الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانسان الصرصار ..قراءة سوسيو -أبستمولوجية في تراجيديا القهر الاجتماعي

علاء جواد كاظم

2009 / 2 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"الحياة ..تلك ضعة لا يحتملها ذهني كانت تتحول الى أحساس مباشر ومستمر... بأنني لم اكن غير ذبابة في اعين الناس، ذبابة كريهة حقيرة – وبالرغم من أنني كنت اشد منهم ذكاء وثقافة وأرق منهم شعورا طيعاً-الاأنني كنت ذبابة أفسح المجال للجميع دائماً ،ذبابة يحتقرها ويهينها الجميع ابداً .ولكن لماذا كنت اسبب لنفسي كل ذالك العذاب ...؟" الانسان الصرصار: ديستويفسكي

يمثل الشرق الاوسط في أذهان الكثيرين من باحثي العالم المتحضر نموذجاً للجغرافية الظلامية التي ضحت وقدمت الفرد قرباناً للمجتمع.,والتاريخ قرباناً للسلطان ،والمستقبل قربانا للألهه والاصنام....من هذا نستنتج فورا ان لا يمكننا أبداً في الشرق - الحديث عن مجتمع مُكون من توحد الافراد. فأينما وكيفما أردتم البحث عن الفرد - الانسان - في هذا الشرق فلن تجدوا له أثراً !؟لانه غير موجود بتاتا ,و ليس الشرق الا تكدسا للعشائر والقبائل والجماعات والعائلات والعنف المرتبط وظيفيا بها ...
تشكل هذه القراءة محاولة أولى في طريق الكشف عن بعض من الإبعاد السوسيو - أبستمولوجية الكامنة في ظاهرة الغاء الفرد واستلابه وجعله ضحية للمجتمع المقدس في عقل الجماعة، كما حاولت رصد الأبعاد نفسها في ظاهرة الصراع أو لقاء الاضداد في جدلية المحدود "الانسان" والمطلق »المجتمع، الدولة، الموروث «في المجتمع العراقي المعاصر باعتباره جزءاً روحياً فاعلاً من جغرافية الشرق الاوسط. كما تسعى هذه القراءة بجدية تامة للقيام بتحليل الأطر الاجتماعية والجذور التاريخية التي أدت الى أن تصل بعلاقة الاضداد (المحدود والمطلق) الى هذا الشكل من التطرف والتشوه والإلغاء المتبادل من قبل الطرفين، بخاصة في المرحلة الراهنة التي يعيشها الانسان مع مجتمعه في العراق اليوم، ومن ثم محاولة تكريس هذه الباثولوجيا الاجتماعية بالتنظير لها سوسيولوجياً وكأنها عقيدة مقدسة وحقيقة لا تقبل أي نوع من الجدل فيها.
في هذا الرصد المايكروسوسيولوجي للتفاصيل الصغيرة المشردة ظهرت الحياة الاجتماعية تحت مجهر الباحث بركة راكدة تعفنت مياهها وتحول فيها الانسان الى كائن غريب عاجزا ومدركاً للعجز الذاتي الذي أصابه" لاشك في انهم كانوا ينظرون الي بأعتباري ، حشرة عادية "هذا الانسان الذي أصطلح عليه – في هذه القراءة "صرصاراً أجتماعياً –" يعيش اغلب ايامه ملتصقاً بالجدران المظلمة في قبوه الاجتماعي،متحسساً/ محركاً شاربيه بأتجاه الاعلى والاسفل، ثم الأسفل والأعلى متأملاً بعقده العصبية البسيطة وعينيه الكبيرتين حاله في هذه الامة وحال الرعية، أنقلابات الماضي وتحولات الحاضر في ذاكرته القصيرة؟ في ما يقضي ايامه الاخرى مختفياً »لابداً «في الثقوب السوداء في الجدار الاجتماعي او تحت الارض تلك"المدن الفقيرة التي تشكل اليوم ثلثي المجتمع المعاصر" متسائلاً بأستغراب شديد: ما الذي وصل بالامور إلى هذا الحد؟
لماذا أصبحنا صراصير أجتماعية؟ أين ذهبت انسانيتنا؟من صادر من ..؟ومن المصادر..؟ الى غير ذلك من الاسئلة المحرجة، التي يمكن ان تكشف، ولو في التحليل النظري، عن عوامل التحول القهري وتزويرالانسان وتحويرصفاته وخصائصه لتتلائم مع وجهة المجتمع الحديث.الى النهاية على مستوى التاريخ وعمق الجغرافية ...
ان مأساة الانسان في العراق الحديث تعيد حقاً في ذاكرة الوعي الفردي والاجتماعي على حد سواء مأساة المسكين سيزيف في الاسطورة اليونانية القديمة وإذ كان كامو يردد على الدوام مسكين سيزيف؟ نعيد نحن وراءه اليوم »البكاء والنحيب« على أنفسنا في صدر الآخر: مسكين هو الانسان؟مساكين نحن "والله خطية" هذا المخلوق الغريب الذي اشتبكت في ذاكرته الأزمنة، وتداعت في حقله القيم، ونسفت فيه جدران الشخصية الوطنية وتداخلت مع أطر ألانا فيه و(الذات) لديه مشاعر الاحتقار والدونية ازاء نفسها بينما تسربت مشاعر التعظيم والتقديس الى أطر علاقته مع الآخر الجلاد، في حقله الاجتماعي المعاصر.

