الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكرى وثبة كانون الثاني الخالدة عام 1948

موسى جعفر السماوي

2009 / 2 / 9
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إن المرحلة الممتدة بين عامي 1921ـ1933 تلك التي اعتلى فيها الملك فيصل الأول عرش العراق وقيادة النظام الملكي ـ الإقطاعي الرجعي الذي أسسه الاستعمار البريطاني من أتباعه تقديراً لموقفهم المعادي لثورة العشرين وتطوعهم في خدمته، ومن خلاله ربط العراق بمعاهدتين جائرتين في عام 1922 وعام 1930 كانتا في حقيقتهما صياغة نصوص تكرس الانتداب والاحتلال المباشر، فقد منحتا الاستعمار البريطاني شرعية وجوده العسكري في قاعدتي الحبانية والشعيبة وجعلتا من أرض العراق وسمائه ومياهه ممرات حرة للقوات البريطانية إضافة إلى حكم مباشر يديره المندوب السامي البريطاني يعاونه مستشارون سياسيون بريطانيون يشرفون على كل الوزارات، وإذا ما أضيفت للمعاهدتين اتفاقية النفط عام 1931 التي منحت شركة النفط البريطانية امتيازاً احتكرت به عمليات التنقيب والاستكشاف والاستخراج في كل أرض العراق مع التسويق واستلام الإيرادات، فقد تحقق للاستعمار البريطاني نفوذاً وسلطة عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية جعلت من النظام وحكوماته المتعاقبة أدوات طيعة لتنفيذ أوامر المندوب السامي ومستشاريه.
وعندما عرضت معاهدة 1930 على عصبة الأمم بوصفها إلغاء للانتداب وتحقيقاً للاستقلال الوطني كشرط لقبول العراق في عضوية العصبة كدولة مستقلة تعرضت بعد الاطلاع على نصوصها إلى انتقادات من ممثلي بعض الدول الأعضاء واعتبروها مجحفة لا تصلح أن تكون أساساً لعلاقة بين دولتين مستقلتين، وتلك كانت أسوأ مرحلة من الزمن الذي استغرقه حكم النظام الملكي ـ الإقطاعي، ففيها توطدت دعائم الاستعمار البريطاني.
إن معظم حكام ذلك النظام الفاسد كانوا غرباء لا روابط وطنية ولا أصول اجتماعية عراقية وكلهم تميزوا بموالاتهم للأجنبي الغاشم ودخلوا في سياق محموم وظفوا فيه كل كفاءتهم في خدمة وحراسة مصالح المستعمر سعياً وراء تحقيق حظوة لديه. فضيعوا الاستقلال الوطني وصادروا حريات الشعب وحقوقه واضطهدوه وقمعوا بالقوة نضالاته الوطنية المشروعة وطموحاته في غدٍ أفضل، وفرضوا عليه التخلف والحرمان والتهميش والمرض والفقر والأمية والتعذيب والسجن والفصل من العمل والوظيفة والدراسة والتصفية الجسدية.
وفي نفس السياق ترأس رئيس الوزراء "صالح جبر" وفداً من حكومته وسافر إلى بريطانيا والتقى بنظيره وفد الحكومة البريطانية في ميناء "بورتسموث" البريطاني برئاسة "بيفن" وأجريا محادثات شكلية حول نصوص أعدتها حكومة بريطانيا وتم التوقيع عليها باسم معاهدة "بورتسموث" أو معاهدة "جبر ـ بيفن".
لقد جوبهت المعاهدة باحتجاج الشعب وغضبه واعتبرها قيداً إضافياً يحكم ربط العراق بعجلة الاستعمار البريطاني فهب في مظاهرات جماهيرية صاخبة في بغداد وفي بعض المدن تطالب بسقوط المعاهدة والحكومة ومجيء حكومة وطنية تحقق إرادة الشعب بالحرية والاستقلال الوطني، ورغم الاعتقالات وأساليب القمع والإرهاب التي استخدمتها الحكومة ضد القوى الوطنية والديموقراطية والأحزاب السياسية والوطنية، فان زخم المظاهرات كان يتصاعد والإصرار كان على أشده تحدياً لتصريحات "صالح جبرٍ" التي أطلقها من لندن يهدد بها ويتوعد الذين عارضوا المعاهدة وقادوا مظاهرات الشعب، وعسكرت مفرزة من شرطة نظام الخيانة على منارة الجامع المطل على نهر دجلة بجوار جسر الشهداء ومن جهة الرصافة ونصبت عليها الرشاشات لمنع مظاهرة الكرخ من العبور والانضمام إلى مظاهرة الرصافة، وعندما بدأ المتظاهرون بالعبور أمطرتهم الرشاشات بوابل من الرصاص أدى إلى استشهاد عدد من المتظاهرين وجرح آخرين مما زاد في إصرار الجماهير على العبور وعبروا والتحقوا بمظاهرة صوب الرصافة الذي تقع فيها وتحديداً في منطقة "القشلة" و"الميدان" و"باب المعظم" كل دواوين الحكومة ودوائرها ومجلس النواب والكليات.
وقال محمد مهدي الجواهري ـ شاعر العرب الأكبر ـ في وصف معركة الجسر الخالدة:
مضى أمسِ يسحَب من خلفـه شباباً كزهر الربى العاطرِ
على الجسر يمحون عن شعبهم وتأريخـه فجرة الفاجـر
هـم الجمـراتُ دمـاً فائـراً يُسـعِّرُ فيض الدم الفاتـر
إلى الآن تلبس هذي الجمـو عُ من فضلهم حُلَّةَ الشـاكر
ولمـا أمـالوا خيام العتـاة بعاتٍ من العاصفِ العاصر
وكادت تطيح بأوتـادِهـا إلى "حيثُ" و"الأبد الداهـر"

