.انه سؤال المنشق والهامشي لكنه المتعدد، الطيف، المتكاثر، غير المنسجم، في مواجهة الواحد، واللون، والمعلب.


هل الانسان موجود في الهوية أم في الشعور والفعل؟ بمعنى أدق: هل هو موجود في الصفات أم في الفعل؟ في المكتسب أم في الصياغة؟ في الجواب المسبق المحدد للهوية والانا والايمان وكل الشروط الاخرى أم في السؤال؟ بتلخيص سريع: هل الانسان في" الصفات" أم في الافعال؟ وهل يحق للفعل الانساني أن يتمرد على شروط الصفات الجاهزة؟ على الوراثة والشرع والمعيار؟

هنا تكمن أصالة وشجاعة جلال الدين الرومي وقوة استبصاراته: اذا كان السؤال كما قلنا هو استئصال، فهو خلق. لكن" استئصال" ماذا؟ الاسئلة الكبرى مفتوحة ولا تحتمل اجابة محددة ولكنا سنفترض ان الاستئصال هنا ليس قطيعة جلال الدين الرومي مع العالم والحياة والبشر، ولكنه قطيعة مع الصفات المفروضة عليه، مع الهوية الجاهزة، مع الايمان المسبق، ومع المكان المسبق والصفات المعطاة ـ وهي قطعا ليست صفاته.

اغلب الظن ـ وانا استعمل هنا جملا احتمالية لأن اللغة ليست يقينية بل احتمالية ـ ان جلال الدين الرومي الصوفي في الوقت الذي يرفع من قيمة قلقه الوجودي، لكنه يرفع ايضا من قدر الانسان: الانسان أكبر من أن يختزل في صفات ويقفل عليه في خزانة ويحبس في وثيقة مسبقة قبل الولادة. في كل لحظة يعيش الانسان الاف المشاعر والاحاسيس والتحولات والعواطف والاقتراحات النابعة من الاعماق بحيث يكاد هو، في لحظة ما، لا يتعرف على نفسه، فكيف " يعتقل" في صفات وأحيانا في خاصية واحدة و"يحفظ" في ملف الذاكرة العامة ولا يستدعى ـ بتعبير مصطفى حجازي في: سايكولوجيا الانسان المقموع ـ الا حين يتم" الضرب" على هذا الرمز الذي أعطي له أو تلك الخاصية التي" حددت" ملامحه في الذاكرة العامة وهي ذاكرة ارشيفية تقوم، كما يقول جاك ديريدا، بوظيفة الالهة: في حفظ افعال واقوال الناس ومحاسبتهم عليها ولكن ليس في الاخرة ولكن في الحياة: اي ان الانسان، حسب الذاكرة العامة الارشيفية، يعاقب مرتين: واحدة في الدنيا واخرى في الاخرى، والمشكلة بتعبير لويس بورخيس الطريف، هو انهم سينادونني في الاخرة باسمي نفسه" بورخيس" وهذا هو العقاب الابدي ـ كلمة بورخيس تعني برجوازي في اللغة الاسبانية.

الرومي هنا يلغي الذاكرة العامة ويبدو أول الامر لا وجود لذاكرة فردية، ولكن هذه من طبيعة هذه الاسئلة المراوغة والماكرة والعميقة والاستئصالية: هو على العكس. في الوقت الذي ينفي وجوده السابق والجاهز، لكنه يؤكد حضوره كهوية خاصة خلقت من خلال معاناة السؤال والبحث والتقصي.

بهذا المعنى خلق اصالته على الضد من وراثة العائلة أو وراثة التاريخ أو المؤسسة التي يتعكز عليها الاخرون. الاصالة كالنص والمتعة والهوية خلق وليست علبة جاهزة.

تبدو هذه الاسئلة محرضة من لحظة موت لأن الموت هو نفسه أكبر الاسئلة ولكن في مواجهة الموت ايضا تتكشف لنا ضراوة وجمال وكثافة الحياة وليس هناك ما يؤكد ذلك الا اذا خلعنا مشاعرنا على هذه الاسئلة، وربما ـ مرة اخرى اللغة احتمال وليست يقينا جاهزا ـ من مشهد شديد الكثافة والبهاء والحزن في رواية" لمن تقرع الاجراس" كان موريس بلانشو قد توقف عنده ايضا لقسوته أولا ولطبيعة اللغة المستعملة ثانيا ـ روبرت جاردن في لحظة عصيبة يردد كلمة" الآن" يقول في نفسه" الان، يا لها من كلمة سخيفة للتعبير عن الم بأكمله وعن حياتك بكاملها".

روربت جاردن في اللحظة التي يكتشف فيها ان الحياة تتلخص في لحظة عاصفة بكلمة واحدة" الآن" يشعر كم أضاع من الاسئلة، لكن جلال الدين الرومي في لحظة اشراق وسطوع وانخطاف وولادة وتوهج يشعر، في السؤال، كم هي سخيفة ايضا الاجوبة الضائعة. لكن متى نحتاج للسؤال؟

ابن عربي، قبل موريس بلانشو وكتاب الحداثة وما بعدها، أجاب عن هذا السؤال بسؤال: لو كانت الطرق واضحة، فما حاجتنا الى الحكمة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاستخبارات الأميركية ترجح أن بوتين لم يأمر بقتل المعارض ألي


.. طلاب أميركيون يمنعون الشرطة من الاقتراب من زملائهم أثناء صلا




.. الجيش الإسرائيلي ينشر فيديو لإنشاء رصيف بحري في قطاع غزة


.. بايدن يشغل الساحة وحده وترمب عالق في قاعة المحكمة




.. حماس: قادة الحركة والجهاد والجبهة الشعبية يؤكدون ضرورة التوص