الحقيقة اننا في المجتمع الحديث نعيش في ظل مؤسسات وأنظمة تحيل الانسان الى كائن منفعل بالواقع وغير فاعل فيه، كائن يجد ان من اولى مهماته ان ينسجم ويرضخ ويتقولب ويرضى بحرمانه، كائن مقلد لا مبدع، مصغ لا محاور، تابع لا قائد، مستسلم لمصيره لا مسيطر عليه. وهي مؤسسات تريد الانسان ان يقتنع بأنه لا يملك القدرة ولا حتى الامكانية لكي يستجيب لتحديات العصر وليس من اختيار امامه غير القبول بالوضع الراهن (٢)وبالتالي الصرصرة.
اما على مستوى المجتمع العربي بأعتباره طرف المعادلة الآخر فمازال يعاني من العجز، وانحلال القيم وما يرافق ذلك من تفكك أجتماعي (social anomie) وفساد الإدارات والحياة اليومية وعدم فاعلية الأنظمة والسعي لتحقيق الغنى المادي بأقصر وقت ممكن وبأية وسيلة.. وبالتالي فإن المجتمع العربي الذي يهزم كل يوم ومن أول مواجهة مع العدو يتمدد من الخليج الى المحيط مثل أخطبوط رهيب جف فيه ما الحياء والحياة (٣).
نبني على هذا امر مفاده ان اغتراب الانسان وانجراحاته في المجتمع العربي بعامة، والمجتمع العراقي بخاصة، ليس سمة نفسية أو نزقاً جامحاً أو شطحه ذهنية بل هو انعكاس طبيعي لمجتمع مفكك يعاني شتى أشكال الانوميا، مصادر لجهات أخرى» لم يتسلم بعد مقاليد حكمه وادارته النفسية والاجتماعية وحتى السياسية والاقتصادية الى الان بيده» وهذا بالضبط ما دفع بنا الى أعتبار ان مقولة "الفرد كائن أجتماعي" هي تراجيديا أجتماعية تتضمن بشكل جدلي خطير كل اشكال القهر والتهميش والتصفية الكاملة للفرد في بوتقة (العائلة، العشيرة، القبيلة، الجماعة، الطائفة، القومية).
الحقيقة أقول ولا أتمنى أبداً ان تثير هذه القراءة - أو الإشكاليات التي قد تترتب على كشف المستور والمسكوت عنه في يوميات الانسان المعاصر هذه - لدى القارئ أو في ذهنه أيٍ من مشاعر المرارة والاشمئزاز والرفض أو اثارة الخوف من عرضة التحول فعلاً الى صراصير إجتماعية تثير الشفقة. إلا انني اظن انها قد تساهم والى حد كبير في تثويره إجتماعياً. ودفعه الى الوقوف في الجانب الآخر من معادلة الصراع الاجتماعية؟ وهي غاية الدراسة التي تعتقد ما مفاده انه اذا كان قد انتشر في خمسينيات القرن الماضي الحديث عن الحاجة الى علم أجتماع يخص الثورة وحركات التمرد، التي انتشرت في المجتمع العربي والعراقي انذاك، بأهتمامه وتناوله العلمي ومن ثم ظهور العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية والسياسية التي تناولت الثورة في كل جوانبها وقطاعاتها، فأننا اليوم، حسب ظني، بحاجة ماسة وشديدة الالحاح إلى علم اجتماع وعلم نفس يتعاونا معاً بجدية من أجل فهم حقيقي لظاهرة الخمول واللافاعلية (اللا ثورة) " اقصد الثورة النفسية والاجتماعية جتى لا يساء الفهم " لدى الاغلبية الساحقة من قطاعات الشعب في المجتمع العربي الحديث على وجه العموم وفي المجتمع العراقي في المرحلة الراهنة على الاقل.
وحسب ظننا ان تراجيديا القهر الاجتماعي الكامنة في مقولة »الانسان كائن اجتماعي «أو مقولة »الانسان الة أجتماعية «أو »الانسان الجسر الذي يؤدي الى المطلق «أو حتى »الانسان بعير الصحراء الاجتماعية« كل تلك (الكليشهات) والمقولات السوسيو - فارغة التي تعتبر غطاءاً نظرياً يكرس الواقع المتخلف كما يثبت شكل العلاقة المشوشه في ثنائية الفرد والمجتمع (المواطن والدولة)، (الذات والموروث) والتي باتت تهدد الوجود الانساني الحر الأصيل وتبقى مستحيلة على الفهم ما لم نجر تفكيكاً ثقافياً اجتماعياً تاريخياً لها وأعتبارها ظاهرة باثو - اجتماعية تقبض بعنف على حقيقة العقل الفاعل وامكاناته للانسان في المجتمع العراقي الحديث، كما تخنق بأستمرار الفعل الانساني الذي من شأنه ان يعيد المجتمع المجروح بالعنف الى حالته السوية.
والحقيقة ان هذه المقولات كانت اعتُمِدَت فعلاً كأنطلاقة نظرية وبديهيات سوسيو - أبستمولوجية لاغلب باحثي علم الاجتماع اليوم، أنطلاقاً من مبدأ أن الانسان جزء من مجتمع والتعامل مع الاخير على انه (مخلوق خرافي - مطلق) علة نفسه، وهو البداية والنهاية ولا يمكن ان يكون غير ذلك أما الفرد فمجرد رقم صغير جداً في معادلة مطلقة هي المجتمع اما الفرد فهو صرصار أجتماعي (ألة) إجتماعية أو جسر أو بعير في صحراء المجتمع اللامتناهية.
وأعتراضنا ان هذا المنطلق (المنزلق) النظري ممكن ان يثبت اساساً متيناً ميتافيزيقياً يسمي (الفرد) جزءاً من كل هو المجتمع، ولأن الجزء ادنى منزلة من الكل أضحى الفرد بموجب هذا المنزلق ادنى منزلة من المجتمع. هذه النتيجة تقطع علينا أمكان القول بالعبارة كاملة اي» الانسان كائن أجتماعي« والعكس صحيح أي القول ان المجتمع كائن أنساني بأعتباره تكوين يخلقه اتحاد الافراد او ان المجتمع بنية إنسانية. وهذا غير جائز بنظر البعض لان الفرد، والانسان ببساطة شديدة غير قادر على ممارسة القهر في توجيه المجتمع أبداً وبالتالي فان تعميمات نظرية كهذه في الاجتماع تستند تحليلياً على مدى قدرة طرف في ممارسة العنف والقهر بأتجاه الطرف الاخر (الشريك) المغدور والمكوٌن في الوقت نفسه، وهذا ما يجزم به أميل دوركهايم في اشارته الى ان كون المجتمع يمارس اشكالاً من القهر مسألة لا تقبل النقاش اصلاً. بالتالي ان القهر الاجتماعي هو وسيلة الفعل الوحيدة لدى المجتمع على اعضائه.
وبالتالي فنحن ملزمون بتوضيح بعض المفاهيم المهمة جداً، التي تدعم هذه العلاقة الباثولو - اجتماعية (Social pathology) بين الجزء والكل في تراجيديا العلاقة الجدلية بين المحدود والمطلق، التي تكشف عن التشوه الذي أصاب طرفيها.

نحو تنقية سوسيولوجية للمفاهيم

» ان المكان الوحيد الذي قد نعثر فيه على الحقيقة ليس في الكل
أو الوحده الكاملة ابداً، بل في تلك الأجزاء المغفلة المهملة من تجربة
الفرد والتي نجت من وطأة هذا الكل وسخطه) «أدورنو: الجدل السلبي)

ما يترتب على القهر ان الفعل الانساني - الابداعي - يسجل عملية انسانية غاية في الاهمية، تلك هي الافراج عن الوعي الفردي ودفعه بأتجاه التاثير في الوعي الجمعي للموضوع - العالم - أوبعبارة اخرى أخراج الوعي الفردي ورفعه الى السطح الاجتماعي وتجسيده باعتباره موضوعاً وواقعاً مستقلاً من جديد بالاستناد الى تحليل القاعدة والفوق عند انطونيو غرامشي.
إذاً أين يكمن القهر في نموذج معرفي مثل "الانسان كائن أجتماعي"؟ يكمن في حبس هذا الفعل الانساني الاصيل من قبل المجتمع وقلب الامور رأساً على عقب: دفع السطح الاجتماعي باتجاه الضغط على العمق / الجوهر المرتبط بالوعي الفردي وبالتالي تشويه هذا الوعي وخنق الفعل الانساني في المهد او تحويله الى فعل مضاد للذات وقاطع للطريق أمام تقدمها نحو انتاج مجتمع نقيض يتلاءم مع الراهن ويرفس بالمجتمع التقليدي الهاوي!؟
يظهر القهر هنا كمحاولة للمجتمع التقليدي المتعفن تصفية الفرد او على الاقل تغريبه وتحطيمه. من خلل ثلاثية القهر التحطيمية في المجتمع المعاصر والمعبر عنها بسلطة» الجماعة، الدولة، الموروث«، والغريب بالامر ان صيغة التعارض والتقاطع بين الفرد والمجتمع متفق عليها بالاجماع في علم الاجتماع الكلاسيكي، بل ان دوركهايم يرى، وقد نوهنا بذلك، ان كون المجتمع يمارس اكراهاً أو بالاحرى، تنوعاً كبيراً من الاكراهات على الافراد الذين يتكون منهم مسألة لا تقبل النقاش اصلاً، ومؤكداً دائماً على ان الاكراه - القمع - القهر هو وسيلة الفعل الوحيدة لدى المجتمع على اعضائه(٥). أما بورديو(٦) فيذهب الى ما هو اقسى من ذلك في اشارته الى ان المجتمع لا يكرهنا فقط عبر عرضه لمثاليات ونماذج، وعبر أصدار التدابير وتحريمها وعبر تقديم المعلومات ونشر المعتقدات وأنما »عبر تأطيرنا مجتمعياً في توقع وتوجه معينين« من هذا نستنتج ان ممارسة القهر بكل اشكاله الصادرة عن المجتمع مع الفرد يفعل بشكل كبير هذه العلاقة الباثولو - اجتماعية (Social pathology).

الاغتراب : بعد هذا يدخل القهر في علاقة فريدة من نوعها مع آليات الاغتراب (Alienation) في العملية الاجتماعية ومن ثم يعيد كلاهما انتاج الاخر مقولة الاغتراب أو الاستلاب (Alienation) التي يعرفها المختصون في علم الاجتماع على انها أنحلال الرابطة بين الفرد والآخرين، أما الأجتماع الديني فيرى في الظاهرة المدروسة أنحلال العلاقة او الرابطة بين الفرد والالهة - المقدس - فيما ظل جان جاك روسو قلقاً من ان فعل التنازل الذي يؤسس له العقد الاجتماعي يمكن ان يتحول هكذا الى فعل سلب واضح تقريباً لنسبة كبيرة من اعضاء المجتمع . ويشترك معه في هذا القلق كثيرون، بخاصة هيجل وفيورباخ وماركس، والأخير يرى ان العمل المستلب» يسلب الانسان جسده بالذات وكذلك الطبيعة الخارجية وحياته العقلية وحياته الانسانية«(٧). فيما يرى اريك فروم ان المجتمع الرأسمالي يستلب الفرد بمقدار ما يجعل تحقيق الحاجات الاساسية أمراً صعباً، مثل الحاجة للنشاط الابداعي وأقامة العلاقات الاجتماعية مع الاخرين والحاجة الى تجذر ثابت والحاجة الى تملك هوية كاملة والحاجة الى توجيه الحاجة لتملك اطاراً مرجعياً وبحاجة للفهم. وشخَّص هربرت ماركيوز الاستلاب الصادر عن أوليات التكيف والقمع الدقيقة التي تتميز بها المجتمعات الصناعية. اما هابرماس فركز على على ان البنى الاجتماعية تحرم الفرد من امكان تحقيق رغباته الخاصة، وترغمه على تحقيق رغبات الآخر. ولدى مانهايم تعود البنى الاجتماعية لترغم الفرد على فهم كيفية عملها(٨).
أما فلفريدو باريتو فيرى الاغتراب على انه شعور الفرد بالعجز أمام تعقد الانظمة الاجتماعية، فيما يذهب بودون وبوريكو فيقرران أخيراً، ان مشاعر العجز هذه تبدأ بالاضطرابات النفسية الجسدية المتولدة عن الحياة الحديثة وصولاً الى الانفجارات الاجتماعية العنيفة. والملاحظ ان جميع هذه التعريفات لظاهرة الاغتراب تتفق على نقطة حاسمة هي انفصام العلاقة بين طرفي المعادلة الوجودية (المحدود) والمطلق (THE ABSOLUTE)، وهذا الفصام تنتجه ممارسات القهر والاستلاب التي تحيل الفرد الى رقم وليس ماهية وحقيقة. ويتفق الجميع في قلقهم عما يمكن ان ينجم عن تهشم تلك العلاقة، من غير الرغبة في اعادة بنائها على اسس سليمة تكفل للطرفين استقلاليتها وكرامتها الوجودية. والنتيجة ان نقترب نحن الى اعتبار الاغتراب تعبيراً حقيقياً عن فكرة "الوعي الخاطيء المتشكل والمكون في عقل الفرد والناجم عن محاولات المجتمع لاستيعابه ودمجه قهراً مع القطيع الاجتماعي، وأذن نحن مقتنعون مع ما يذهب اليه ماركيوز فبالقدر» الذي يكون فيه الفكر والسلوك مرتبطين بالواقع المعطى ، فأنهما يعبران عن وعي كاذب، ويساهمان في الابقاء على نظام زائف للوقائع «(8) وتنهض هذه المقولة على ان جوهر الانسان لا يتحقق خارجياً وفق الواقع المنظور والملموس في المجتمع العراقي المعاصر، بل ان جوهر الانسان اليوم لا يتوافق ابداً مع الشكل الاجتماعي المطروح واقعياً وأنماطه المختلفة في الحياة الاجتماعية ما يجعله يعاني كثيراً في بحثه عن أنجاز فعل التحقق هذا، أو التوافق مع الخارج بلا جدوى. فالاغتراب اذن هو رحلة عذاب يختصرها باحثو علم الاجتماع المعاصر في الجامعة العراقية اليوم بفرضية ان الانسان كائن أجتماعي بين جوهر الانسان الداخلي وتحققه الخارجي، ونتفق على انه تعبير يصف السيرورة الاجتماعية التي تمنع الانسان عن ممارسته لإنسانيته بفعل الفصل والقهر والاستغلال. وهو ليس صفة نفسية أو نزوقاً جامحاً كما يرى الدراج أو شطحة ذهنية بل هو الانعكاس المادي لمجتمع لم يتسلم بعد مقاليد حكمه.
أما التراجيديا: (The Tragic) فهي وضعية مأزقية(9) تلخص وجود الانسان المتخلف محاولاً، في سلوكياته وتوجهاته وقيمه ومواقفه، مجابهتها والسيطرة عليها بشكل يحفظ له بعضاً من التوازن النفسي، الذي لا يمكن الاستمرار في العيش بدونه. هذه الوضعية المأزقية هي اساساً وضعية القهر الذي تفرضه عليه الطبيعة التي تفلت من سيطرته وتمارس عليه اعتباطها، والممسكون بزمام السلطة في مجتمعه، الذين يفرضون عليه الرضوخ.
فيما تتعامل معها الفلسفة الماركسية باعتبارها مقولة فلسفية تعبر عما يفرزه، عادة، التطور الاجتماعي من متناقضات وتعبر بالاساس عن تناقضات تنشأ بين الفرد والمجتمع والصراع فيما بينهما، ويعكس المأسوي (التراجيدي) نوعاً من المتناقضات التي لا تحل في زمن معين كالتناقض بين المتطلبات الفردية والتأريخية والاستحالة العملية لتنفيذها، وتفضي هذه التناقضات الى انفعالات ومعاناة اليمة. ويعزو كارل ماركس هذه الوضعية المأزقية او المأسوية الى حالة الصدام بين القوى الاجتماعية التي تفرضها قوانين التطور الاجتماعي. ويرى ماركس(10) أن نشأة هذا الموقف المأسوي مرهونة بأدراك ممثلين معينيين للنظام الاجتماعي القديم، مصير طبقتهم، لكنهم لا يستطيعون ان يقطعوا صلاتهم بها ويتخذوا مواقف طبقية جديدة يكون المستقبل الى جانبها.
تنشأ التراجيديا وفق هذا التحليل حينما يصير الانسان في مجابهة مرة وقاسية مع الضرورة "بالمفهوم الماركسي" تماماً على العكس من "الحرية التي هي الركوب على ظهر الضرورة". ولدى البعض(11) أن التراجيدي ذو منشأ تأريخي، بمعنى انه نموذجٌ انساني تطلعه وتمحوه الاحداث الكبرى للتأريخ. والمهم، بالنسبة لنافي هذا العرض، نجده في مقارنة أجراها الدكتور اليوسف حاول من خلالها كشف التمايز بين تراجيدي الزمن الماضي والتراجيدي المعاصر المرور في مجتمعاتنا مشيراً الى ان التراجيدي في الماضي كان نتاج تضخم الذات الفردية وتضخم الانا (Ego) "فلقد صُلِبَ عبد الله بن الزبير، واستشهد الحسين بن علي لأنه قال: »من مثلي لا يبايع من مثله« ولأنه ظل ملتزماً بهذا الموقف بالرغم من عدم توازن القوى. فيما قتل المتنبي لأنه اصر على ان الخيل والبيداء تعرفه. والمهم في هذا النموذج المنقول عن (الدكتور سامي اليوسف) ان التراجيدي ينطلق من طبيعة اخلاقية وكانه يعني لحظة مجد تلخص الحياة. لكن الامر مع الراهن مغاير تماماً ومختلف تماماً في مجتمعاتنا اليوم التراجيدي يسقط فيسجل لحظة سقوط مدمر (مدوىٌ). وينتج عن ضموريصيب الذات ،كما ينتج عن تقلصها، انكماشاً، صغرها، قبولها، بالهوان، انهزامها، ما يجعل من التراجيدي الراهن - المعاصر لا منطقياً، على الرغم من انطلاقته التي تتبدى للوهلة الاولى منطقية منطلقة من مبدأ »تتحدد قدرة الشيء على الفعل بمقدار ما يختزن من طاقة»(12) ولأن الانسان المعاصر في الحياة العربية لا يمتلك هذه الطاقة أو أدنى درجاتها الامر الذي يجعل منه تراجيدي بالمعنى الدقيق للكلمة.
ان مفهوم التراجيديا (THE TRAGICI) في هذا البحث يتضمن نمطاًً حياتياً مأساوياً ينتج عن ممارسة المجتمع المستمرة لكل اشكال القهر والدمج والسحق مع افراده والذي يتحول فيه الانسان الى كائن عاجز وعقيم ومنخلع ولا فاعل، مهزوز وعنيف وغريب. وبالتالي صرصار اجتماعي يبعث على الاشمئزاز والرعب والصدمة.
أن التراجيدي هنا هو الانسان نموذج البحث، الذي نرصد لحظة سقوطه أو تحوله الى مخلوق غرائبي، "صرصاراً" مذعور ليس نتيجة صراعه مع الآخر (الجماعة، الدولة، الموروث) انما ناجمة - هذه اللحظة - عن عجزه في مصارعة هذ الاخر (المجتمع، الدولة، الموروث) كما انه ناجم عن اعترافه الصريح بفوقية هذا الآخر، ودونيته هو، فيسلك، منطلقاً من هذا الاعتراف، سلوكاً غرائبياً لا يمت للانسانيته بشيء - فيندفع موجهاً - مدفوعاً بكل وسائل التضييع الاجتماعي - والقهر النفسي الى الانضمام الى عالم الصراصير البشرية المخيف.
إذاً فالتراجيديا هنا في هذا البحث يراد بها تصوير عملية اجتماعية (social process) أو ما يمكن ان يتمخض عنها في نهاية المطاف من حاصل جمع طرفي المعادلة (السيد والعبد أو الضحية والجلاد) في حكاية بكائية تنطوي وتكشف عن ممارسات كل من طرفي المعادلة مع الاخر في مسلسل القهر اليومي الاجتماعي الذي تمارسه الجماعة والقيم والتقاليد الموروث في حق الانسان العراقي قبالة ذلك تكشف ايضاً عن ردود الفعل السلبية للانسان في هذا المجتمع ولا أظن ان هنالك من ينفي حالة الصدام بين القوى الاجتماعية والطبقات في المجتمع العراقي الحديث (وأن كانت هذه القوى والطبقات تعاني الى حد بعيد من الضمور والتقزم في حياتنا الاجتماعية لاسباب تأريخية - وأجتماعية ليس ثمة مجال في الحديث عنها الآن)، بخاصة فوضىما بعد 2003 وما أفرز من تباينات طبقية أجتماعية حادة على مستوى النخب السياسية والمفهوم هنا حذر جداً فيما بينها وفيما بين قواعدها الاجتماعية ان وجدت أصلاً، افرز صراعات على مستوى الداخل - الداخل العراقي والخارج - الداخل، كما أفرز هذا الاحتلال والتحول الاجتماعي والسياسي المتمخض عنه صراعات معقدة جداً على مستوى بناءات الشخصية العراقية والاعتراك بين قطاعات الذات الواحدة في الشخصية العراقية الجديدة التي افرزتها تراجيديا العراقي اليوم.
تراجيديا القهر: ثلاثية القمع (المجتمع، الموروث، الدولة) في المجتمع العراقي المعاصر نموذجاً. قطع المسافة التي تفصل بين أربعينيات القرن الماضي وستينياته لعنتان وانقلابان تاريخيان "ابستمولوجيان" جعلتا العالم أقرب كثيرا الى الهاوية. وحولتا منذ ذلك اليوم الكرة الارضية قرية صغيرة جدا تتربع على فوهة بركان رهيب. متى ثورته؟ العلم عند الله.
اللعنة الاولى سجلت أربعينيات القرن الماضي ولطختها عندما دخل النازيون فرنسا وطوقت الدبابات والمدرعات وجيش الرايخ ارض الشانزلزيه فحدثت المأساة والصدمة وتم الاجتياح، الذي أنتج ثقباً مهولاً في الجدارالأجتماعي والثقافي والسياسي لأوربا انذاك. نشأ عنه إنقلاباً ابستمولوجياً استند في التحليل السوسيولوجي حسب ما نظن على تغير كبير أصاب معادلة الصراع الاجتماعي في القارة وأضطراب موازين القوى الاجتماعية - السياسية المتصارعة أنذاك. أذ ذهبت الحرب العالمية الثانية بنموذجين طبقيين تمثلا بالنخبة السياسية التي أطاح بها هتلر عند دخوله فرنسا ونخبة ثانية أطاح بها الشعب بعد هزيمة المانيا في الحرب على يد ستالين والتحالف الدولي من جهة أخرى.
استعاد الشعب الفرنسي اثرها سيادته، فيما أفنت الحرب والصراعات المتمخضه عنه طبقة البروليتارية العالمية وبالتالي افقدتها ثقلها و وزنها الاجتماعي كلاعب مؤثر وفعال في الحياة الاجتماعيةفي أوروبا آنذاك.
ستينيات القرن الماضي سجلت انقطاعة تاريخية في سيرورة التاريخ ولعنة ثانية بدأت مع الدخول القومي في الساحة السياسية العراقية وتطويق دبابات القوميين وشرطتهم السرية وزارة الدفاع القديمة في التاسع من شباط من العام 1963 تحديداً والفترة التي أعقبت إعدام الزعيم عبد الكريم قاسم رمياً بالرصاص في احدى غرف الإذاعة العراقية الفتية آنذاك، والتي ساد بعدها، وعلى أثرها، الحياة الاجتماعية العراقية جو خانق من العتمة والذل والانهزامية والانكسار والضبابية أصاب العقل الثقافي العراقي برمته بنوبات من الصرع الثقافي - الاجتماعي والسياسي المتكررة ومن ثم لازمته هذه النوبات الى اليوم.
نشأ عن هذا انقلاب ابستمولوجي اخر استند هو الاخر الى تغيير أصاب موازيين القوى المؤثرة اجتماعياً انذاك تمثل ايضاً بتصفية اليسار العراقي وهو التيار الاكبر والاكثر اتساعاً والمتأصل في الثقافة العراقية المعاصرة بل والمعبر الحقيقي عنها(13).
وإذا نظرنا في نتيجة الانقلابيين معاً فكانا قد انتجا عملياً مرحلة تاريخية جديدة تمثلت وعبرت عن نفسها واقعياً، باستيلاء اليمين الايديولوجي سياسياً - ثقافياً على المجتمع برمته في الغرب والشرق على حد سواء. جسد الوضع الاخير وكرس ردة نفسية "نكوص" ونزعة متشائمة في جدار العقل الغربي والعربي على حد سواء وكنا قد رصدنا هذا التحول في صيرورة وتحولاتها الانتاج الادبي والثقافي الناتجة عن الانقلابين في الشرق والغرب.
والنتيجة السوسيو - أبستمولوجية المعبر عنها في هذه المقابلة التاريخية افرزت نموذجا ونمطاً انسانياً غريب الأطوار انتشر بشكل مريب في الحياة الاجتماعية العراقية المعاصرة (وكان له ذلك الانتشار في الحياة الاجتماعية في المرحلة من الزمن التي اشرنا اليها قبل قليل) بخاصة في منتصف العقد الاخير من القرن الماضي واول القرن الحالي تميز بالعجز المطلق والاحباط تكالبت عليه وأفترسته مشاعر العجز والفشل افترسته لدرجة جعلت منه صرصاراً - أجتماعياً مثيراً لمشاعر المرارة والاشمئزاز والقرف. انه "الانسان الصرصار"(14) الانسان المحدود الذي لا يمارس "برغبة منه او من غيرها" إنسانيته والعاجز عن استثمار جوانب القوة والإرادة والإبداع في نفسه، فقد شهيته على الحياة، وقدرته على الفعل والمشاكسة المتضمنة في الفعل الانساني الاصيل في علاقته مع الحياة الاجتماعية، ذالك الانسان الذي فقد لاسباب اجتماعية وسياسية وتاريخية واقتصادية قدرته على انتاج الأنماط السلوكية المنتجه للحضارة، كما فقد رغبته في البحث عن حياة افضل تضمن انسانيته وكرامته وقداسته ومستقبلاً آمناً للجنس البشري.
لقد تم تناول الموضوع من محوريين هما:
الأول: انطلاقاً من رؤية سوسيولوجية تحاول رصد ورفض جذور أسطورة المجتمع الكامل المستقل عن الارادة والفعل الانسانين وتؤسس للكمال من حقيقة هذا الفعل الانساني نفسه وليس بالتخارج عليه كما يضن البعض، هذا الفعل الانساني الذي تصفه آخر المنظومات الفلسفية المعاصرة على انه "أثمن رأس مال في الوجود" وبالتالي فأنه الاساس الحقيقي لمجتمع أنساني متكامل وليس العكس أبداً.
اما المحور الثاني: فكان انطلاقاً من شك معرفي لدى الباحث في ان تكون هنالك ثمة علاقة جدلية - أبدية "يصير الانسان بموجبها جزءاً غير فاعل ومخلوقاً غير كامل أمام الآخر" بالمفهوم الهيغلي "الفاعل المطلق والغاية في الكمال - في الحياة الميتافيزيقيه اليوم اويصير بموجبها جزءاً غير فاعل أمام الآخر "المجتمع" في الحياة الاجتماعية المعاصرة، أو يصير بموجبها جزء غير فاعل بل مرهون بأرادة الاخر "الدولة" في الحياة السياسية المعاصرة.
وبالتالي فأن البحث يرفض صيغة الجدلية في معادلة الطرفين المشار اليهما بصيغة "المحدود والمطلق" في هذا البحث ويتعامل معها على انها صيغة غير شرعية وغير مقبولة بل جدلية موهومة أريد بها إذلال "الانسان" المحدود بأعتباره (فرد، مواطن، ذات) أمام الآخر المطلق (مجتمع، موروث، دولة) وسحقه نهائياً وتحويله بعد بروسس اجتماعي - سياسي الى صرصار اجتماعي - وطني - ديني في معامل معادلة القهر الاجتماعي.

الفرد × الجماعة إذلال أجتماعي

المواطن × الدولة إذلال سياسي


ألذات × الموضوع إذلال ميثي


الانسان × المجتمع القهر الاجتماعي صرصار اجتماعي
" الانسان كائن اجتماعي" أدلجة القهر اجتماعياً ؟
جرت العادة في أغلب البحوث,والاعمال السوسيولوجية الكلاسيكية و المعاصره على حد سواء ان يتبنى اغلب المفكرين في السياسة والاجتماع نماذج ذهنية - معرفية و قوالب قيمية مسبقة عن الانسان والفعل الانساني عن المجتمع وحركة المجتمع والتأريخ، ينظرون من خلاله ويحللون ثم يشيدون بناءاتهم النظرية. هذه النماذج تشكل في التحليل الاخير "صوراً عقلية يمكن ان تكشف او تسهم في الكشف عن الصلات القائمة بين جوانب الدراسة المختلفة وكيفية عملها". لكن المشكلة الحقيقة في تبني النماذج المعرفية لدى الباحثين تبدأ حين تتحول تلك النماذج الى معيق يحجب عنا وعنهم رؤية الوقائع المهمة والظروف الجديدة، التي يمكن ان تتمخض عن حركة الواقع الاجتماعي وسيرورته المستمرة والمنطلقة في تقدمها عبر الزمان والمكان، بل انها في أحايين اخرى يمكن ان تحجب عنا اكتشافنا لمجموعة مهمة جداً من العلائق الجدلية» الحقيقية« بين الأشياء والظواهر قد تقلب معامل هذا الاكتشاف الى الضد تماماً في نتائج البحث وبالتالي قد تشوه مجالات الكشف. فتصير هذه النماذج المعرفية التي يستند اليها الباحث في مجالات السوسيو - ابستومولوجيا »جامدة دخانية« ترسم جدراناً من العتمة تحجب عن رؤيتنا واهتماماتنا تلك الوقائع والأفكار الجديدة، والعلاقات الجوانية التي تنبض بها البناءات الاجتماعية في العمق من حياة المجتمع العراقي المعاصر.
النماذج التي نقصد كثيرة جداً وتختلف بأختلاف الباحثين والارض المعرفية التي يستندون اليها، حاولنا في هذا الرصد التعامل مع بعضٍ منها، رغم خطورته وحساسيته لكننا اردنا القاء الضوء عليها تأريخياً وفلسفياً فقط ، بمعنى انها قد تكون نماذجاً معرفية اكيدة» مجربة «لا يرقى الشك اليها لكنها مجرد قراءة نقد - اجتماعية.
ومن هذه النماذج المعرفية النظرية عرضنا في دراستنا هذه نموذجا معرفيا في علم الاجتماع يشير الى ان المجتمع كائنٌ مستقلٌ، ذو طبيعة خاصة، يمثل الانسان الفرد جزءاً محدوداً منه غير فاعل بل ان الفرد يوجد اساساً لاشباع حاجات المجتمع. وان العادات الاجتماعية والقيم والتقاليد لها الاسبقية على الفرد وبالتالي فأنه يجب ان يلتزم بها ويخضع لها. ونماذج في الاجتماع الديني تدعم بعضها البعض متمثلة في نموذج ان الانسان نتاج تاريخي بل هو فعل تاريخي واعٍ للإرادة المطلقة المعلقة في السماء.
وان العامل الاقتصادي في الاجتماع الاقتصادي من العوامل الاساسية في صياغة المجتمع، وبالتالي فإن الفرد الذي يعمل في دائرة المجتمع وهو جزء من كل يخضع لأرادة العوامل الاقتصادية. وبالتالي فإن المؤسسة الاجتماعية تمتلك القدرة على صياغة االانسان في مجتمع ما صياغة اجتماعية او حتى افنائه، مثلما تمتلك القدرة على تغريبه او تهميشه أو تضييعه؟ اما في الاجتماع السياسي فنرى النماذج المعرفية القاصرة نفسها وقد صبت في قالب اخر يعمق الهوة والتعارض بين طرفي المعادلة بشكلها الجديد، اذ تتحول الدولة من كيان سياسي يعنى بتصريف الامور والشؤون العامة أو كما حددها اهارولد لاسكي بأعتبارها مؤسسة للخدمة العامة، وآلة سياسية أشادها الانسان وتحركها عقول البشر وطاقاتهم، وليس لها قيمة تذكر بغير الانسا ن لكنها تتحول فجأة في مرحلة من التاريخ والصراع تجسيداً أعلى "للفكرة" كما ظن هيغل او الى نوع من الانسان السوبرمان الجماعي او على انها كيان له حق الموت والحياة على مواطنيها؟تتحول الدولة بالاستناد الى تلك النماذج المعرفية، من من هيئة اريد لها خدمة الانسان الى هيئة تستعمل القوة والقسوة والافناء معه، من هيئة اريد لها تنظيم الحياة اليومية للانسان الى هيئة تقصد تخريب الحياة الانسانية وتزوير الانشطة والفعل الانساني لا بل ان مفهوم الدولة ارتفع الى اعلى درجات التجريد والرمزية وتحولت الفكرة المطلقة عن الدولة الى حقيقة مادية ذات جوهر بل تم اعتبارها كائناً ميتافيزيقياً وكل تجاه نفسها ورفعت الى حد المطلق واظهرت ميلاً الى ان تضع نفسها موضع الشعب ومن مجرد اداة لتأسييس العدالة تحولت الى جدار رهيب ذاتي التكوين بين الشعب والعدالة ثم تدريجيا تتحول رموزها الى الهة حاكمة بالاستناد الى ارادة المطلق ويتحول الشعب الى مستعبداً محكوم وتصادر ارادته الخاوية. لتبصقه في الجهة الاخرى الى عالم صراصير أجتماعية مثيره للشفقة...

الهوامش:
1- ان تكون مثقفا في الشرق الاوسط ، مقال لـأسيا دينز -تركيا ، نشر في مجلة الشرق الاوسط الديمقراطي ، ص57
2- بركات، حليم: اغتراب المثقف العربي، مقال، نشر في مجلة المستقبل العربي في العدد (ص107)
3- المصدر نفسه (ص108)
4- بوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع (ص60)
5- المصدر نفسه(60)
6- المصدر نفسه (31)
7- المصدر نفسه (31)
8- الدكتور أحمد، قيس هادي، الانسان المعاصر عند هربرت ماركيوز، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (ط/1،1980 ).
9- حجازي، مصطفى، التخلف الاجتماعي مدخل الى سايكولوجية الانسان المقهور، لبنان معهد الانماء العربي (ط5، 1989، ص8).
10- روزنتال، يودين، الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، بيروت - دار الطليعة (ط/5،1989 ، ص437).
11- ليوسف، يوف سامي، رعشة المأساة "غسان كنفاني"، عمان - دار منارات.
12- انظر الدكتورحيدر سعيد في لقاء معه على قناة الحرة - تناول استذكار المبدعين والمثقفين العراقيين الذين فقدهم العراق في العام2005 .
13- التسمية مستعارة من رواية للروائي الروسي دستويفسكي - الانسان الصرصار او رسائل من اعماق الارض .
14- انكلر، ألكس، مقدمة في علم الاجتماع، (ص79).











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاغتراب
سلام حقي ( 2009 / 2 / 27 - 04:51 )
كان فرانز كافكا كاتبا انسانيا يكره الظلم والاضطهاد والاستغلال بكافة اشكاله الطبقي والفكري والروحي وان هذا الاستغلال غالبا مايؤدي الى اغتراب مدمر لكل القيم الانسانيه ولقد عبر عن ذلك خير تعبير في راويته المسخ
في حين كان البير كامو يؤكد بالرغم من انه ليس للعالم من معنى ولكن يبقى للانسان معنى بالرغم من اغترابه وقهره
مقال قيم ومجهود يشكر عليه الكاتب
تحياتي

اخر الافلام

.. المغرب: ما الغاية من زيارة مساعدة وزير الدفاع الأمريكي تزامن


.. روسيا تنفي ما تردّد عن وجود طائرات مقاتلة روسية بمطار جربة ا




.. موريتانيا: 7 مرشحين يتنافسون في الرئاسيات والمجلس الدستوري ي


.. قلق أمريكي إيطالي من هبوط طائرات عسكرية روسية في جربة التونس




.. وفاة إبراهيم رئيسي تطلق العنان لنظريات المؤامرة • فرانس 24 /