الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة جديدة في الامام علي

مهدي النجار

2009 / 3 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قراءة جديدة في الإمام عليّ
الى هاني فحص

يتطلب الامر بإلحاح ان تراجع المجتمعات تاريخها وتراثها كلما المَّت بها القواهر واحست بضعضعات خطيرة تواجه مصيرها الراهن وهذه المراجعات ليست بذات فائدة اذا كانت مراجعات تبجيلية وتعظيمية، تندب على تاريخ سالف تستلهم منه العَبرات وليس العِبر وتذرف عليه الدموع ولاتتمعن فيه وتقف عنده دون حِراك او حركة كأن منظومة التاريخ ليست مثلها مثل كل المنظومات الانسانية والحياتية تتحرك وتتدفق، تتراجع وتتقدم، تنحسر وتتوسع، إنما العودة الى الماضي وقراءة التاريخ لا تصبح مفيدة ولا جديرة بالاهتمام اذا لم تكن اولا وقبل كل شئ من خارج دائرة ذلك الماضي وعلى مسافة واسعة من ذلك التاريخ، بأختصار مفيد ينبغي قراءة التاريخ من منظور معاصر وبأدوات معرفية حديثة تمتاز بصرامتها النقدية وحركتها الغربالية الدقيقة من اجل استخلاص العقلاني من التاريخ ونبذ الترهات والاقاويل الغارقة بالاساطير والخوارق والاوهام حتى يتجلى الحاضر من تاريخ ناصع لا تُسلِب عافيته التعصبات والاهواء ولا يخضع لمشيئة المنتصرين والقاهرين. وحقيقة اوضاع المجتمعات الاسلامية اليوم تدلنا دون شك على انها تواجه أسوء المآزق واخطرها لذا وفق تلك الملاحظات صار مهماً ان يراجع المسلمون تاريخهم وان يتمعنوا كثيراً في سيرة رموزهم الكبار لكي يَتعظِوا ويستخلصوا الدروس والعِبر لا ان يطمسوا معالم تلك الرموز في انبهارات اسطورية وتبجيلات خارقة، لا ان يغرقوها بالندب والعويل والنواح ويستنجدوا بها لتغيثهم، يتوسلوا بها ان تنهض من قبورها لتداوي عللهم واسقامهم، ان تنهض لتخلصهم من مصائبهم والاهوال التي حَلت بهم، لقد شاعت هذه القراءات التقديسية في العالم الاسلامي حتى غَلَبت مظاهر الاحتفال التمجيدي/ البُكائي على الرموز التاريخية على اي اعتبار آخر. المفتاح الوحيد الذي يفتح المعرفة الخلاقة بتلك الرموز التاريخية هي القراءات العقلانية التي تنظر اليها في مجالها البشري وحيزها الانساني وظرفها البيئي والاجتماعي. كان الامام عليّ واحداً من الرموز الاسلامية التي اضفت عليها النزعات التقديسية والتعصبية الكثير من الاوهام واسرفت في تعظيمها ومديحها حتى اخرجتها من المجال البشري العقلاني الى المجال المتعالي الاسطوري.
في البدء حين نقرأ الامام علي ينبغي التعرف على علاقته مع الله وهي علاقة نادرة تختلف عن كل علاقات الناس، حتى عن المؤسسين الاوائل للاسلام، كانت علاقة متمايزة وفريدة، علاقة خوف مستعر من الله، كان يخاف الله حقاً وحقيقة، كان لا يخافه هرباً من ناره وعذاباته ولايخافه طمعاً في جنته وافراحه، لا تُشغله ترغيبات الله ولا ترهيباته، كان يخاف الله لأنه : الحق! وبعد تفكر وتبصر وجدَّ الطريق الصعب، طريق الهُدى/ الحق، الطريق الاكثر وعورة والاكثر خطورة وراح يحرض الناس لأن يسلكوه: " لاتستوحشوا طريق الهُدى لِقلة سالكيه" وكان يتنبأ بالآلام والمتاعب وكان على دراية بأن هذا الاختيار من اصعب الاختيارات البشرية لان معنى الحق في جوهره دعوة لتأسيس العدل في مجال السلوك الاجتماعي بوصفه نقيض للظلم، فهاهو امام لحظات تاريخية حرجة تعاظمت فيها