الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التأويل الإبداعي ، و دراسة التاريخ .. قراءة في دروس التاريخ لول ديورانت

محمد سمير عبد السلام

2009 / 2 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تزدوج صيرورة الأحداث التاريخية دائما ، بالإبداع ، أو بالتأويل الإبداعي لحياة الجنس البشري في علاقتها المعقدة ، بالطبيعة ، و التراث الثقافي ، و التكنولوجيا ، و الفكر . لم يكن التاريخ – إذا – منعزلا في عملية التطور السياسي ، و الحضاري وحدها ، و لكنه مجموعة من التفاعلات الجزئية ، التي يتم تحويلها باستمرار إلى مجموعة من التأويلات المختلفة طبقا لعلاقاتها المتداخلة ، و إن الفن يظل كامنا في كل هذه التفاعلات ؛ لأنه يجسد الصياغة المادية الأخيرة لكل من تحقق الحدث ، و فكر المؤرخ ، أو الباحث في الحضارات .
و من أهم الأعمال التأويلية للتاريخ البشري كتاب ( دروس التاريخ ) The lessons of history لول ديورانت مع زوجته آريل ديورانت ، و قد صدر بالعربية بالعنوان نفسه ترجمة علي شلش .
يرى ول ديورانت أن التاريخ ، إبداع و تسجيل للتراث ؛ أما التقدم فهو وفرته ، و حفظه ، و نشره ، و استعماله ، كما يلاحظ أن فكرة التقدم ليست شمولية ، أو عالمية ، فجميع فترات التاريخ شهدت سقوط أمم ، و صعود أخرى ، كما تتقدم الأمة في حقل ، و تتردى في آخر ، أو يعزز زمن معين من فن دون آخر ، و تعني دراسة التاريخ عند ديورانت إضفاء المعني على حياة الإنسان ؛ ليسمو على الموت .
ثمة طفرات معرفية يقدمها لنا التاريخ – إذا – من خلال كشف ديورانت عن اللامركزية الأساسية المميزة لتطور البشر ؛ فهي تقطع الروابط الحتمية في تأويل الحدث ، و تستبدلها بإبداع الحدث من خلال مجالات ، و عناصر أخرى تكمن في بنيته المتنازعة ؛ فثمة أحداث من أزمنة ، و حضارات مختلفة ستكون للتو – و باستمرار – دوالا تفسيرية جديدة ، و من ثم ستشارك في صنع تكوينات ، و أحداث لم تكن في الماضي ، و غير متوقعة .
إننا نواجه طفرة من الانفتاح ، و ذوبان الحدود بين الثقافات ، و الأزمنة ؛ هذا الذوبان يمتزج على نحو وثيق – بلذة اللامحدد ، و اللامتناهي الإبداعي طبقا لنيتشه ؛ فالحاسة التاريخية عنده تفارق النبل ؛ إذ إننا نتقبل التلون ، و الرقة ، و الغلظة معا في قراءة التاريخ ، و التراث ، فنتذوق هوميروس الذي كان مغلقا على أصحاب الحضارة النبيلة ، و لا ننزعج من روائح رعاع الإنجليز عند شكسبير ( راجع – فريدريك نيتشه – ما وراء الخير و الشر – ترجمة موسى وهبة – دار الفارابي ص 187 ، و ما بعدها ) .
و يتفق كل من ديورانت ، و نيتشه في هدم الكليات المفاهيمية الكبرى في التأريخ ، و الحاسة التاريخية ، و من ثم فهما يستشرفان من زوايا نظر مختلفة التفاعل الإبداعي المتناقض بين الأحداث ، و الأعمال الفنية عند المؤرخ ، أو المبدع ، و لكن نيتشه يرتكز على عملية التجاوز المستمرة للثابت الفكري الحقيقي في الوعي البشري ، بينما يلاحظ ديورانت الأشكال الجديدة من التفاعل انطلاقا من تراكم التراث غير الشمولي ، و القابل للتطوير مرة أخرى .
