الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فكرة الدولة في تجربة النبي

عبدالحكيم الفيتوري

2009 / 2 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الناظر في ثنايا مصنفات السيرة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم- خاصة التجربة السياسية وفكرة الدولة الدستورية من خلال وثيقة المدينة، يصل إلى أن تجربة النبي في السياسة والدستور والقانون، تعد من أرقى ما توصل إليه الجهد البشري في إطار بعدي الزمان والمكان من خلال تطبيق قيم الرسالة العدلية والأخلاقية. كذلك تشير وقائع السيرة السياسية النبوية بأن هنالك حدود فاصلة بين الديني والمدني، وبين التشريعي والقيادي من فعل النبي، حيث اجتمع في شخص النبي البعدين معا( البعد الرسالي- والبعد البشري )=(الرسول،النبي،محمد)

ومن هنا اقتضت الضرورة المنهجية شرح البعد الرسالي والبشري، وذلك من خلال تمييز ما صدر عنه صلى الله عليه سلم إلى سنة وأحاديث، بمعنى أن السنة ( = التشريعية التي تفيد الوجوب)،والأحاديث(= أفعاله وأقواله القيادية والجبلية التي تفيد المباح).

فالسنة التشريعية؛ هي المبينة والمفصلة والشارحة للقرآن الكريم .أما الأحاديث القيادية: كتعيين القضاة، وتنظيم الجيوش، ووضع الخطط الحربية، وتوزيع الاقطاعات في القرى والمدن، وإبرام المعاهدات، وأحكام التعزير المنوطة بتوفير آمن النظام واستراتيجياته، وتحقيق سلامة وأمن المجتمع في عقائده ومعاشه وأهدافه وغير ذلك.والأحاديث الجبلية: ما كان سبيلها التجارب البشرية، والأعراف والعادات، مثل مجالات الطب، والفلك، والأكل، والشرب، والمشي، والنوم وهيئته وغير ذلك .

فلا شك أن الأحاديث القيادية والجبلية في هذه المجالات تتأثر بعاملي الزمان والمكان لصدورهما عنه صلى الله عليه وسلم بتصرفه البشري والتي هي في دائرة المباح(= قل إنما أنا بشر مثلكم) وليس بتصرفه التشريعي (=يوحى إلي).

ومن هنا فإن عملية فرز السنة من الأحاديث وإعادة تصنيفها على أساس (تشريعي)، (قيادي، جبلي) ثم وضع المحددات والضوابط اللازمة، وإعادة النظر فيما بني عليها عبر تاريخ المسلمين الفكري والفقهي والسياسي من أصول وقواعد واجماعات، ومن ثم تحديد الواجب والمباح منها وما بنى عليها، بحيث يتسنى للعقل المسلم المعاصر الإضافة الجديدة للإسلام التاريخي(=اجتهادات العلماء في فهم الإسلام عبر التاريخ)من اجتهادات وإبداعات حسب ضوابط إسلام النص(=الكتاب والسنة التشريعية) مع مراعاة اختلاف الزمان والمكان ليستعيد قدراته العقلية والذهنية التي تؤهله للولوج إلى ساحات النهوض والإقلاع الحضاري لإعادة أخراج الآمة الرائدة من جديدة( كنتم خير أمة أخرجت للناس).

ولا يخفى أن جملة سيرة النبي خاصة السياسية منها في الدولة والدستور والقانون تصنف ضمن الاحاديث القيادية التي في دائرة المباح، وهذه التجربة النبوية تشير وقائعها بأنها كانت بمثابة استجابة النبي لواقعه، ومستجدات زمانه، ومعضلاته السياسية والقانونية والاجتماعية، وفق قيم القرآن ومقاصده. وهذا هو مقتضى ومعنى التأسي بالتجربة النبوية، إن يتعاطى المسلم مع زمانه ومستجداته بعقل مقاصدي يتجادل مع واقعه بقيم القرآن وكلياته المقاصدية، وليست إعادة أشكال وإنماط التجربة النبوية كما يحاول العقل القياسي أن يفعل ذلك مع واقع متباين تماما لما كان عليه عهد النبوة أو عهد الخلفاء من بعده.

