الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما بين العلمانية و العلمانوية : في الحاجة إلى القراءة العلمية للظاهرة الدينية

إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي

(Driss Jandari)

2009 / 2 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يعتبر مفهوم العلمانية من بين المفاهيم الفكرية الحديثة التي أثارت نقاشات طويلة في الفكر العربي الإسلامي ؛ ما بين مدافع على المفهوم باعتباره الخيار الوحيد أمام الثقافة العربية ؛ للخروج من سيطرة النص الديني ؛ و ما بين معارض يعتبر أن الإسلام دين و دنيا ؛ و لذلك فهو يختلف جوهريا عن المسيحية التي ولدت تجربة العلمانية .
لكن النقاش انزاح في أحيان كثيرة عن المقاربة العلمية ؛ كما هو شأن جميع النقاشات الفكرية التي عرفتها الثقافة العربية ؛ و تحول إلى صراع غذته أكثر الإيديولوجية اليساروية و الإسلاموية ؛ بحيث اتخذ مفهوم العلمانية في المفهوم اليساروي صفة معاداة الدين ؛ باعتباره أفيون الشعوب ؛ و باعتباره يمثل مرحلة سابقة من مراحل تطور البشرية ؛ و بذلك تحولت العلمانية إلى إيديولوجية ذات بعد مذهبي ؛ أكثر مما هي منهج في الفصل بين السلطتين الروحية و المادية ؛ من دون معاداة بينهما .
و هذا ما فتح الباب أمام رد الفعل الإسلاموي ؛ الذي اعتبر العلمانية خطرا على الإسلام ؛ و ربطها بالكفر و الإلحاد ؛ و لذلك خاض حربا شرسة ضدها ؛ بل و ركب هذه الحرب من أجل تحقيق مكاسب سياسية ؛ مكنته من احتلال مكانة اليسار ؛ بعد انهيار مشروعه الطوباوي .
لكن الأسئلة التي تطرح نفسها على الباحث العلمي بإلحاح هي التالي:
هل العلمانية بمفهومها العلمي تعادي الدين ؛ و تسعى إلى مواجهته ؟
هل العلمانية مفهوم يرتبط بالأدبيات الفكرية و السياسية اليسارية أم بالأدبيات الليبرالية ؟
هل يمكن اعتبار المفهوم اليساري للعلمانية مفهوما علميا ؛ يقوم على أسس منهجية ؟
هل يمكن اعتبار التجارب العلمانوية التركية و الفرنسية و الشيوعية ؛ التجسيد الوحيد الممكن لمفهوم العلمانية ؛ أم إن هناك مقاربات أخرى للمفهوم ؟
قبل أن نخوض في نقاشنا حول مفهوم العلمانية؛ و حول حضوره في الثقافة العربية؛ لابد من التوقف أولا عند الدلالات التي يحملها المفهوم ؛ " فحسب الإيتمولوجيا (علم أصول الكلمات ) فإن كلمة laïcos اليونانية تعني الشعب ككل ما عدا رجال الدين ؛ و في لاتينية القرن الثالث عشر؛ نجد أن كلمةlaïcus تعني الحياة المدنية أو النظامية " . (1)
و باعتماد الدلالتين معا؛ لا نقف على ما يرتبط بنفي البعد الديني؛ بل نلمس توجها نحو الفصل بين البعد ين الديني و الدنيوي؛ ليرتبط كل مكون بوظيفته الخاصة؛ من دون الارتباط بوظيفة أخرى؛ كما يحيل مفهوم العلمانية بطريقة مباشرة على الحياة المدنية و النظامية.
و لعل هذه الدلالات لتؤكد بالملموس على أن مفهوم العلمانية ليس إيديولوجية معادية للمكون الديني؛ بل إن وظيفتها هي حصرهذا المكون في مجاله الخاص ؛ من دون تجاوزه إلى مجالات أخرى .
و هذه الدلالات هي ما يغيب عن علمانية النموذج الفرنسي ؛ التي يطلق عليها الأستاذ محمد أركون مصطلح العلمانوية laïcisme ؛ باعتبارها تجربة ارتبطت بالثورة على الإكليروس ؛ الذين كانوا يوظفون سلطة الكنيسة لفرض هيمنتهم على الدولة و المجتمع ؛ و لذلك كان رد الفعل ضد الدين عنيفا ؛ بحيث سيتم تهميشه في الحياة المدنية عبر قرارات صارمة فرضتها الدولة على المواطنين و على المؤسسات .
و بالإضافة إلى التجربة الفرنسية؛ اتخذ مفهوم العلمانية بعدا إيديولوجيا في الأدبيات الماركسية؛ التي تنهل منها مجموع دول المعسكر الشرقي؛ من الاتحاد السوفييتي؛ إلى أوروبا الشرقية؛ إلى أمريكا اللاتينية؛ و بعض الأحزاب الشيوعية العربية ؛ و قد تم التعامل مع العلمانية في هذه الأدبيات باعتبارها نفيا للمكون الديني ؛ الذي اعتبر بلغة ماركسية مصكوكة أفيون الشعوب ؛ الذي يخدرها و يمنعها من النضال ضد الاستغلال و العبودية .
كما حضرت العلمانية في التجربة الإسلامية ؛ بشكل لا يختلف عن سابقيه ؛ فقد عمل أتاتورك في تركيا على تجسيد العلمانوية الفرنسية ؛ باعتبارها معاداة للدين ؛ و بذلك فرض على المجتمع التركي إيديولوجيا تتناقض مع مرجعياته الثقافية ؛ الشيء سيؤدي على المدى القريب بله البعيد إلى نتائج معاكسة تماما لطموحات أب الأتراك .
و لذلك نجد الأستاذ محمد أركون يؤكد على أن تجربة تركيا العلمانوية قد ذهبت بعيدا في جرأتها ؛ لكنها لم تكن في الواقع إلا (كاريكاتيرا) للعلمنة ؛ رافقته بعض التطرفات؛ كما حدث في فرنسا سابقا ؛ لكن الشعب التركي لم يستجب لهذه التجربة التي دوخته ؛ مما يفسر العودة الدينية العنيفة " . (2)
ومن خلال عرضنا لهذه الأشكال الأيديولوجية ؛ التي حضر من خلالها مفهوم العلمانية باعتبارها ثورة ضد المكون الديني (العلمانوية laïcisme ) ؛ يمكن أن نفهم بوضوح عمق الظاهرة الدينية ؛ التي لا يمكن مقاربتها من منظور سياسوي ضيق ؛ بل تتطلب مجهودا فكريا ؛ يرتبط بعلم الأديان و تاريخ الأديان المقارن ؛ بالإضافة إلى الأنطروبولوجيا الثقافية و سوسيولوجيا الدين ... و كلها تخصصات علمية؛ تسعى إلى مقاربة الدين كظاهرة؛ تفترض مقاربة علمية لا تقل قيمة عن مقاربة مختلف الظواهر الإنسانية الأخرى.
و لعل ما يؤكد هذه الرؤية ؛ هو الفشل الذريع الذي منيت به هذه التجارب العلمانوية ؛ سواء في التجربة الفرنسية ؛ أو في التجربة التركية ؛ أو في الإيديولوجية اليسارية الشيوعية ؛ حيث كانت النتيجة دائما انفجارا للمكبوت الديني بشكل أعنف لا يمكن مقاومته .
و لعل أبرز مثال على ذلك ما يقع في تركيا الآن ؛ حيث يوضع التراث العلماني الأتاتوركي في مهب الريح ؛ و يتحدث المراقبون اليوم عن ظاهرة ثقافية جديدة يطلقون عليها اسم العثمانيين الجدد ؛ و الذي يتزعمها حزب العدالة و التنمية ؛ الذي يسيطر على السلطتين التشريعية و التنفيذية في الدولة التركية ؛ و يقود ثورة صامتة ضد العلمانيين الأتراك .
و يقدم هذا النموذج دروسا عميقة ؛ لبعض النخب العربية المؤدلجة ؛ و التي تقود حربا دونكشوطية ضد الدين الإسلامي ؛ من منظور سياسوي يفتقد أبسط شروط التفكير العلمي الحديث ؛ بحيث لا تنتج إلا خطابات فارغة من أي مضمون علمي ؛ يقارب الدين كظاهرة تستحق الدراسة و التحليل .
إن قوة الإصلاح الديني الذي قادته الحركة البروتستانتية في أوربا ؛ و الذي أفضى في الأخير إلى فصل علمي بين السلطتين الروحية و المادية ؛ ليؤكد بالملموس ؛ على أن الدين ليس بالضرورة ؛ أفيونا يخدر الشعوب ؛ و ليس بالضرورة فكرا سحريا ؛ و لكن يمكن أن يتحول إلى أداة للعقلنة و نزع السحر عن العالم ؛ كما يمكن أن يتحول إلى أداة تنموية ؛ و لكي لا يتهمني أي مؤدلج بالرجعية ؛ أؤكد له أن هذا التحليل العلمي هو للفيلسوف و عالم الاجتماع ( ماكس فيبر ) (3) الذي لنا وقفة معه في المقال اللاحق حول العقلنة الدينية ؛ و علاقتها بالإصلاح الديني في أوربا ؛ الذي فصل سلطة الكنيسة عن سلطة الدولة و المجتمع ؛ من دون أن يثور على المكون الديني ؛ و ذلك هو ما أنتج مفهوم العلمانية بشحنته العلمية في أوربا .

الهوامش :
1- محمد أركون – تاريخية الفكر العربي الإسلامي – ترجمة : هاشم صالح – المركز الثقافي العربي – ط: 2 – 1996 – ص: 291
2- نفسه – ص: 278
3- للاطلاع أكثر على مفهوم العقلنة الدينية عند ماكس فيبر :

- كاترين كوليو: ماكس فيبر والتاريخ، ترجمة جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، طبعة 1994
- Weber, Max: Economy and Society, University of Californie Press
- Weber, Max: The social psychology of the world religion in From Max Weber, P.291.
- Weber, Max: The social psychology of the world religion in From Max Weber, Essays in sociology, Edited. Gerth. And Mills Routledge












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عن أية علمانية تتحدث؟
مختار ( 2009 / 2 / 16 - 21:33 )
سيالدتك تقول: العقلنة الدينية ؛ وعلاقتها بالإصلاح الديني في أوربا؛ الذي فصل سلطة الكنيسة عن سلطة الدولة والمجتمع ؛ من دون أن يثور على المكون الديني؛ و ذلك هو ما أنتج مفهوم العلمانية بشحنته العلمية في أوربا.
وهذا أغرب ما قرأته. هل فعلا جاء هذا الفصل بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة والمجتمع من داخل الكنيسة، أي من حركة إصلاح قام بها رجال الدين؟
والصحيح أن كل ما تراه من إصلاح ديني جاء نتيجة ضغوط مورست على الكنيسها ورجالها من خارجها، قبل كل شيء، بل مارست الكنيسة أشد ألوان القمع ضد حركة الإصلاح الديني، ويكفي الاطلاع على الحروب الدينية في أوربا بين التيارين التي استمرت قرونا وأسالت أنهارا من الدماء.
أما الإصلاحات الدينية فقد تمت في شكل تنازلات قدمتها الكنيسة بالتدريج حسب درجة الضغوط التي مورست عليها، وكانت الثورة الفرنسية أوج تلك الصراعات، دون أن يعني ذلك أن الكنيسة انهزمت نهائيا أمام العلمانية.
ثم تقول: ولعل هذه الدلالات لتؤكد بالملموس على أن مفهوم العلمانية ليس إيديولوجية معادية للمكون الديني؛ بل إن وظيفتها هي حصر هذا المكون في مجاله الخاص؛ من دون تجاوزه إلى مجالات أخرى.
أي مجال خاص؟ ومن يحدد هذا المجال الخاص؟ وهل يرضى رجال الدين بمجال خاص وهم اعتقدوا دائما أن دينهم صالح ل


2 - التفكير الرغائبي
سلام فؤاد ( 2009 / 2 / 17 - 12:13 )
لعل أحسن وصف يمكنني أن أصف به طرح السيد جنداري هو : التفكير الرغائبي. بمعنى أن السيد الجنداري يتمنى ويرغب في حصول إصلاح ديني في الاسلام مشابه للإصلاح الذي حصل في المسيحية، متناسياً أو ربما غير عالماً بالفرق الكبير بين المسيحية والإسلام، الأمر الذي يجعل تجربة الاصلاح الديني في أوربا غير قابلة للتكرار والحدوث في الاسلام. ذلك أن الإصلاح الذي حصل في أوربا لم يكن أكثر من إعادة العلاقة بين الكنيسة والمجتمع الى الحالة التي كانت سائدة خلال القرون المسيحية الأولى، والتي كان الفكر المسيحي قد أصّلها أصلاً في منظومته الفكرية. بعبارة أخرى، إن لعب دور الدولة الذي قامت به الكنيسة خلال المرحلة الوسيطة، والذي سببه غياب تلك الدولة خلال تلك المرحلة، هذا الدور مثّل شذوذاً أو خروجاً عن المسيحية الصحيحة، ما إقتضى - وأيضاً سهّل - تصحيح ذلك الشذوذ أو الخروج بعد نشوء الدولة الحديثة في أوربا في القرن 17. أما في الحالة الإسلامية، فإن الاسلام عقيدة شمولية لا تعرف الفصل بين الديني والدنيوي كما في المسيحية، الأمر جعل عملية الاصلاح الاسلامية متعذرة حتى الآن. والحال فإنه إذا بقيت عملية الاصلاح متعذرة في الاسلام، فسوف لن يبقى سوى واحد من الخيارين التاليين : الأول، فرض الاصلاح بالقوة من الخارج كما حصل في الحالة التر

اخر الافلام

.. مختلف عليه - الإلحاد في الأديان


.. الكشف عن قنابل داعش في المسجد النوري بالموصل




.. شاهدة عيان توثق لحظة اعتداء متطرفين على مسلم خرج من المسجد ف


.. الموسى: السويدان والعوضي من أباطرة الإخوان الذين تلقوا مبالغ




.. اليهود الأرثوذكس يحتجون على قرار تجنيدهم العسكري