الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في تفسير التاريخ ( 2 )

رياض العصري
كاتب

(Riad Ala Sri Baghdadi)

2009 / 2 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


العوامل المحركة للتاريخ
الانسان له تاريخ لان له ذاكرة ويمتلك الوعي والادراك , وان تجارب الماضي لها مكان في ذاكرته وفي تفكيره وبالتالي يستمد منها العبر والدروس , تاريخ الانسان ارتبط بقدرته على التفكير والانتاج , الانتاج بنوعيه المادي والفكري هو انعكاس لقدرته على التفكير وهي سمة له , عندما بدأ الانسان القديم ينتج مادة او فكرا اصبح له تاريخ , ان تطور وسائل الانتاج التي صنعها الانسان كان له دور في تطوره الحضاري وبالتالي في حركة التاريخ , انتقال الانسان القديم من مرحلة الصيد الى مرحلة الزراعة أدت الى تحول تاريخي في مسار حياته حيث تحول من مرحلة الاقامة المؤقتة بحثا عن الغذاء الى مرحلة الاقامة الدائمة قرب مصادر الغذاء فنشأت المستوطنات وبالتالي بدأ عهد الانتاج ومن ثم ظهرت الحاجة الى الحساب والكتابة وقوانين تنظيم العلاقات الاجتماعية , وهكذا سارت عملية تطور المجتمعات البشرية , في الحقيقة ان حركة تطور المجتمعات لم تجري على وتيرة واحدة او نسق واحد , فهذه الحركة تتوقف نوعيا وكميا على عوامل عديدة , فاذا كانت أي حركة مادية من الناحية العلمية تشترط وجود مادة وطاقة , حيث لا وجود لصفة الحركة دون وجود كل من المادة والطاقة , والمادة المتحركة انما هي مادة ذات طاقة عندما تنضب طاقتها تتوقف حركتها هذا ما تنص عليه قوانين الطبيعة , فاننا نستطيع ان نفترض بان المجتمع يمثل هنا المادة ,وان الطاقة المحركة لهذه المادة اي للمجتمع هي العوامل الصانعة للحدث والتي تنبثق نتيجة تفاعلات او اضطرابات او تحولات في الداخل لاسباب داخلية او خارجية , بمعنى اخر ان حركة التحولات في المجتمع تتأثر بعوامل داخلية وعوامل خارجية وهي ايضا مؤثرة في محيطها الخارجي , العوامل الداخلية ناجمة عن الصراعات الداخلية التي قد تكون لاسباب اقتصادية ( صعوبات المعيشة , جوع , بطالة , تفاوت طبقي ) او اسباب اجتماعية ( ظلم , حرمان , تمييز طبقي او عرقي او جنسي ) او اسباب سياسية ( صراع على السلطة والنفوذ ) , وحتى الصراعات ذات الطابع العقائدي او الديني فانها تندرج تحت الاسباب الثلاثة السابقة , الصراع الداخلي قد يكون مسلح او غير مسلح ويتوقف ذلك على طبيعة الاطراف المتصارعة ونوع ومقدار التحدي , اما العوامل الخارجية فتتمثل في قوى الهيمنة اوالاحتلال او الغزو من القوى الخارجية المجاورة او غير المجاورة , وهذه لها دوافع اقتصادية وسياسية تتمثل في استغلال الشعوب المحتلة ونهب ثرواتها و السيطرة الجغرافية , وكثيرا ما كانت الجغرافية احدى القوى المحركة للتاريخ تحت بند الاسباب السياسية , الصراع ضد القوى الخارجية غالبا ما يكون مسلحا من خلال الحروب او الغزوات , اما غير المسلح فيتحول الى اسلوب الحرب الاقتصادية او ما يسمى بالحصار اوالمقاطعة الاقتصادية , فيدخل الاقتصاد كسلاح من أسلحة الحرب , هناك وسائل ساندة لهذه العوامل المحركة , وهذه الوسائل هي المال والسلاح والعلم , فالمال وسيلة قوية في اسناد الحركة والسلاح وسيلة مهمة في تنفيذ الحركة كما ان العلم يعتبر ايضا سلاح ساند في تنفيذ اي حركة بغض النظر عن طبيعة اتجاه هذه الحركة , فهذه