* الدين :
يقرأ ول ديورانت علاقة الدين بالتاريخ من خلال استمرارية الدين ، و تجدده في الظاهرة الروحية المتعددة ، و كذلك من الشكل الثقافي / المادي الذي تجسد في الجماعات البشرية ، و الأزمنة المختلفة ، و هذا الشكل الثقافي الذي يرصده ديورانت يتميز بالسمة التوليدية في بعض الثقافات فضلا عن سمة الاستمرارية التي يؤكدها بحثه ؛ و يستشهد في هذا الإطار بإعادة الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا بموجب اتفاقية نابليون مع البابا بيوس السابع سنة 1801 ، و اختفاء زندقة القرن الثامن عشر في إنجلترا عقب التسوية الفيكتورية مع المسيحية ، أما مسألة التوالد الثقافي فقد بدت في تمثيله باللاهوت المركب من القديسين ، و الجحيم الذي ألفه البوذيون عقب وفاة بوذا .
إن المزج بين هذه الملامح الدينية في وعي ديورانت يؤكد أمرين :
الأول : قدرة العنصر الثقافي الروحي على الحياة في اللاوعي الجمعي للإنسان ، و ازدواجه بالأفكار الأخرى في التراث ، أو العصر ، و أرى أن هذا العنصر الثقافي يكمن أيضا في الفكر بصور مختلفة ؛ فديكارت يعيد بحث الروح انطلاقا من الأنا المفكر ، و نيتشه يطور رؤيته النقدية انطلاقا من تفاعل خفي بين عنصري أبولو ، و ديونسيوس في ثقافة اليونان ، و مايكل أنجلو ، و دالي يجسدان فنا متنوعا يكمن فيه العنصر المسيحي برؤى مختلفة .
الثاني : سيادة الفهم ، و التأويل على التقسيم التاريخي الصارم لديانات الأمم المختلفة ؛ فديورانت يختار فترات مختلفة ذات نزعة أفقية لا رأسية في النظر إلى علاقة الدين بالتاريخ .
• البيولوجيا :
يميز ديورانت حركة الطبيعة البيولوجية للأحياء بغلبة الصراع ، و المنافسة التي قد يكون التعاون أحد شكولها الجماعية ، و يختلط مبدأ المنافسة عنده - في قراءته لدروس البيولوجي – بالقوة ، و انعدام المساواة معا في الطبيعة ؛ فالحيوانات يأكل بعضها بعضا دون وخز للضمير ، و المتحضرون يستهلك كل منهم الآخر عن طريق التقاضي أمام القانون ، و يميزها أيضا بالتوالد ؛ فهي تعشق الكم ، و تستطيب الصراع ؛ كتسابق الحيوانات المنوية لتلقيح بويضة ، و تعزز من النوع لا الفرد ، و لا تفرق كثيرا بين الهمجية ، و الحضارة .
و أرى أن ثمة ازدواجية خفية بين حركية الصراع ، و القوة في المجال الطبيعى ، و النزعة الإبداعية ؛ فقد تجلى مبدأ القوة مجردا في كثير من النصوص العبثية ، و هي قوة خيالية غير مبررة تشبه المبدأ نفسه في الطبيعة ، و تعيد تأويله من خلال الوعي ، و اللاوعي البشري مثل نصوص كامو ، و سارتر ، و كافكا ، و يونسكو و غيرهم ، فلحظة الصراع جزء من صيرورة أكبر لا ترتكز أبدا على المنتصر ، أو الأقوى ، و إنما على حدث فريد يمكن تأويله انطلاقا من العبث الفني ، و أخيلة القوة التي صار لها حضور في الفكر الحديث منذ نيتشه حتى بودريار الذي أعاد إنتاجها انطلاقا من التكنولوجيا ، و تحولات النسخ ، و التشبيهات . إن هذه الأخيلة الجديدة في عالم الصورة تستعيد الحدث البيولوجي الذي يتميز بالانتشار مع التميز الفريد ، و هو ما يضع بنية الصراع في سياقات عديدة تناهض استقلالها ، و حضورها الأحادي في التاريخ ، و البيولوجيا .