ويلاحظ المدقق بأن تجربة الرسول الكريم السياسية في المدينة، ووقائعها من كتابة الدستور،وترسيم الحدود، ونشر القانون، وبسط الحقوق، وبناء نواة مؤسسات المجتمع، بأنها لم تكن مجرد قيام بواجب قد أعد سلفا، وإنما المزاوجة بين قيم الوحي المطلقة والواقع المتجدد، وبين الخبرة الشخصية والخبرات الإنسانية السائدة. وبهذه المزاوجة والمفاعلة يكمن الفهم الصحيح للرسالة الخاتمة وقيمها العدلية الانسانية، حيث تمهد في الأصول بأن مناط تحمل الشريعة على مرتبتين لا تغني إحداهما عن الأخرى، وهما:مرتبة الفهم، ومرتبة التطبيق. ويراد بمرتبة الفهم؛ فهم دلالات خطاب الوحي من حيث مقاصده وأحكامه وكلياته. وأما مرتبة التطبيق أو بتعبير الشاطبي تحقيق المناط، فهي عملية إيقاع دلالات النصوص ومرامي القواعد على واقع الفعل البشري وضبط حراكه الاجتماعي والسياسي والديني، بحيث تتم عملية توصيف الواقع وتكييفه بدلالات مقاصد الوحي، فيصبح الواقع والحراك البشري جاريا وفق مراد الله، فتكون الهداية والأجر والتثبيت للذين جمعوا بين الفهم والتطبيق، ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما، ولهديناهم صراطا مستقيما).

وهكذا سارت التجربة النبوية تتجادل مع واقعها بقيم القرآن ومقاصده دون أن تفرض على الواقع شيئا جاهزا لا يقبل الأخذ والعطاء، فقد هادن رسول الله وحارب، ونازل وعاهد، وقرب وباعد، وعلم وربى، كل ذلك يشير إلى حالة نمو واضطراد وتكامل بين قيم القرآن ومقاصده والواقع وتغيراته.

ولا يخفى أن هذا يؤكد على أهمية وضرورة الاعتناء بأصلي تحمل الوحي؛ فهما وتنزيلا، بعقل مقاصدي سهمي لا قياسي إحالي من أجل رفع قيم القرآن إلى مكانتها الاستدلالية السامقة، وأغناء وأثراء تجربة الإسلام السياسية بالاستفادة من تجارب الإنسانية (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).

وهكذا كان فعل النبي السياسي بقيم الوحي حيث تفاعل في صياغة تلك الأمة الخيرية التي ارتفعت بقيم الوحي عن إكراهات العرف، وإيحاءات البيئة، وتداعيات العصبية، والنزعات العرقية، فكانت ( كنتم خير أمة أخرجت للناس).ولكن لما استجابت الأمة لتلك الإكراهات والإيحاءات العرفية والجاهلية بعد وفاة النبي كان الإرتداد بالمعني المعرفي والأخلاقي وليس بالمعني العقدي، وذلك في تجربة الملك العاض والجبري وولاية المتغلب. وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح من فوارق جوهرية بين تجربة النبي صلى الله عليه وسلم السياسية وتعاطيه مع قيم الوحي الكلية وتجادله مع واقعه من خلال وقائع وبنود(وثيقة المدينة)الدستورية والقانونية والحقوقية، وبين تجربة منظري الأحكام السلطانية في تعاطيهم مع واقعهم من خلال أسلمة الأحكام السلطانية الهرقلية والكسروية .لأجل هذا نجد أن تجربة النبي السياسية قد كرست ضرورة التجادل بين قيم الوحي والواقع بعقل مقاصدي سهمي، وذلك من خلال بنود الصحيفة التي أكدت على تقرير الأبعاد الدستورية والقانونية والأخلاقية لمن رغب في العيش تحت ظل هذا الدستور.

وهكذا تبدو التجربة النبوية الرائدة واضحة المعالم في المنهج والسلوك السياسي، من حيث بشرية المنزع وأرضية الأنماط والوسائل. ولا نتردد في وصفها أنها بمثابة القانون الأساسي للتربية المنهجية والسياسية، والتي ينبغي أن يمر بها المجتمع البدوي الأمي من حالة الانفراد والتقاتل إلى حالة الاجتماع والمدنية، ولعل ما يزكي هذه الصفة قيام النبي بتسمية عاصمته بالمدينة بدلا من يثرب الاسم البدوي الأمي حيث حكم القوة والسلاح والعصبية ( أبدعوة الجاهلية وأنا بين أظهركم ..).