عندما وجد الطغاة أنهم معزولون ومحاصرون وأن الشعب يقترب من الإطاحة بنظامهم لجأوا إلى المناورة فأعلنوا سقوط المعاهدة واستقالة الحكومة واستنجدوا بالسيد محمد الصدر وكلفوه بتأليف حكومة جديرة تحقق ما عجزت عنه أجهزة النظام، وقد نجحت في وقف المد الجماهيري الثوري للوثبة ودرء خطرها الذي أحاق بالنظام عندما أوهمت الشعب بأن الوثبة حققت مهامها بسقوط المعاهدة وحكومتها وأقنعته بالتزام الهدوء والانصراف إلى العمل. وكانت كارثة حالت دون تقدم الوثبة لتحقيق مهماتها كاملة وكانت تلك الحكومة كما أطلق عليها الشعب "حكومة تسكيتية" استرد في ظلها الطغاة أنفاسهم واستعادوا هيبة الفجور لحكمهم وأعدوه للانتقام، فاستغنوا عن "الحكومة التسكيتية" وأبدلوها بحكومة لها خبرة وشراسة في أساليب القمع والثأر من القوى الوطنية والديموقراطية لاسيما الحزب الشيوعي العراقي، فباشرت بارتكاب جريمة إعدام قادته الرفاق الخالدين فهد وحازم وصارم وساقت إلى المجلس العرفي العسكري مئات المناضلين وأصدرت ضدهم بمحاكمات صورية أحكاماً جائرة وزجت بهم في غياهب السجون.
وعلى امتداد عمر النظام الملكي ـ الإقطاعي الذي أطاحت به ثورة 14 تموز الخالدة عام 1958 ما أتت أي من حكوماته المتعاقبة إلا وسخرت كل امكانياتها لحرب عوان شرسة ضد الشعب لمنعه من معارضة الوجود الاستعماري ونفوذه المستشري في كل مفاصل حياة العراقيين.
ستون عاماً مرت على انطلاقة وثبة الشعب ورغم تقادم الزمن وتفاقم الأحداث التي أثقلت كاهل الشعب فإن ذكراها حية خالدة مستقرة في فكر مَنْ أسهم فيها ومن عاصرها، لقد أغنت تأريخ نضال الشعب بصفحة ناصعة في البطولة والتضحية وما أنجزته من أهداف وما فرضته من عزلة وحصار أوشكت بهما ان تقبر نظام الخيانة.
إن كل الأزمات وما نجم عنها من أوضاع سيئة طبعت حياة الشعب بالتخلف والبؤس والحرمان وكل العوامل التي فجرت الوثبة ما كانت أسوأ وما بلغت مآسيها مستوى ما عليه الشعب في الوضع الراهن إذا ما قورنت بـ:
ـ الاستقطاب العرقي والطائفي الذي وضع البلاد على شفى حرب أهلية أحبطها الشعب بوعيه
ـ وحكم متخلف قائم على أساس المحاصصة العرقية والطائفية والعشائرية لا يصلح أن يشكل قاعدة لقيام حكم دولة القانون والديموقراطية وحسب بل أسس لمساوئ مدمرة أدت إلى استفحال الإرهاب والجريمة مما أودى بحياة مئات الألوف من المواطنين الأبرياء.
ـ واستشراء الفساد المالي والإداري الذي أدى إلى تبديد وسرقة المال العام وسحق الكفاءة والنزاهة.
ـ وحكومة مؤلفة من كتل عرقية وطائفية ليس بينها قاسم مشترك حشرها سوء الظن وعدم الثقة في اختلاف دائم على الصغيرة والكبيرة وفي منافسة على النفوذ والسلطة والمنافع الذاتية شغلتها عن العراق ووحدة شعبه الوطنية.
ـ واحتلال امبريالي أمريكي دمر الاقتصاد الوطني الإنتاجي والخدمي وأقعده في الحضيض مما زاد في معدلات البطالة والتضخم النقدي وارتفاع الأسعار الجنوني واعتماد الشعب في غذائه وحاجاته على الاستيراد العشوائي غير الخاضع لمدى صلاحيته للاستهلاك البشري وبيئة ملوثة بأوبئة مختلفة يصعب بل يتعذر علاجها.
ولو كانت مثل هذه الأوضاع المزرية قائمة في ذلك الزمن أي زمن الوثبة الخالدة لفجرت ألف وثبة في إشراقة كل نهار.
عاش نضال الشعب من أجل بناء دولة القانون والديموقراطية القائمة على الحرية والعدالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكوفية توشح أعناق الطلاب خلال حراكهم ضد الحرب في قطاع غزة


.. النبض المغاربي: لماذا تتكرر في إسبانيا الإنذارات بشأن المنتج




.. على خلفية تعيينات الجيش.. بن غفير يدعو إلى إقالة غالانت | #م


.. ما هي سرايا الأشتر المدرجة على لوائح الإرهاب؟




.. القسام: مقاتلونا يخوضون اشتباكات مع الاحتلال في طولكرم بالضف