الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة في الإسلام فكرة أرضية

عبدالحكيم الفيتوري

2009 / 1 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الدولة في الإسلام فكرة أرضية

لا يخفى أن ثمة خلط وألتباس في الفكر الإسلامي جملة والفكر السياسي خصوصا بين الإسلام المنزل والإسلام المؤول، وإسلام النص وإسلام التاريخ، مما حال دون التمييز بين مستويات الوحي الدلالية،فهناك مستوى معياري لا يتأثر ببعدي الزمان والمكان (التاريخ والجغرافية)، وثمة مستوى يتأثر ببعدي الزمان والمكان باعتبار السياق (=التاريخي) والمساق( =الثقافي والاجتماعي والسياسي) .

ولعل نظرة فاحصة في مصنفات السلف وكتابات المحدثين في الفكر السياسي الإسلامي تكشف لنا عن مدى هذا الخلط والالتباس بين تلك القيم والمفاهيم والمصطلحات، وعدم الاعتماد على اعتبار السياق والمساق وبعدي الزمان والمكان في تنظيرهم للفكر السياسي .

فمثلا فكرة الدولة في كتب القدماء أمثال الماوردي، والفراء، الجويني، وابن جماعة، وابن تيمية. كذلك المحدثين كالبنا، والمودودي ،وقطب غيرهم من الذين بنوا افكارهم على مصنفات السلف دون نظر إلى مستويات الوحي الدلالية، وتمييز بين دائرة الاسلام المنزل ودائرة الاسلام المؤول، واعتبار السياق والمساق، حيث جعل هؤلاء فكرة الدولة ونمط الخلافة فكرة سماوية مرتبطة بالدين مباشرة وليست فكرة بشرية في هياكلها وإنماطها وإدارتها، لذلك عدت في بعض تلك الكتابات من معاقد الولاء والبراء، ومن ثم شخصنة الخلافة في شخص الخليفة والإمام، كما قال الماوردي في الأحكام السلطانية:( الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به).(الاحكام السلطانية) كذلك قال الجويني في كتابه غياث الأمم بأنها: ( رياسة تامة، وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا).(غياث الأمم) وبذات المفاهيم نادى قادة الحركة الإسلامية المعاصرة في مصر وغيرها، ولعل الدافع الاساسي لقيام حسن البنا بتأسيس جماعته كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بسقوط الخلافة التركية، ومن هنا كانت مناداته بإعادة الخلافة وأن ذلك ركنا من أركان الإسلام.يقول الاستاذ البنا:هذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد، وقديما قال الخليفة الثالث رضي الله عنه:إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحكم عروة من عرى الإسلام. والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع، فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء.(رسالة المؤتمر الخامس)

ولكن إذ ما رجعلنا إلى القرآن الكريم وتحاكمنا إلى قيمه وأعرافه القيمية حسب أنساقه المعرفية لأتضح لنا بجلاء أن فكرة الدولة بوظائفها وهياكلها وأنماطها فكرة بشرية أرضية، حيث يناط بهذه الدولة سلطة إدارة شؤون الناس في الشأن الخاص والعام، وتنفيذ قيم الرسالة السماوية في الاخلاق والقانون، كقيمة الحياة، والكرامة الانسانية، والحريات، والعدل، والقسط، والمعروف، والتعاون، والبر، والشورى. مع الاخذ في الاعتبار التنوع والخصوصية العرقية والملية والمذهبية (...فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين)

