الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثقافة النافقة واللغة المنافقة

نادر قريط

2009 / 2 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إذا لم تكن مهندسا فلا تدخل مدرستي.
عبارة كُتبت على مدرسة أفلاطون في بستان "أكاديموس"

الهندسة آنذاك كانت تعني إدراك علاقات المنطق الرياضي وقوانين الطبيعة السائدة بلغة الأنتيكا، اليوم أصبحت خاضعة للغة التجريد والمعادلات التفاضلية والرياضيات العالية. فمن سمات الحداثة أنها أحدثت تحولا عميقا في اللغة. هذا ما إكتشفه فوكو في تغير لغة العلوم الطبيعية بين حقب الكلاسيك والنهضة والحداثة، وبصورة أقل في نصوص الأدب والشعر .. وهذا الأمر يمكننا أن نرى إرهاصاته في اللغة العربية، وإن كنا مانزال بعيدين بسبب عدم وجود أرضية معرفية خصبة تحتضن المصطلحات والدلالات اللغوية للحداثة..وهو أمر طبيعي لأن أي لغة هي سلسلة معرفية تراكمية تنحت نفسها في مصطلحات ودلالات جديدة، فعندما نقول مثلا: مملكة أردنية هاشمية، نكون قد ربطنا سلسلة معرفية لغوية مُدركة؟ قد تكون مستهجنة لياقوت الحموي، الذي يعرف أن الأردن مجرد نهر صغير في جنوب الشام، لكنها مُدركة جزئيا لمن لايعرف شيئا عن تأسيس الأردن على يد أسرة هاشمية، وهي غير مُدركة بالمطلق لمن يجهل موقع الأردن على الخارطة ولايعرف دلالة مملكة (نظام حكم دستوري أو مطلق يسود مجموعة بشرية، على رقعة جغرافية، تضبطها قوانين ومواثيق دولية..إلخ) أي أن اللغة لاتخضع للمفهوم الديني الساذج: عن علم آدم الأسماء؟ بل ترتبط بصيرورة منظومة معرفية لهذا فإن غياب الأطر الإجتماعية لها يزيد من إرتباك مفاهيم حداثية مثل: (دولة، دستور، ديمقراطية، مواطنة، حرية) لأنها مضادة لقانون الدم والعصبية والقبيلة التي فطمت على ثقافة (أمة، شريعة، طويل العمر، دهماء أو رعية، حلال وحرام) .. وربما نكون بحاجة لعلم جديد إسمه: هندسة اللغة، تفرضه دولنا على مناهج التعليم، غرضه تشذيب وتهذيب وأقلمة الموروث الكلامي مع قواعد العصر والحداثة، وأن تتجرأ الميديا على إنتقاد ركام الهذيان الميثولوجي المليئ بمفردات فاقدة للمعنى والجدوى والقيمة، والتي تتحكم بلغة الشارع وآداب المحادثة وضروب التلقين الببغائي ناهيك عن الأدعية الجديدة ذات النكهة الوهابية التي تحتاج ملفا خاصا (أو كيسا بلاستيكا للتقيؤ):

قبل أيام كتبت خطبة تأبينية في رثاء لغة الضاد، شكوت فيها أجواء مختنقة بجثث الكلام ونفاياته. وعدم قدرة اللغة على ممارسة وظيفتها كسلطة أخلاقية. وإستكمالا أود أن أعرج على النقاط التالية:

1ـ علينا أن نعترف مبدئيا بأننا أمة رواية شفهية لم تترسخ فيها الثقافة الكتابية وهذا يمكن تلمسه في إرتفاع نسبة الأمية، وضعف طباعة الكتب وتسويقها، وينطبق على الميديا الحديثة حيث أن نسبة مستخدمي الإنترنت لاتتجاوز 2% من السكان جلّهم يستخدمون الشبكة للإتصالات، والإيميل، والتوك، أو البحث في متاهة غوغل عن معلومات (فاقدة للسياق المعرفي) وبالتالي فاقدة للقيمة
2ـ عليه فإن الثقافة (إنتاج المعرفة) تبدو ضحلة متآكلة. وهنا يُطرح السؤال من يُنتج المعرفة في العالم العربي؟ إنهم برأيي قلة من المفكرين والمبدعين الذين يطبعون من أعمالهم بضعة آلاف من النسخ، (يوزعون نصفها هدايا للأحبة والأصدقاء) في حين يبقى سواد الشعب متعلقا (بأستار) التلفزيون.
3ـ والسؤال كيف تتكوّن المعرفة عند الأجيال؟ تلعب الكتب المدرسية الدور الرئيسي في تكوين البنية المعرفية للأجيال، يضاف لها ما يتلقاه الفرد في صيرورته وبيئته اللغوية (بيت، مهنة، ميديا، كتب..إلخ) وهنا تضطلع اللغة (بإعتبارها آلة الفكر ومخزن موروث الميثولوجيا والشعر ومنظومة القيم والحكمة ) دورا أساسيا في تحديد ملامح الشخصية التاريخية، وإطار الهوية.
4ـ ومن يساهم في إنتاج المعرفة في مستوياتها العليا ومن يقدم الإجابة عن تساؤلات الفكر والسياسة والإقتصاد والعلوم والبيئة؟ بالتأكيد غيرنا ..إذ ماتزال مساهمة العربية محدودة للغاية. فما نفعله ليس أكثر من ترجمة ما يُصاغ في الواقع من حقائق.. ما هي الحقيقة؟ هي ماتصنعه وتفرضه صيرورة الحياة من وقائع (أو الكذبة الحاذقة التي تفرضها عقول متفوقة مُدركة حسب تعبير غاسبر) أي أنها في بعدها الماهوي عبارة عن معلومات تتخلّق في أنساق معرفية لغوية، من هنا تولي الأمم أهمية كبرى للميديا ووسائل الإعلام والدعاية كأداة لترويج المعلومة..
5ـ ولو أخذنا شبكات الميديا لوجدنا أن التلفزة هي المصدر الأساسي لترويج المعلومة وهي تقوم بدور الحكواتي في الثقافة الشفهية والأخطر أنها تتجاوز السمع إلى لعبة بصرية خطيرة تشحن المخيّلة بالصور والرموز وتثير اللعاب البافلوفي وتوجه الرأي العام والسلوك وأنماط الإستهلاك، وهذا يمكن معرفته ببساطة حيث يصل عدد مشاهدي الجزيرة (مثلا) عشرات الملايين يوميا، بينما يبلغ عدد زوار أفضل مواقع الثقافة الجادة والرصينة، ألفا إلى خمسة آلاف شخص يوميا؟

وعلى العموم يمكن تشبيه مواقع الإنترنت بأندية أو حمامات عامة يرتادها عدد من الروّاد بدافع الفضول وتزجية الفراغ؟ أجل لتزجية الفراغ وإمتصاص الفائض الزمني الذي تنتجته الحياة الإستهلاكية والميل للحياة الفردية وممارسة لذة ومتعة إفتراضية تتحول بالتدريج إلى إدمان يصعب الإقلاع عنه؟ فمعظم كتاب النت أصبحوا من مدمني الكتابة الذين يمارسون لذة (فكرية؟) مع مجموعة من القراء ويتبادلون معهم الأدوار بسبب سهولة النشر.
إن الكتابة الإلكترونية، تساهم في خلق ثقافة إفتراضية تعكس حضارة إستهلاك متوترة تُفقد الإنسان شرطه كحيوان تاريخي نضج وتكوّن معرفيا على نار هادئة، وتخلق منه إنسانا لحظيا منفعلا، بسبب التوق والترقب المتوتر وإستهلاك اللحظة ثم رميها مع الفضلات وإنتظار لحظة قادمة تسكّن من توتره.. لهذا أعتقد أن الأدب والإبداع الفني والشعر هو الضحية الكبرى لعصر النت، إضافة إلى تحوّل المبدعين، إلى معلقين وباحثين عن نرجسيتهم بين القراء ومحركات البحث، وهذا يوقف تدريجيا فرصة نمّوهم المعرفي ويخصي طاقة الإبداع في ذواتهم.

لهذا أعيد ماسبق وكتبته قبل أيام: من الأفضل أن يلجأ الكتاب إلى تلحين مقالاتهم وكتبهم وإنشادها في المواقع الصوتية والفضائيات بمرافقة الدفوف وصنجات الراقصات. وإذ لا أمل لإحياء هذه السلطة الأخلاقية في ثقافتنا على المدى المنظور. أقترح تخفيف هذا الضجيج رحمة بالنيام، فسوق الكتابة مكتظ بعربات البضائع الكاسدة ومقالات العلاكين. وإن تنصروا الجزيرة تنصركم وتثبت أقدامكم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - Just a question!
Talal Alrubaie ( 2009 / 2 / 10 - 02:51 )

Dear Sir
Do not you think also that internet, certainly has its own disadvantages, heps in the dissemination and democratization of knowledge and its access to the most remote areas of the world? Knowledge, through internet, becomes much easier to obtain and less costly. This certainly does not negate the necessity of serious reflections in any thing one writes whether in internet or a periodical or a book.
Regards


2 - تعقيب
الكاتب ( 2009 / 2 / 10 - 08:29 )
للأسف ما كتبته هو إختصار شديد ولا يجيب على أسئلة الأستاذ طلال: لكني أعتقد أن ثقافة النت لم تستوعب بعد على مستوى الدراسات (السوسيو ـ نفسية) هناك في العربية واحدة إطلعت عليها .. لكن بالعموم هناك سؤال عن - جدوى الكتابة - وألفت نظركم إلى ماترجمه الأستاذ عبدالسلام بنعبد العلي لرولان بارت حول سؤال لماذ تكتب ولأهميته أود النص كاملا:
-ما جدوى الكتابة؟- فردّ قائلا :


- ليس في وسعي إلا أن أعدّد الأسباب التي أتصور أنني أكتب بدافع منها:

فأنا أكتب إشباعا للذة، وهي كما نعلم لذّة غير بعيدة عن الافتتان الايروتيكي.
أكتب لأنّ الكتابة تخلخل الكلام، وتهزّ الأفراد والأشخاص، وتقوم بعمل نعجز عن تبيّن مصدره.
أكتب كي أحقّق -موهبة-، وأنجز عملا مميِّْزا وأحقق اختلافا وأحدث فروقا.
أكتب كي يُعترف بي، وأكافأ وأكون موضع حبّ واحتجاج وتأييد.
أكتب كي أنجز مهام إيديولوجية، أو ضدّ الايديولوجيا.
أكتب بإيعاز إيديولوجيا متسترة، وتقسيمات مناضلة، وتقويمات مستديمة.
أكتب إرضاء لأصدقاء، ونكاية بأعداء.
أكتب مساهمة في إحداث شروخ في المنظومة الرمزية لمجتمعنا.
أكتب إبداعا لمعاني جديدة، أي لقوى جديدة، للتمكن من الأشياء بطريقة جديدة، ولخلخلة تسلط الدلالات والعمل على تغييره.
و


3 - ملاحظات
بلقاسم الترهوني ( 2009 / 2 / 10 - 09:54 )
السيد كاتب المقال
اراك اكثر الكتاب استخداما للمصطلح االلاتيني والانكليزي بل واحيانا كتابه الكلمه بحروف عربيه وبلفظتها الانكليزيه والامثله كثيره بالرجوع الى مقالك اعلاه وحسب معلوماتي المتواضعه هناك رديف لها في اللغه العربيه وتأتي لترثي لنا لغة الضاد
اقرأ من مقالك ايضا حزنك والمك على هذه الثوره المعلوماتيه وفي كل مجالات الحياة والتي توفرت لنا بفضل الانترنيت فقط لان انصاف المواهب والعلاكه يكتبون وينشرون بسهوله شئ غريب فالتلفزيون والراديو والكهرباء والبحر و و و نجد في كل هذه الاشياء ماينفع وما يضر لحد الموت فهل نحزن او نرفضها او حزنك متأتي من مشاركة القراء وردودهم بعد ان كان الكاتب في برجه العاجي يكتب ويخاطب ويتكلم بهم لامعهم ولايستمع الا للكتاب مثله وربما بعد شهور من كتابته وكلما زادت شهرته تحصن اسمه اكثر وارتفع برجه
عذرا للاطاله وارجو ان تتقبل مشاركتي المتواضعه في مخاطبتكم طالما التزم بادب الحوار والمشاركه
وغايتي الفائده وسماع الاخر مهما كان رأيه متواضعا وحسب البيان العالمي لحقوق الانسان
مع الشكر والتقدير


4 - أجد صعوبة في التركيز يا نادر
صائب خليل ( 2009 / 2 / 10 - 12:01 )
يا صديقي العزيز نادر...
في مقالتك الكثير من ما هو قيم ودقيق لكني وجدت صعوبة بالغة في قراءتها والتركيز وتذكر ترابط النقاط...ربما كتبت بشكل مختصر مضغوط؟
أتصور أن الحماس (حماسك وليس حماس هنية) لعب دوراً إضافياً في تشتيتي وأن الكثير من النقاط كانت بحاجة إلى بعض -الحنية- في الطرح.
جميلة، بل رائعة، عبارة:
-أو البحث في متاهة غوغل عن معلومات (فاقدة للسياق المعرفي) -
وهي نبهتني إلى مسألة هامة..أعتقد أنها كانت تستحق منك بضعة أسطر لكنك اكتفيت بقوس بينه ثلاث كلمات
نقدك للإنترنيت سليم ومفيد أيضاً، لكنه متحيز ضد الإنترنيت حين لم يشر إلى أهميتها وما تقدمه من خدمة رغم ذلك, (ولو بثلاث كلمات بين قوسين) ..ما اقصده أنني وجدت غضباً دون أن أجد من يستحقه ، أو على الأقل من يستحقه كله بحدته، وأتصور أن هذا من ما عرقل تركيزي.
بمناسبة اللغة، هناك كتيب رائع لسلامة موسى باسم -اللغة العربية والحضارة العصرية- (ولست متأكد من دقة العنوان) وقد قرأته من زمان وكتبت عنه الزميلة باسنت موسى ربما مقالتين إن لم أكن مخطئاً
وقد وجدته بين كتبي مؤخراً وبدأت قرأته ثانية فوجدته رائعاً كما كان بل أروع..
قبلاتي لك


5 - إضافة
نادر قريط ( 2009 / 2 / 10 - 13:19 )
الإخوة الأعزاء : شكرا للنقد الإيجابي وأعترف بإن النص تجاوز المأمول منه فقد كان علي أن أخصص مساحة لدراسة مصطفى حجازي حول إشكاليات ثقافة النت ..لكني وجدتها تستحق أكثر فإقتصرت على التلميح ..
أما المشكلة الأساسية التي أردت النظر فيها ثم أبتعدت عنها (النص يخلق نفسه أحيانا كما يقول دريدا ) فهي علاقتنا كعرب مع الثقافة الكتابية وتحديدا اللغة الفصحى وعجزها عن صياغة سلطة أخلاقية في عصرنا الحالي .. كونها لغة إكليروس تعتمد تقنيات البلاغة والبيان (التمويه) .. لكنها في علم اللسانيات لغة غير قادرة على الخروج من الفضاء العقلي القروسطي للموروث.. وبسبب تقنياتها وهيمنتها على المكتوب .. نظل عاجزين عن الولوج في لغة الحداثة وإبتكار وسائل تستطيع التعبير بعيدا عن التمويه .. من هنا فإننا لانستطيع أن نلقي - نكتة - بالعربية الفصحى وهو السبب أيضا وراء إخفاقنا التاريخي في إبداع أدب شعبي حقيقي
لهذا تظل الكتابة نخبوية وكهنوتية وغير مؤثرة ولا تمس روح الأمة وثقافة النت هي مزيد من الإخفاق كون الشاشة اللامعة تخلق واقعا إفتراضيا يخضع لضغط المعلومة وسطوتها على المستهلك (وليس أسئلة الحقيقة) ..وهذا الخطر يصبح حقيقيا على المثقف والأديب والفنان .. إننا عموما أمام أول ثورة حقيقية لإعادة صياغة الإنسان ... وآسف إن

اخر الافلام

.. الرئيس الأوكراني: الغرب يخشى هزيمة روسيا


.. قوات الاحتلال تقتحم قرية دير أبو مشعل غرب رام الله بالضفة




.. استشهاد 10 أشخاص على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على مخيم ج


.. صحيفة فرنسية: إدخال المساعدات إلى غزة عبر الميناء العائم ذر




.. انقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي بسبب مستقبل غزة