الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التقديس في الذهنية الاسلامية

مهدي النجار

2009 / 2 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


استطاعت اكثر شعوب الارض ان تخرج من نفق تخلفها بعد ان راهنت رهانات عسيرة بفتح اضابير ماضيها بما تحتويه من احداث ووقائع ورموز شخصيه وتضع كل ذلك تحت الفحص والمساءلة والتمحيص والتدقيق وبالتالي الغربلة والانتقاء بعد اخراج تلك الاضابير من اسيجة التحريم والتقديس والتبجيل إلا ان ما يراهن عليه المسلمون في اغلب سجالاتهم وحواراتهم الثقافية (خاصة المتشددين والتقليديين) هو الاذعان دون قيد او شرط لذاك الماضي الساحر الذي تدفق نوره في زمن سحيق ليملأ الدُنيا خيراً ومعرفة وسلاماً، ينظرون الى ماضيهم بعين الرضا وعين الاطمئنان والاستحسان كأن الازمنة لم تتغير وكأن احوال الناس ومعاشاتهم لم تتبدل، يشدهم الى ذلك الانذهال والتقديس لشخصيات تاريخية وبشرية يخرجونها عِنوة من أسفار تاريخيتها وانماط بشريتها ليجعلوها رموزاً مفارقة وخارقة وبين حين وآخر، وكلما جفت عندهم منابع المعرفة، يِلَبسوّنَ تلك الشخصيات الاعجازية البسة المعاصرة والحداثة ويلغون بضجيج وصخب حركة التاريخ بانعطافاتها وتعرجاتها، كأن رموزهم تلك لم تكن تعيش ازمنتها وبيئاتها بما فيها من مشاكل واسئلة وحاجات وموارد طبيعية ومعرفية، كأن رموزهم تلك تمتلك الحقيقة، كل الحقيقة، وتمام الحقيقة، لذا توجب تسييجهم بالعصمة وعدم نقدهم او النيل من معارفهم او تخطيئهم فهم بمثابة شخصيات لاتغفل ولا تسهو ولاتنطق بغير الاتقان الكامل والصواب الاكيد وليست فيها نواقص لا في علمها او سلوكياتها او اخلاقياتها لذا صار لزاماً على الاتباع ان يسرفوا في المديح والاطراء والمبالغة في التقديس والتبجيل دون ان يكلفوا انفسهم الكد والسعي لاكتشاف مواقع الخلل في حياتهم اليوم عن طريق تفكيك ماضيهم وقراءة ذلك الماضي قراءة نقدية صارمة من اجل التخلص من قيوده ومعوقاته.وبالطبع تنسحب دائرة التقديس من السالف الى الراهن لتشمل تقديس الرموز المعاصرة من سياسيين ومشايخ ....
إن الامر لايتعلق فقط بضلوع الجماهير (او العوام كما يسميهم الغزالي) في توسيع مساحة تقديس رموز الماضي، خاصة الدينية، حتى تصل الحالات الى ذروتها في تجريح الذات وإدمائها والامتهان من كرامتها وتفجير كل طاقات الإلتياع والخيبة والالم والجنوح الى طقوس نَّدب وبكاء عارمة في حدتها مفادها يتخلص بالتوسل والتشبث والاستغاثة بأرواح الاموات لحثهم على النهوض وتخليصهم من المصائب والنوائب والاهوال التي حلت بهم من خلال ممارسات طقوسية توغل في إيذاء النفس والتنكيل بها الى اقصى حد. إن الامر يتعلق كذلك بنخب ثقافية متشددة تخصصت في تأجيج مشاعر التقديس وأعتاشت منها وعليها وهي التي لا تمتلك غير رأسمال وحيد هو حكايات بائدة لاتاريخية ولا عقلانية مُشبعة بالخوارق والاساطير تُعيدها وتُصقل بها وتُلقيها على مسامع الناس كل يوم دون ملل او كلل وبأصوات مُنغمة ونبرات مُثقلة بالتأوه والفجيعة تستدر بها دموعهم وحسراتهم، حكايات تُلف لفاً مُحكماً بأحزمة غليظة من احزمة التقديس الديني حتى تغدو بعيدة كل البُعد عن منال النُقاد والمتسائلين!! ويغدو النخبة الدينية وحده مرجعية لا يُسأل عما يفعل وعما يقول، فعلى سبيل المثال تذهب الجهالة التقديسية الى استحضار اقصى ما لديها من حجج وهمية لإثبات