* العرق :
يعزز ديورانت من الاختلاط العرقي بين الأنا ، و الآخر في دراسة الشعوب ، من حيث إمكانية توليد سلالات جديدة لا ترتكز بالدرجة الأولى على نقاء العرق ، و تميزه ، و يرى أن دور الجنس تمهيدي أكثر من كونه إبداعيا ؛ فعملية الاختلاط على مستوى الدم ، و الثقافة ، و أساليب الحياة تشبه اتصال الجينات في الممارسة الجنسية ، و يمثل على ذلك بأن روما جاءت من اليونان ، و أتروريا الآسيوية ، و من روما جاءت أوربا الغربية ، و من الأخيرة أمريكا .
إن التوليد الثقافي / الإبداعي للشعوب يقوم – عند ديورانت – على الاختلاط ، و من ثم على نوع من السلام ، و قبول الآخر من داخل عمليات الصراع التاريخية ، هكذا يلعب التداخل دورا إبداعيا لا يتوقف في صنع مزيج من السلالات ، و الثقافات بينما يعرقل التعصب هذه الحركة ، و مازالت الأبحاث الحضارية المعاصرة حول ما بعد الحداثة ، و ما بعدها تناقش قضايا الأنا ، و الآخر ، و العرق ، و الثقافة ؛ لتؤكد الطابع العالمي المفتوح كبديل عن الإغلاق العرقي ، و الثقافي ؛ مثل دراسات أرنولد توينبي ، و إيهاب حسن ، و غيرهما ؛ و قد رصد سارتر في مسرحه عبثية النظرة العرقية ، و الأيديولوجية في المومس الفاضلة و تناقضاتها الداخلية في اتهام الزنجي دون مبرر ، و غير ذلك من الأعمال الفنية التي تعزز من التفاعل لا الصراع .
• الاقتصاد :
يمزج ديورانت بين الطبيعي ، و الإبداعي في ملاحظاته حول الاقتصاد ، و دوره في الحضارة ، فتركيز الثروة عنده يتبع عملية معقدة تقوم على تفاوت القدرة ، و نسبيتها ، و يمثل على ذلك بأن المساواة النسبية لدى الأمريكيين قبل عام 1776 ، طغى عليها ألف شكل من التفاضل الجسماني ، و العقلي ، و من ثم الاقتصادي ، فتفككت ، و تحللت ، و كانت أكبر مما حدث من قبل في الإمبراطورية الرومانية ، ثم يؤكد ديورانت التداخل الإبداعي مرة أخرى في درس الاقتصاد بتأويل الحد الثالث من المركب ، و النقيض في فكر هيجل ، و هو مرحلة مختلطة من الرأسمالية ، و الاشتراكية يتجه إليها الغرب بوضوح .
و نلاحظ في أفكار ديورانت عن الاقتصاد أمرين :
الأول : تجاور المراحل الحضارية من حيث الارتباط بحتميات القوة الطبيعية ، و من ثم إعادة توظيف الموارد ، و تذكرنا هذه القوة مرة أخرى بحيادية الظواهر الاقتصادية ، و قدرتها على التجاوز الطبيعي لعمليات الصراع من داخلها ؛ فلا يوجد صراع دون أطياف حضارية ، و أخيلة إبداعية تصاحبه ، و يعزز من هذا التوجه استحضار ديورانت لأطياف القوة في روما ليقرأ من خلالها المجتمع الأمريكي .
الثاني : استمرارية التعدد ، و اللامركزية ، و الجزئية في العناصر الحضارية ، و الإنسانية ؛ فالاقتصاد يقوم على قاعدة بيولوجية تداخلية فلسفية غير ثابتة نتيجة عدم ثبات أصولها الجزئية ، و انطلاقا من هذا التغير تلعب الاحتمالية دورا كبيرا في تشكيل الحدث ، و قراءاته .

محمد سمير عبد السلام – مصر











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