واللافت للنظر أن فكرة الدولة بوظائفها وأشكالها وأنماطها لم ترد في القرآن الكريم البتة، وإنما جاءت مفردة الدولة في موضع واحد وذلك في سورة الحشر( كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم ) وهي تشير إلى معنى التداول وعدم الاحتكار، حيث جاءت في سياق النهى عن احتكار الاغنياء لأموال(الغنائم والفيء) وإرشاد الناس إلى تداول الأموال بالقسط بين الاغنياء والفقراء على حد سواء. وهنا لطيفة منهجية ينبغي الاشارة إليها في فهم هذه الآية الكريمة، وهي لابد من مراعاة السياق والمساق التي نزلت في إطاره. فلا يخفى أن آيات سورة الحشر تتحدث عن الغنيمة، والغنيمة في سياقها التاريخي ومساقها الثقافي والاجتماعي السياسي كانت من نتاج تلك البيئة في اطار ظرفي الزمان والمكان(=التاريخ والجغرافية) فالآية لم تكن من الآيات المعيارية التي لا تتأثر بظرفي الزمان والمكان، ولهذا لم يجد الخليفة الثاني عمر حرجا في ولايته وهو حديث عهد بزمن التنزيل أن يعيد النظر في أحكام الغنائم(= في سواد العراق). وأحسب أننا بهذه المنهجية العمرية أو القصدية أو القراءة السهمية يمكن لنا تصنيف أحكام الغنائم ضمن الآيات التي فارقها الواقع، وذلك بتأثرها بظرفي الزمان والمكان، ومن ثم تحولها من انشائية بالنسبة للمتلقي لها زمان التنزيل ومرحلة التأسيس، إلى اخبارية زمان الاستقرار والانتشار.

وبقراءة سهمية لمحطات فكرة الدولة وتحول أنماط حكمها وهياكلها وتغير أشكالها عبر تاريخ الإسلام تثبت بشرية فكرة الدولة. فقد كانت في بداية أمرها دولة اتحادية بين مجموعة من القبائل، ثم تحولت إلى نظام خلافة شورية، ثم نظام ملك كسروي(=ملك عاض،وجبري)،ثم كانت الإمارات والسلطنات داخل النظام الكسروي وهكذا دواليك، وهذا يعني أن فكرة الدولة بوظائفها وإنماط حكمها تتأثر بالبيئات والظروف والثقافات السائدة، فهي فكرة أشبه حالا بالكائن العضوي ينمو ويتطور حسب الثقافات والفسلفات الفكرية الرائجة عند الناس.ولعل صورة تحول فكرة الدولة في الغرب نموذجا حيا لحيوية فكرة الدولة وأنها بشرية صرفة تتأثر بالكسب الفكري والفلسفي والثقافي الانساني.

وهكذا فإن الدين كمنظومة أخلاقية وقانونية حاضر في فكرة الدولة لضبط شؤون الناس في الشأن الخاص والعام، أما من ناحية شكل الدولة واسمها،ووظائفها وإنماط حكمها،وكيفية تعيين مسؤوليها ومحاسبتهم وإقالتهم فمرد ذلك إلى ثقافة الناس وما انتجوه من قيم فلسفية وفكرية ووسائل دنيوية، وهذا من باب( أنتم أعلم بشؤون دنياكم). لأن مجال قيم الدين وفكرة الدولة والسياسة كلا منهما ينتمي إلى حقل معرفي مختلف عن الأخر، فقيم الدين كدين قد كملت(اليوم اكملت لكم دينكم)، ولكنها لم تشمل كل مناشط الحياة بعبارة أخرى(الدين كامل وليس بشامل)، لذلك فإن فكرة الدولة ومسارب السياسة متجددة متطورة في شكلها ومضمونها .ومن هنا فإن المناداة بدولة دينية، إسلامية أو غير ذلك، هو من قبيل التجاوز والمغالطة، ناهيك عن المناداة والاصرار بإعادة نمط الخلافة ومهام الدولة التاريخية في هذا العصر.كما أكد على ذلك النسفي في القديم بقوله أن الخلافة: نيابة عن الرسول في إقامة الدين؛ بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة. وكرر القرضاوي ذات المعاني ولكن بعبارة حديثة حيث قال:ومن تصور قيام المجتمع المسلم-بكل مقوماته وكل خصائصه-بدون حكم إسلامي يوجهه ويرعاه ويحرسه، فقد أخطأ خطأين كبيرين... وقال في موضع أخر:حاجة الإسلام إلى دولة.ثم إن الاسلام-لو لم تجئ نصوصه المباشرة-بإيجاب إقامة دولة له، لكانت حاجته إلى دولة لا ريب فيها .فهو يحتاج إلى دولة وحكم لأكثر من سبب وأكثر من موجب.(الحل الاسلامي فريضة وضرورة)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah