الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الحاجة إلى القراءة العلمية للظاهرة الدينية - نقد مسلمة الإسلام دين و دولة من منظور أسباب النزول

إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي

(Driss Jandari)

2009 / 2 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يسود في الخطاب الإسلاموي اعتقاد راسخ بفكرة شمولية النص القرآني؛ باعتباره دينا و دنيا؛ و كذلك باعتباره صالحا لكل زمان و مكان؛ و هذا ما يتناقض مع أبسط مقومات التفكير العلمي ؛ الذي يقوم على السيرورة و التطور؛ و يربط الأفكار بإطارها التاريخي ؛ الذي يساهم في إنتاجها .
قد يعترض معترض على هذا التحليل بدعوى أن الظاهرة القرآنية ترتبط بالوحي؛ و لا علاقة لها بتطور الأفكار؛ و الرد الواضح على هذا الاعتراض هو من جنس القرآن نفسه ؛ الذي لم يخرج عن هذا السياق ؛ أي عن السياق التاريخي ؛ بحيث نزل منجما (متفرقا) على أكثر من عشرين سنة .
و قد تحكم في عملية التنجيم هذه عامل الزمان و المكان و الظروف الاجتماعية و السياسية ؛ التي مرت بها الظاهرة القرآنية ؛ و لعل هذا هو ما تؤكده – حسب الأستاذ نصر حامد أبو زيد - " الحقائق الإمبريقية المعطاة عن النص (القرآن) –و التي- تؤكد أنه نزل منجما على بضع و عشرين سنة ؛ و تؤكد أيضا أن كل آية أو مجموعة من الآيات نزلت عند سبب خاص ؛ استوجب إنزالها ؛ و أن الآيات التي نزلت ابتداء – أي دون علة خارجية- قليلة جدا " ص:97
ما نستوضحه من هذا التحليل هو أن الظاهرة القرآنية – كغيرها من الظواهر الأخرى – باعتبارها تشكل خطابا؛ يتوفر على مجموع مقومات التواصل؛ من مرسل (بكسر السين) و مرسل إليه (بفتح السين)؛ و رسالة؛ و سنن ؛ لا يمكنها أن تكسر طابع التاريخية ؛ الذي يعتبر من أهم مقومات بناء الخطاب ؛ فهي باعتبارها رسالة تعتمد لغة و معجما معطى مسبقا بهدف تحقيق التواصل ؛ و لذلك لا تخرج عن النسق الثقافي السائد ؛ و هي باعتبارها تراهن على المتلقي ؛ فهي تشترك معه في هذا النسق الثقافي ؛ الذي يشكل بدوره السنن المشترك ؛ الذي يفكك شفرات الرسالة و يجعلها قابلة للتداول ؛ و في نفس الآن قادرة على تحقيق التواصل .
و نحن حينما نؤكد على تاريخية الظاهرة القرآنية ؛ فنحن نركز فيها على جانب التشريع بالخصوص ؛ و الذي يشكل المرحلة المدنية ؛ كمرحلة تمثل بداية التفكير في التأسيس للكيان الإسلامي ؛ و هذا ما جعل هذه المرحلة مرحلة تشريعية بامتياز؛ غاب عنها إلى درجة كبيرة ما يرتبط بالعقيدة ؛ باعتبارها مكونا دينيا ؛ سيطر على المرحلة المكية .
و هذا ما يجعل هذا المكون الأخير (العقيدة) امتدادا للروح الدينية السابقة عن الظاهرة القرآنية؛ سواء ما ارتبط بالتوحيد أو بالغيب أو بقصص الأنبياء و الأقوام السابقين أو بالعبادات... بحيث يثبت لنا تاريخ الأديان المقارن أن هذه المكونات تعتبر عناصر مشتركة بين كل الديانات.
إن حديثنا عن الإطار التاريخي فيما يخص مكون التشريع خصوصا ؛ يقودنا للحديث عن أسباب النزول ؛ كمصطلح حضر بقوة في الدراسات القرآنية ؛ لكنه لم يؤد وظيفته ؛ عبر ربط التشريع الإسلامي بإطاره التاريخي ؛ بل على العكس من ذلك كانت دراسة الأسباب و الوقائع تؤدي إلى فهم حكمة التشريع ؛ خاصة في آيات الأحكام ؛ و من شأن فهم (الحكمة) أو (العلة) أن يساعد الفقيه على نقل الحكم من الواقعة الجزئية – أو السبب الخاص – و تعميمه على ما يشابهها من الوقائع و الحالات (بالقياس) . (2)
و هكذا ستتحول هذه الآلية المنطقية عن وظيفتها الحقيقية ؛ لتقوم بوظيفة أخرى من غير طبيعتها ؛ و هذا لا يرتبط فقط بالنصوص ؛ بل يتجاوزها ليتحول إلى آلية في التفكير ؛ سماها الأستاذ محمد عابد الجابري – من منظور ابستمولوجي ؛ آلية قياس الغائب على الشاهد ؛ و هي التي ستدخل العقل العربي في دوامة لا تنتهي ؛ و ستحول في منظوره التاريخ إلى شكل دائري ؛ يتداخل فيه الحاضر مع الماضي ؛ و تجد كل القضايا المعاصرة تفسيرها في زمان و مكان آخر غير زمانها و مكانها . (3)
إن هذا العقل هو الذي كرسه الفكر الديني الأرثوذكسي – بتعبير الأستاذ محمد أركون – الذي قتل روح التفكير والإبداع عبر تسييجه للعقل العربي الإسلامي بأسلاك شائكة ؛ هي التي تمثل ما يسميه علم الأصول بأصول التشريع ؛ و التي نظر لها الشافعي في رسالته الشهيرة ؛ و جميعها أصول تكرس سلطة النص ؛ و تقتل روح التفكير؛ ابتداء بالكتاب و السنة كمصدرين أساسيين ؛ و مرورا بالإجماع و القياس ؛ اللذان يؤكدان المصدرين السابقين . (4) الفصل الثاني
لذلك يمكن أن نفهم بشكل واضح كيف عمل الفكر الديني الأرثوذكسي على قتل تلك الروح التاريخية التي كان من الممكن أن تقود ثورة في الفكر الإسلامي؛ من دون تقيد بقواعد ترسخ التقليد؛ و تقتل روح العقل و التفكير.
و لعل هذه الروح التاريخية التي حوربت هي التي سمحت لعمر ابن الخطاب في العهود الأولى من التاريخ الإسلامي ؛ بأن يجتهد في التعامل مع النص الديني بحسب الظروف التاريخية ؛ و يقرر وقف حد قطع يد السارق ؛ و هذا لا ينطبق على منطوق النص ؛ بل يرتبط بالسياق ؛ الذي إن تغير يتغير بالضرورة منطوق النص .
كما أدرك عمر ابن الخطاب حكمة التشريع الذي يعطي الزكاة للمؤلفة قلوبهم من السياق العام للنص لا من بنية النص ذاته ؛ و لذلك فقد أدرك أن حكمة هذا (التأليف) تقوية الإسلام ؛ الذي كان ضعيفا ؛ و مع قوة الإسلام و سيطرته على الجزيرة العربية و امتداده إلى ما وراءها ؛ لم تعد ثمة حكمة في إعطاء جزء من الزكاة لمن لا يستحقها . و داخل هذا الفهم يستقر فهم آخر للحكمة من فرض الزكاة على الأغنياء و القادرين ؛ و إعطائها للفقراء و المحتاجين (5) ص: 104
و لعل هذه الاجتهادات في قراءة النص على ضوء المعطيات السياسية و الاجتماعية ؛ و في إطاره التاريخي ؛ هو ما يشكل المعنى الصحيح لمفهوم أسباب النزول ؛ بحيث لا يمكن للنص أن يحافظ على رسالته خارج سياقه التاريخي الذي ولده . مما يجعل مجموعة من الأحكام التشريعية التي جاء بها الإسلام ؛ تفقد منطوقها في العهود الأولى ؛ فما بالك بالعصر الحديث .