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - دولة وعصر ذهبي ولكن في الخيال
سلام السوسنة ( 2009 / 1 / 31 - 21:17 )
سيدي
السلام عليكم
لا ادري عن اي دولة ونظام اقامه الرسول وعنه تتحدثون.
اي نظام ودستور تركه الرسول بعد تجربته؟
اهو النظام السياسي لانتقال السلطة السلمي؟
هل تأمل في ان ننسى الصراع الدموي اكرر الدموي بين ورثة السلطة ؟ بين المهاجرين والانصار...بين هاشم وامية...بين زوجة الرسول وابن عمه.. هل كان ضحايا هذا الصراع بالالاف ام بعشرات الالاف؟ وكل هذا في غياب ابسط قاعدة لانتقال السلطة واختيار الحاكم بغير حد السيف.

اما عن النظام الاقتصادي فاذكر لي كيف تم توزيع الغنائم ارتجالا من الخليفة عمر ولا اذكرك بالخلاف على وراثة النبي من فدك بين فاطمة وابو بكر... ولا عن اعوام الرمادة
اذكر لي قاعدة اقتصادية واحدة تسمح بما يشبه اقتصاد الدولة وتخرج عن نطاق توزيع الاسلاب بعد الغزو.

كفاكم تصويرا لمجتمع مثالي لم يوجد الا في خيالكم وحديث عن رسول وصحابة كانوا من الملائكة الابرار .
لقد كانوا بشرا تصارعوا على السلطة والمال...وعاشوا في مجتمع رعوي لم يكن يعرف معنى للدولة المركزية.
تحية احترام لشخصكم الكريم


2 - محاكم التفتيش ليست عنا ببعيد !
عبدالحكيم ( 2009 / 1 / 31 - 21:48 )
المقال يقرر أن فكرة الدولة فكرة أرضية وليست سماوية مقدسة، يعني عدم المناداة بدولة إسلامية أو مسيحية أو يهوية ، ففكر الدولة في جملتها منتج بشري ولا علاقة له بالسماء إلا من باب القيم والأخلاق والاعراف المتفق عليها بين الناس من عدل واحترام وحرية.ولعل تجربة الدولة المسيحية ومحاكم التفتيش لا تقل خطورة مما حدث في تاريخ الدولة الإسلامية في عهد الأموي أو العباسي أو التركي .
وشكرا


3 - وثيقة مدنية ديمقراطية علمانية
امال ( 2009 / 2 / 1 - 00:20 )
أثني على ما كتبه الاستاذ(ة) سلام السوسنة وأضيف على تعليق الاستاذ عبد الحكيم أن لو ُوجدت محاكم التفتيش والدولة الاسلامية الاولى وفتوحاتها وغزواتها لتعرضوا القائمين عليها إلى محاكم العدل الدولية في عصرنا الحاضر كمجرمي حرب .
الاستاذ عبد الحكيم : استوقفني ما كتبته ولفت نظري ما قام به النبي -وتعاطيه مع قيم الوحي الكلية وتجادله مع واقعه من خلال وقائع وبنود(وثيقة المدينة)الدستورية والقانونية والحقوقية، وبين تجربة منظري الأحكام السلطانية في تعاطيهم مع واقعهم من خلال أسلمة الأحكام السلطانية الهرقلية والكسروية - .
أنتم تعرفون أن لكم في رسولكم أسوة حسنة فبالله عليكم أن تعملوا على أسلمة الديمقراطية والحرية والعلمانية وحقوق الانسان والمرأة لنتماشى مع العصر والحضارة ونكون قد تخلصنا من مشاكلنا جميعها . ودمتم....


4 - No to states based on religion
Dr. Azzam Tamimi/Director of the Institute of Islamic Polit ( 2009 / 2 / 1 - 10:22 )
The idea of establishing Islamic states has proven to be a failure.The idea of an Islamic state is proved to be futile. I think that the best solution to have secular states where religion DOES NOT interfere in politics. There are many seculr states who proved to be more successful than the failing religious states. RELIGION REVEVER LAEDS TO PROGRESS. It is the other way rround. Religion proved to be a source of backwardness and defeatism

اخر الافلام

.. 154-Al-Baqarah


.. استقالة أول موظفة يهودية من إدارة بايدن -بسبب سياسة واشنطن م




.. المفكر د. يوسف زيدان: اجتماعاتنا في -تكوين- علنية وبيتم تصوي


.. المفكر د. يوسف زيدان: اتكلمنا عن أشكال التدين المغلوط .. وه




.. دار الإفتاء في طرابلس تدعو ل-قتال- القوات الروسية في البلاد