صحة ومعقولية بعض الإعجازيات المتعلقة بالرموز الدينية وحشرها في لائحة العلوم المعاصرة مثل احاديث الاستشفاء بأبوال الإبل او اجنحة الذباب او تنظيف الاسنان واللثة بالسواك وتستبعد (او تضعف) من دائرة قراءاتها التقديسية كل ماهو عقلاني وما زال مفيداًً للاجتماع الانساني مثل حديث تأبيد النخل الذي ينتهي بقولة مشهورة قالها الرسول الكريم ومازالت صالحة لكل الازمان ولكل الشعوب: " أنتم اعلم بأمور دنياكم" ومفاد قصة تأبيد (تلقيح) النخل التي وردت في صحيح مسلم/ج4 : رويَّ عن عائشة وعن ثابت وعن أنس أن النبي مر بقوم على رؤوس النخل يلقحون فقال: ما أظن يغني شيئاً. فخرج شيصاً، فمر بهم فقال : ما لنخلكم؟ فقالوا: قلت كذا وكذا. قال: انتم أعلم بأمور دنياكم.
إن الملفت في دائرة التقديس المنحفرة في الذهنية الاسلامية هو عدم رجوعها الى المرجعية التأسيسية، القرآن الكريم، وسبر أغوارها لأستنباط الخواص البشرية لتلكم الرموز، فهاهو رب العزة يأمر رسوله المصطفى (وهو قمة الرموز الدينية والتاريخية الاسلامية) بأن لا يتعالى فوق المجال البشري: "قُل إنما أنا بشرٌ مثلكمُ يُوحى إليَّ"[فصلت:6]/ " قُل سُبحانَ ربّي هَلْ كُنتُ إلاَّ بشراً رَسولاً" [الاسراء:105 ] / "قُل لا أملِكُ لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاءَ اللهُ " [يونس:49 ] /" قُل لا أقولَ لكمُ عِندي خزائنُ الله ولا أعلمُ الغيبَ ولا أقولَ لكم أنيّ مَلكٌ إن أتبعُ إلا ما يوحى اليَّ" [الانعام: 50]/ " لو كنتُ أعلمُ الغيبَ لاستكثرتُ من الخير وما مسني السوءُ إن أنا إلا نذيرٌ وبشيرٌ لقومٍ يؤمنونَ "/ " قُل إنّي لا أملِكُ لكم ضَرّاً ولا رَشداً* قُل إنّي لن يجيرني من اللهِ أحدٌ ولن أجدَ من دونه مُلتحداً " [الجن:21 ،22 ]/ "وقالوا مالِ هذا الرسُولِ يأكلُ الطعامَ ويمشي في الاسواق" [الفرقان:6 ] / "هل هذا إلا بشرٌ مثلكمُ أفتأتونَ السِحرَ وأنتم تبصرون"[الانبياء:3 ]. وكان الرسول الكريم نفسه قد نهى أتباعه عن المغالاة في التعظيم والمديح: " لاتعظموني كما عظمت النصارى أبن مريم" وقال ايضاً:" أحثوا في وجوه المداحين التراب" ،فكيف الامر مع هؤلاء التقديسيين الذين فقدوا التوازن في الاحترام والحب ومالوا الى الغلو في تقديس رموزهم الى حد انتزاعهم من الحيز البشري الذي هو في نهاية المطاف يجمع بشراً يصيبون و يخطأون، اولئك الرموز الاجلاء الذين يستحقون الاحترام والاعتزاز لأنهم حملوا رسالات بالغة الاهمية والخطورة ليخرجوا الناس من الظلمات الى النور، لا لكي يتدخلوا في كل شاردة وواردة من حياة المجتمعات: " قُل هو من عند أنفسكم ان الله على كل شيء قدير".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - التقديس
محمد الخليفة ( 2009 / 2 / 25 - 10:23 )
كلامك جميل ويعجبني روعة اسلوبك السهل في مقالاتك المعبرة والهادفة ،ولكن استشهادك بنصوص دينية سواء من القرآن أو من السنه وأنت في مجال نقد سلوك المسلمين ووضعهم المزري ينزع من المقال روعته فأنت تداوي أي موضوع تريد طرحة بأسلوبك الرائع وملكتك الثقافية بالتي هي الداء، فاستدلالك ببعض النصوص التي تنتقيها من القرآن أو الأحاديث لا تسهم في أثبات ما تود معالجته لأنه استدلال هش لإن لدى هولاء المقدسين مايثبت سلوكهم من نفس المنابع التي تستقي منها أدلتك وشكرا جزيلا لك

اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال