الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الحاجة إلى النقد المزدوج : ما بين التطرف اليساروي العلمانوي القومجي و التطرف الديني

إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي

(Driss Jandari)

2009 / 2 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الفكر الذي لم يتغذ من منابع العلوم الإنسانية الحديثة ؛ هو فكر متطرف ؛ سواء ارتبط بمرجعية دينية أو يسارية أو قومية أوعلمانية ؛ لأن التطرف واحد ليس له دين أو مذهب ؛ إنه صنو الجهل بالحركية الفكرية التي يعرفها العالم الحديث ؛ و التي بدأت بوادرها الأولى خلال مرحلة القرن الخامس عشر؛ مع بزوغ فجر الحداثة الأوربية .
لكن الفكر العربي لم يتعرف على هذه الحركية الفكرية حتى حدود القرن التاسع عشر؛ و رغم ذلك فقد اختلطت لديه بالاستعمار ؛ و رفضها بادعاء مصدرها الاستعماري ؛ ولذلك لم تترسخ هذه الحركية الفكرية في الثقافة العربية ؛ رغم المجهودات الجبارة التي بذلها مفكرو هذه المرحلة .
و قد خلف فشل الثقافة العربية في الارتباط بالمنظومة الفكرية الحديثة آثارا كارثية ؛ ستتعمق فيما بعد ؛ حينما ستظهر على الساحة العربية نخبة العسكر ؛ التي ستقتل بعض ما تسرب من هذه الأفكار . و لعل قراءة بسيطة لهذه المرحلة لتفصح لنا عن الكثير من الدلالات العميقة ؛ التي يمكنها لوحدها أن تساعدنا على تفسير نموذج التطرف الفكري و السياسي و الديني ؛ الذي غزا العالم العربي من المشرق إلى المغرب ؛ و خلف و ما يزال جروحا غائرة في جسد الأمة العربية .
ظهرت في الثقافة العربية طوال مرحلة القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين حركية فكرية و سياسية و فنية نشيطة ؛ كانت تحمل بين طياتها معالم مستقبل جديد للأمة العربية ؛ و قد ارتبطت هذه الحركية بفكر التنوير و اللبرلة و التمدن ؛ الذي قدمته نخبة المرحلة باعتباره البديل ؛ للخروج من التخلف و الجمود الذي عرفته الأمة العربية طيلة عصور الانحطاط .
لكن هذه المسيرة لم تستمر طويلا لأن الانقلابات العسكرية ؛ ستقلب الأوضاع رأسا على عقب ؛ و ستأتي بنخب فكرية و سياسية لا علاقة لها بتلك الطموحات الليبرالية التي بدأت تتبلور؛ و هكذا سيتم الاستغناء عن هذه الطموحات وسيتم استبدالها بطموحات قومية ؛ تتخذ بعدا يسارويا ؛ و تتحالف مع النخبة العسكرية كأداة للتجسيد على أرض الواقع .
حدث هذا في مصر و العراق و سوريا ... كدول كانت قبل الانقلابات تبشر بمستقبل مغاير للثقافة العربية ؛ و الدليل على ذلك الحركية الفكرية و الفنية و السياسية التي عرفتها ؛ و هي حركية كانت تتخذ بعد ليبراليا ؛ و تسعى إلى نشر ثقافة التنوير و التمدن في الوطن العربي .
لكن مصير هذه المشاريع سيتوقف على وقع طلقات مدافع العسكر ؛ و الذين يرتبطون بمرجعيات ثقافية ؛ تحارب كل قيم الليبرالية و العلمانية و التمدن ؛ باعتبارها قيما استعمارية ؛ لا تتلاءم مع ماضي الأمة العربية ؛ أو باعتبارها قيما بورجوازية متعفنة ؛ يجب محاربتها ؛ في إطار الصراع الطبقي بين ملاك وسائل الإنتاج و ملاك عضلات الإنتاج .
هكذا –إذن- سيتم الإجهاز على قيم الحداثة و التنوير؛ و في المقابل سيتم فتح الباب أمام التطرف العسكري ؛ الذي سيتخذ طابعا قومجيا و يسارويا ؛ هذا التطرف الذي سيستعيد المكبوت الديني ؛ مع توظيفه تحت شعارات مغايرة .
و هذا ما يمكن ملامسته من خلال الاستبداد السياسي الذي يقوم على الحزب الواحد و الحاكم الواحد؛ مع التنكيل بجميع أشكال المعارضة ( حدث هذا مع جمال عبد الناصر و حافظ الأسد و صدام حسين...) ؛ كما يمكن ملامسته من خلال استعادة العلاقات القبلية و العشائرية و الدموية كمعايير في تسيير دواليب الدولة ؛ و يمكن ملامسته كذلك من خلال تكريس اقتصاد الريع الغير المنتج ؛ و يمكن ملامسته من خلال فرض النموذج الثقافي و الفني المساير للنموذج السياسي ( هذا ما تؤكده اتحادات الكتاب و نقابات الفنانين ) .
و يمكن أن نستفيض أكثر باستدعاء مظاهر أخرى من التردي ؛ الذي أسس له المتياسرون و القومجيون ؛ الذين فرضوا نموذجهم السياسي و الثقافي و الفكري و الفني المتخلف ؛ عبر التحالف مع العسكر ؛ و من هنا كانت بداية التردي الشامل ؛ الذي سيتطور فيما بعد ليتحول إلى تطرف ديني ؛ سيأتي على اللأخضر و اليابس .
من هذا المنطلق –إذن- يمكن مقاربة التطرف الفكري و السياسي و الديني ؛ الذي تعرفه الثقافة العربية ؛ و الذي يعرقل كل أشكال التنمية في العالم العربي ؛ و هو تطرف أسس له المؤدلجون اليسارويون و القومجيون ؛ حينما حاربوا الفكر الليبرالي و ثقافة التنوير و التمدن ؛ و أسسوا في المقابل لنموذج ؛ يرتبط بظاهرة الترييف (ثقافة البداوة المرتبطة بالأرياف) ؛ التي أنتجت نخبا تسعى إلى تكريس قيم البداوة القائمة على العشائرية و القبلية .
و حتى هذه المرحلة لم تكن حركات التطرف الديني حاضرة ؛ لأنها في الحقيقة صنيعة هذا النموذج الفكري و السياسي اليساروي القومجي ؛ الذي لا يختلف عنها في الجوهر ؛ لأنهما معا نموذجان يتأسسان على الإيديولوجيا و اليوتوبيا ؛ و يشتركان كذلك في محاربة فكر اللبرلة و التنوير؛ باعتباره فكرا استعماريا ؛ كما يشتركان معا في طموحهما السياسي و الفكري القائم على الاستبداد و ثقافة الحزب الواحد .
و كلها قيم لم تكن حاضرة في القاموس النهضوي ؛ رغم طابعه السلفي الديني ؛ و ذلك ما تؤكده الأدبيات الفكرية و السياسية التي خلفها رواد عصر النهضة ؛ فقد دافع (علي عبد الرازق) عن مفهوم الدولة الحديثة ؛ كما تجسدها التجربة الليبرالية ؛ و دحض بقوة نموذج الدولة الدينية (الخلافة)
كما كرس الطهطاوي حياته لترسيخ روح التنوير و التمدن في الثقافة العربية ؛ و حمل قاسم أمين لواء نصرة قضايا المرأة العربية ؛ باعتبارها نصف المجتمع .
و لم يكن المغرب نشازا فيما يخص هذه الحركية ؛ فقد دافع محمد بن الحسن الحجوي بشراسة عن قيم الدولة الحديثة في المغرب ؛ و القائمة على الدستور و المؤسسات ؛ كما عملت الرحلات السفارية إلى أوربا على دعم هذا النموذج الفكري و السياسي و الاقتصادي و العسكري الجديد .
و كلها قيم ليبرالية و أنوارية ؛ تم دكها بعجلات الدبابات و أحذية الجنود ؛ و تم استبدالها بالأوهام العنترية القومجدية ؛ و الإيديولوجية اليساروية ؛ و رغم ذلك ينظر هؤلاء الآن للوضع العربي باستغراب ؛ و كأنهم لم يكونوا من صناع هذا الخراب .
إن واجب النخبة المثقفة اليوم هو القيام بمسؤولية النقد المزدوج ؛ من جهة نقد التطرف اليساروي و القومجي و العلمانوي؛ و من جهة أخرى نقد التطرف الديني ؛ مع الالتزام الكامل بثقافة التنوير و التمدن ؛ و بقيم الليبرالية القائمة سياسيا على التعددية الحزبية و الديمقراطية ؛ والقائمة اقتصاديا على مبدأ (دعه يعمل ؛ دعه يمر ) ؛ و القائمة دينينا على العلمانية كفصل بين السلطتين المادية و الروحية؛ و القائمة اجتماعيا على مبدأ المواطنة بدل الرعية ؛ و على المساواة بين الرجل و المرأة في كل شيء ؛ و القائمة فكريا على العقلية العلمية النقدية ؛ التي تستثمر منجزات العلم في فهم الإنسان و الكون و الحياة .
من هذا المنطلق –إذن – يجب على النخبة العربية المثقفة فضح كل المحاولات المغرضة التي تهدد هذه القيم المشتركة بين الإنسانية ؛ سواء أكانت مرجعيتها إسلاموية أم يساروية أم علمانوية أم قومجية ... و ذلك –طبعا- عبر المنهجية العلمية الرصينة ؛ التي لا تتعامل مع النقد باعتباره تصفية حسابات ؛ لأن المثقف الملتزم بقيم الحداثة ؛ ليست له أية حسابات خارج الدفاع عن القيم الإنسانية المشتركة ؛ و التي ترسخت منذ القرن الخامس عشر ؛ و تبشر الآن بالتأسيس لثقافة كونية ؛ تتجاوز حدود اللغة و الدين و القومية .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مختلف عليه - الإلحاد في الأديان


.. الكشف عن قنابل داعش في المسجد النوري بالموصل




.. شاهدة عيان توثق لحظة اعتداء متطرفين على مسلم خرج من المسجد ف


.. الموسى: السويدان والعوضي من أباطرة الإخوان الذين تلقوا مبالغ




.. اليهود الأرثوذكس يحتجون على قرار تجنيدهم العسكري