الوسائل الثلاثة أدوات بيد القوى المحركة للتاريخ , الدور القيادي في توجيه الحركة لا يمكن انكاره , موقع السلطة ضروري للقيادة , فلا قيادة من غير سلطة , وهكذا تصبح السلطة هدفا لكل قيادة , وهنا يحدث الصراع والتنافس على السلطة ليصبح هذا الصراع جزءا من العوامل السياسية المحركة التاريخ . ان حالة التحول والصيرورة التي يخضع لها المجتمع تمثل صفة الحركة في معادلة المادة والطاقة , ومعلوم من الناحية العلمية ان اي حركة لها مقدار ولها اتجاه , فقد يكون مسار حركة التحولات في المجتمع باتجاه الامام ليحصل تقدم وتطور في المجتمع , او يكون الى الخلف ليحصل تراجع وتخلف في المجتمع , العوامل المحركة للمجتمع تقدما او تراجعا هي نفسها العوامل المحركة للتاريخ , فاذا كنا نسعى الى تطوير مجتمعاتنا وتقدمها علينا ان نوجه حركة التحولات باتجاه الامام من خلال التجديد والتحديث في انظمتنا ومفاهيمنا وعقائدنا ولا نبقى متمسكين بالقديم , العامل الاقتصادي عامل رئيسي في تقدم المجتمعات وفي حركة التاريخ , الحاجة المادية والعوز والضيق في المعيشة هموم اقتصادية تكمن فيها قوة دافعة لتحريك المجتمع , الثروة في المجتمع عامل أمان واطمئنان , الثروة بنوعيها الطبيعية والبشرية ركيزة الاقتصاد , مع عدم اغفال اهمية امتلاك القوة المسلحة لحماية هذه الثروات من الاعداء الطامعة , وكذلك اهمية امتلاك العلم والمعرفة لتعزيز ملكية المجتمع من الثروة والقوة , فالثروة مهمة والقوة مهمة والعلم مهم ايضا , في العصور السابقة كانت القوة فقط هي الاداة الفعالة في صنع التاريخ , فكم من اقوام فقيرة انتصرت على اقوام غنية بفعل القوة التي كانت تمتلكها , فذهبت ثروات المهزوم الى المنتصر , القوة المنتصرة قد تكون قوة همجية , في الصراعات المسلحة قد تنتصر الهمجية على الحضارة , هناك مبدأ ثابت : النصر في المعارك ليس معيارا للاستحقاق , فليس كل منتصر صاحب حق , في قوانين الصراعات المسلحة يكون الحسم دائما لصالح الطرف الذي يمتلك اكبر قدر من المادة والطاقة مهما كانت استحقاقات كل طرف , المادة والطاقة تمثل قوة , في الصراعات تكون القوة نوعين مادية ومعنوية , القوة المادية تتمثل في البشر المقاتلين بمساندة المال والسلاح والعلم , واما القوة المعنوية فتتمثل في مدى استعداد هؤلاء المقاتلين للتضحية في سبيل الدوافع التي دفعتهم للخروج للقتال بغض النظر عن مدى مشروعية او مصداقية هذه الدوافع , الصراع و المنافسة هما جوهر حركة التاريخ , المنافسة من أجل الغذاء من أقدم المنافسات بين البشر, ثم توسع المفهوم ليشمل التنافس من أجل حيازة الممتلكات والدفاع عن الانتماءات , الممتلكات لها قيمة مادية والانتماءات لها قيمة معنوية وكليهما تمنح الانسان الشعور بالقوة والمنعة والسلطة والنفوذ , التنافس السلمي بين البشر من أجل الغذاء او الماء او الممتلكات او الانتماء قد يتحول الى صراع موت او حياة عندما يحل التشدد والتطرف بدل التفاهم والتوافق , عندما يحل صراع الموت او الحياة بين البشر تنسحب القيم الاخلاقية , هذه من قوانين الطبيعة , عندما يتخلوا البشر عن عقولهم وضمائرهم فان قوانينهم الاخلاقية تتوقف لتحل محلها قوانين الطبيعة , عندما يشتد الجوع تنتهي القيم , عندما يشتد الخوف والفزع لن تبقى الفضيلة , عندما يقترب خطر الموت تتبخر الاخلاق , اذا كنا نحرص على الحضارة الانسانية فيجب ان لا ندع علاقة الانسان بأخيه الانسان تقع تحت هيمنة قوانين الطبيعة , العلاقات البشرية تتوثق عراها من خلال تعزيز المفاهيم الاخلاقية في النشاطات الاقتصادية والسياسية للحد من الصراعات والنزاعات , المفاهيم الاخلاقية عادة تكون مستمدة من المنظومة القيمية للمجتمع , المنظومات القيمية في المجتمعات تصنعها معتقداتها , والمعتقدات هي نتاج التفاعل بين البيئة بمناخها وثرواتها وجغرافيتها وبين طبيعة النشاط الاقتصادي البشري السائد فيها , وهذه المنظومة القيمية بدورها تصنع انظمتها الاقتصادية والسياسية في عملية ترابط جدلي , فالنظام السياسي هو انعكاس لنوع الثقافة والقيم والمعتقدات السائدة من ضمنها العقيدة الدينية وكذا الحال بالنسبة للنظام الاقتصادي , وعندما يصبح النظام السياسي او الاقتصادي عائق امام حركة تطور المجتمع فيجب اعادة النظر بالقيم والمعتقدات السائدة والتي تشكل ثقافة المجتمع وبنائه العقائدي , فلا يمكن احداث اصلاح في النظام السياسي او الاقتصادي في اي مجتمع اذا لم يرافقه اصلاح وتجديد في منظومته القيمية , بمعنى التجديد في البنية التحتية للنظام الفكري والاخلاقي في المجتمع , وهنا يأتي دور الاصلاح والتجديد في الفكر , اذ لا يمكن ان يبقى الفكر جامدا اذا أريد منه ان يكون ملبيا لحاجات وتطلعات المجتمع , الفكر يحتاج الى صيانة دورية وعمليات تهذيب وتشذيب ليتوافق مع الواقع المتغير, عندما يتعارض فكر النظام السياسي مع حركة النشاط الاقتصادي في المجتمع فان الاقتصاد هو الذي يقود حركة التغيير في السياسة وليس العكس , وان محاولة النظام السياسي لادارة النشاط الاقتصادي وتسييره وفق نظرية لا تتماشى مع حرية الحركة للنشاط الاقتصادي فان هذه المحاولة ستبوء بالفشل , مبدأ حرية النشاط الاقتصادي والمنافسة الحرة ينسجم مع قوانين الطبيعة وان محاولة فرض نظرية اقتصادية تتعارض مع قوانين الطبيعة باساليب القوة والقهر لن تدوم مهما طال عهدها , لان الاقتصاد الحر طاقة متجددة , والطاقة المتجددة طاقة حياة وقوة دافعة اذا منعت من الحركة فانها ستؤدي الى عواقب وخيمة ومدمرة على النظام الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي , ومن هنا فنحن نعتقد ان حصول تغيير نوعي في النظام السياسي في الصين مستقبلا شيء متوقع بل وحتمي على ضوء التحولات الكبيرة الحالية في الانشطة الاقتصادية في ذلك البلد وما يرافقها من تحولات في النظام الاجتماعي , من حق اي حكومة ان تتدخل لمنع الاحتكار وكبح جماح التضخم في بلدها ولكن ينبغي ان لا تتعرض لحرية النشاط الاقتصادي , اقتصاد السوق هو الخيار الصحيح لتعزيز المنافسة وتطوير الانتاج من حيث الكم والنوع , التجارة الحرة مبدأ يناسب روح العصر الذي نحن فيه وان الانظمة السياسية الحالية يجب ان تضع ذلك في برامجها , فحيثما يتجه الاقتصاد تتبعه القوانين الاجتماعية والسياسية , والمجتمعات في كل مكان عندما تحقق ااشباع حاجاتها يسودها الاستقرار , وقد اختلفت النظريات الاقتصادية في كيفية تحقيق اشباع الحاجات كما اختلفت النظريات السياسية في كيفية تحقيق الاستقرار الاجتماعي , في ادبيات الفكر الاقتصادي اليساري يتم تداول مبدأ ( من كل حسب طاقته , ولكل حسب حاجته ) نحن نرى ان الشطر الاول من هذا المبدأ يتفق مع قوانين الطبيعة ومع الدواعي الانسانية ومع المنطق , لان قدرات الانسان هي منحة من الطبيعة تضعها في جيناته الوراثية وفقا لقوانينها , والطبيعة لا تمنح البشر قدرات ومواهب متساوية , وبالتالي فان طاقات الاشخاص متباينة , وان كل انسان ليس بوسعه ان يبذل من طاقته اكثر مما منحته اياه الطبيعة , ولكن الشطر الثاني ( لكل حسب حاجته ) لنا فيه وجهة نظر رغم اننا نؤمن بان احتياجات كل انسان تختلف من شخص لاخر , ولكن ما هي المعايير التي تصلح لتحديد حاجات كل فرد ؟ في عمليات الانتاج ما هي المعايير المتبعة لتحديد أجر العامل المنتج او سعر السلعة المنتجة ؟ الاجر الذي يمنح للانسان العامل مثلا هل يكون حسب الجهد الذي يبذله في العمل ام حسب مقدار حاجته من المال ؟ سعر السلعة هل يحدده منتجها حسب مقدار حاجته للمال ام حسب الجهد الذي بذله في انتاجها ؟ هنا لدينا اشكالية ( الاجر – الجهد – الحاجة ) , نحن نعتقد ان الاجر او السعر يجب ان يكون حسب الجهد المبذول ان كان جهدا عضليا او جهدا ذهنيا , لان ذلك هو اساس العدالة , لكل حسب ما بذل من جهد او طاقة , نعم ان البشر ليسوا على قدر متساوي من الطاقة والصحة , وليس بوسع الانسان ان يختار لجسمه طاقة اكثر مما منحته اياه الطبيعة , وان الجهد الذي يبذله انما هو مما يمتلكه من الطاقة العضلية او الذهنية , فاذا كانت الطبيعة قد منحت انسان ما جسما ضعيفا فان جهده العضلي بالتالي سيكون ضعيف , وقد يكون هذا الشخص متزوج ومسؤول عن عائلة واحتياجاته اكثر من قدراته العضلية او الذهنية , وبالتالي فانه سيعجز عن اشباع حاجاته وأسرته , ولكن هذا الاختلال في الموازنة بين الاجر والحاجة مشكلة لا سبيل لحلها لان هناك عنصر ثالث في هذه الموازنة وهو الجهد , اننا نعتقد ان اشباع حاجات كل انسان تقع بالاساس على عاتق الانسان ذاته وهي مسؤوليته وتقع تحت ارادته ومشيئته , والانسان يجب ان يتصرف وفقا لقدراته وليس وفقا لرغباته , ويجب ان لا ننسى ان الطمع والجشع والانانية هي من الصفات البشرية واما القناعة قهي صفة نادرة , فالانسان بطبعه يرغب في المزيد , وبالتالي فان الاسلوب الصحيح هو ربط استحقاقات الانسان من الاجر بجهده وعطائه وفقا لقواعد الحق والعدالة , وان يتحكم الانسان في تحديد حاجاته لتتناسب مع دخله او استحقاقاته , هذا بالاضافة الى ان مبدأ لكل انسان حسب حاجته ينطوي على ضرر يقع على المصلحة العامة , حيث يتحول هذا المبدأ الى ذريعة للكسل وفتور الهمة وضعف المنافسة في العمل , ان مبدأ المنافسة في الانتاج من المباديء التي تتفق مع قوانين الطبيعة ولها اهمية كبيرة في عملية التقدم والتطور المادي , من يريد التطور والتقدم يجب ان يشجع اساليب التنافس في العمل والانتاج , وان مبدأ لكل انسان حسب حاجته يقتل روح المنافسة ويعطل نمو المواهب والطاقات الابداعية , وبالتالي فان المبدأ الصحيح هو من كل انسان حسب طاقته ولكل انسان حسب جهده , مع مراعاة حقوق الانسان في الضمان الاجتماعي عندما تضعف قدراته البدنية ويقل مجهوده بسبب كبر السن او المرض , وان الدولة بحكم مسؤوليتها عن مواطنيها فانها تتحمل جانب من الالتزامات المتعلقة بتلبية الحاجات الاساسية لمواطنيها ممن هم ذوي الدخل المحدود من خلال برامج خاصة تعدها لهذا الغرض وفقا لامكانياتها
الجزء الثالث من المقال سيكون حول ( تفسير عقيدة العصر الجديد للتاريخ )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و