لكن الإشكال المطروح على الثقافة العربية الإسلامية الآن يرتبط بتخلف العقل العربي عن مسايرة الركب العلمي الحديث في مجال اللسانيات و السيميولوجيا و علم التواصل ... الشيء الذي يمكن النص من اختراق الزمان و المكان و السياق التواصلي الذي ينتمي إليه؛ مستغلا في ذلك ضعف المتلقي الثقافي لرسالته؛ و عجزه عن فك شفراتها؛ و هكذا يتحول إلى سلطة تمتد خارج الزمان و المكان ؛ و تحكم الحاضر من منطلق أحكام تدخل في سياق الماضي التاريخي و الثقافي و السياسي و الاجتماعي .
و عبر مقارنة بسيطة يمكن أن نستنتج أن القدماء كانوا أكثر إدراكا لمنطوق النص القرآني؛ من منظورهم العلمي المنطقي النحوي البلاغي؛ و لذلك كانوا أكثر جرأة في التعامل مع الرسالة التي يحملها ؛ و حاولوا مرارا إخضاعها لسياقها الذي أنتجها (المعتزلة على سبيل المثال لا الحصر) ؛ لكن عصور الانحطاط التي ستسود التاريخ العربي الإسلامي فيما بعد ؛ ستأتي على هذه المحاولات ؛ و ستفتح الباب أمام النص ليخرج من سياقه ؛ و يمتلك سلطة لا تاريخية ستمكنه من القدرة على الاستمرار حاملا رسالته الأولى .
إن الحقيقة التي تفرض نفسها على الباحث العلمي ؛ و هو يسعى إلى مقاربة هذه الإشكالات ؛ لا تخرج عن الاقتناع التام بوجوب التسلح بالمعارف العلمية الحديثة في قراءة النص القرآني لتأكيد تاريخيته و سياقيته ؛ و بالتالي محاولة ربطه بإطاره التاريخي ؛ و سياقه الاجتماعي و الثقافي و السياسي الذي ولده .
و من دون هذا التوجه سنستمر في خوض المعارك الدونكيشوطية تلو المعارك ؛ و في الأخير سيكون مصيرنا الفشل الذريع كما هو الشأن في معاركنا السابقة .
و بالتالي سنخسر كل الرهانات السياسية المرتبطة بالديمقراطية و الدولة المدنية و العلمانية ؛ و معها سنخسر باقي الرهانات الأخرى اجتماعيا و ثقافيا و اقتصاديا ...

الهوامش :
1- نصر حامد أبو زيد – مفهوم النص : دراسة في علوم القرآن – المركز الثقافي العربي – ط: 6 – 2005 – ص: 97 .
2- نفسه – ص: 102- 103 .
3 - محمد عابد الجابري- الخطاب العربي المعاصر : دراسة تحليلية نقدية – ط:4 – مركز دراسات الوحدة العربية .

4- محمد أركون – تاريخية الفكر العربي الإسلامي – ترجمة: هاشم صالح – المركز الثقافي العربي – ط : 2 – 1996 .
5- نصر حامد أبو زيد – مفهوم النص – المرجع السابق – ص: 104 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مختلف عليه - الإلحاد في الأديان


.. الكشف عن قنابل داعش في المسجد النوري بالموصل




.. شاهدة عيان توثق لحظة اعتداء متطرفين على مسلم خرج من المسجد ف


.. الموسى: السويدان والعوضي من أباطرة الإخوان الذين تلقوا مبالغ




.. اليهود الأرثوذكس يحتجون على قرار تجنيدهم العسكري