الفتنة بين المسلمين حين ُأسندت له الخلافة وحين وجد نفسه وجهاً لوجه امام سلطان الحُكم والسياسة حتى وصف طه حسين تلك الفتنة بانها "فتنة مشَّبهة معمَّاة إذا اخرج الرجل فيها يده لم يكد يراها" في قلب هذه الفتنة المظلمة الغليظة وجد نفسه كأحسن مايجد الرجل نفسه: يرى الحق فيمضي اليه لا يلوي على شئ، ولا يحفل بالعاقبة ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجاحاً او اخفاقاً، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة او موتاً، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد اثناء طريقه وفي آخرها رضى ضميره ورضى الله. ولكن من الآن فصاعداً بدأ الامر يختلف ويحتقن، بدأت الفتنة تتسع وتشتد ومعها بدأ الانتهاك الهائل للحق يتصاعد وراح المنتهكون يفصحون عن نواياهم وشراهتهم لكسب مغانم الدُنيا، اذن لابد ان تُخاض المعركة الفاصلة، بين مَن ؟! بين الامام علي، هذا الرجل الذي سعى دائماً للتشبه بأخلاق الله وبين معاوية سيد الطلقاء ( كان المسلمون يسمون معاوية وأمثاله من الذين أسلموا بأَخِرة، ومن الذين عفا النبي عنهم بعد الفتح بالطُّلقاء؛ لقول النبي لهم: اذهبوا فأنتم طلقاء) ومهما يقُل الناس في هذا الخصم المداهن العنيد ، مهما يقولوا عنه من خير او شر، من مدح او قدح الا اننا نستخلص خلاصة مهمة من خلال حرب صفين (سنة 656 )، هذه ا الحرب الحاسمة في التاريخ الاسلامي لانها فَصلت بوضوح بين دين الله ودين السلطة، هي لحظة طلاق بين الحق والباطل، بين الاعوجاج والاستقامة وحين كان النصر قاب قوسين او ادنى لجيش الامام علي؛ او كما في تعبير ابراهيم الاشتر، احد ابرز قواد الجيش: "أمهلون عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر" إلا ان الامام علي لم ينجح في استحصال ذلك واستطاعت الخدعة ان تخترق صفوفه رغم تحذيرات ابن عباس الذي كان يقول له، سمعت رسول الله يقول: "الحرب خدعة" (تاريخ الطبري ج6 /منشورات جيهان) فقد استجاب معاوية لنصيحة ابن العاص (بعد ان قاربوا على الهزيمة والخسارة) وأمر رجاله برفع المصاحف على أسنة الرماح داعين الى الاحتكام الى كتاب الله. مفاد الخلاصة من هذه الحرب تبرهن ان الاتقياء والزهاد وأصحاب الورع لا يجيدون المراوغة واللعب على الحبال، كذلك نستخلص من هذه المعركة ان معاوية هذا الرجل الذي يُطلق عليه " داهية العرب" هو المؤسس الحقيقي لنظام الاستبداد المطلق وتوريث الحكم الذي هيمن على مجتمعات الارض الاسلامية ومازال يعصف بها فيسلب من شعوبها اللقمة والعِزة، ويعود له الفضل الاول بزج الدين في السياسة وإلغاء العقل لحساب النص واستخدام الدين ورقة رابحة في الامساك بتلابيب السلطة بواسطة استعمال اول وسيلة دينية يبررها الهدف السياسي، ورغم ان الامام علي قد ادرك سر الخدعة وكان قد قال لرجاله: "عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم في قتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص (وذكر اسماء اخرى) أنا اعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً، وصحبتهم رجالاً، فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم إنهم ما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً ومكيدة" (الطبري/ج6) الا ان الماء قد انساب من بين اصابعه وانفرط عقد الاصحاب والانصار ولا شك استطاعت " الحيلة" الحربية ان تخترق بإسم النص صفوف قوات الخصوم وأن توقع بينهم خلافاً أنهى الصراع لصالح الامويين ومن توها صار طريق الحق اكثر وحشة واكثر عزلة واكثر آلاماً ومضاضة وكان سالكيه قِلة كالشَّعرة البيضاء في الثور الأسود، أودى بتلك الشخصية الصابرة ان تجزع وتفقد الثقة بأتباعها وأنصارها الى حدود اليأس والخيبة لانهم أفسدوا عليه رأيه بالعصيان وملأوا جوفه غيظاُ، فخاطبهم بمرارة وبلهجة انكسار وتأنيب: " أصبحت لا أطمع في نصركم ولا أصدق قولكم. فرَّق الله بيني وبينكم". وكما يقول نصر حامد ابو زيد: ان هذه المسألة (مكيدة رفع المصاحف) تكشف عن بداية تزييف الوعي، وهي عملية ظل النظام الاموي يمارسها بحكم أفتقاده الى الشرعية التي ينبغي أن يقوم عليها أي نظام سياسي. وقد ظل الالتجاء الى الاسلوب الاموي مسلكاً سائداً في كل انماط الخطاب الديني المساند لأنظمة الحكم غير الشرعية في تاريخ المجتمعات الاسلامية.
كانت فترة الامام علي فترة عصيبة من فترات التاريخ الاسلامي التبست فيها على الناس أمورهم وغصت ايامها بالفتن والصراعات والتشاجرات وسالت خلالها الدماء كثيرة، نستخلص منها في نهاية المطاف: إن دائرة الدين والتدين شئ ودائرة الحُكم والسياسة شئ آخر، وكلاهما يتقاطعان، من حيث في الاولى يتجلى الصفاء والتسامي وفي الثانية يتجلى الرياء والمداهنة، وحين دُفع الامام الزاهد الورع لان تطأ اقدامه دائرة الحُكم لم يستطع أنتزاع نفسه من أصوله النابتة في دائرة الدين والتدين، لم يستبح لنفسه مكراً ولا كيداً ولا دهاء. كان يؤثر الدين الخالص على هذا كله، وكان يحتمل الحق مهما تثقل مؤونته، لذا وقع في محنة عسيرة ومريرة جعلته يخاطب ربه بوجع وجَزع: " اللهم إني قد مللتهم وملوني. وأبغضتهم وأبغضوني. وحملوني على غير خُلقي وعلى أخلاق لم تكن تُعرف لي. فأبدلني بهم خيراً لي منهم، وأبدلهم بي شراً مني، وِمث قلوبهم مَيْث الملح في الماء". نستخلص ايضاً من كل ذلك ان المتدينين الاتقياء ينبغي ان يظلوا على مسافة من دائرة الحُكم يسترشد الناس بنقاء آرائهم وصفاء افكارهم ويتمثلوا سيراتهم الحسنة وأن لايزجوا بأنفسهم في معتركات السياسة بما فيها من ألتواءات ومداهنات ومناورات.
ويروي اشياخنا المؤرخين أن آخر كلام سُمع من الامام عليّ قبل أن يموت مقتولاً هو قول الله عز وجل: " فَمَنْ يَعْمل مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه* ومن يَعْملْ مِثْقَال ذَرَّةٍ شَراً يَرَه " وقد انتهى نبأ هذا الموت الفاجع، المرِّوع إلى أهل المدينة، وبلغ عائشة فتمثلت قول الشاعر:
وألقت عصاها واستقرت بها النَّوى كما قَر عيناً بالإياب المُسافُر
وفي كتابه المهم والمرموق "الفتنة الكبرى/ ج2 " يذكر طه حسين بأن عائشة كأنها أرادت أن تقول: إن عليِّاً قد أراح بموته واستراح. وليس من شك في أنه أستراح بموته من شقاء كثير. ولكن الشكّ كل الشك في أنه أراح.












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ياعلي
سعدالخير ( 2009 / 3 / 1 - 21:04 )
كلامك واضح ولكن مابال الامه تردد اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديم اهتديتم .فأين الثرى من الثريا واين معاوية من علي


2 - المحرك الاساسي
طلال شاكر ( 2009 / 3 / 1 - 23:51 )
أن الامر غير متعلق بنزاهة الامام وسيرته العادلة او خبث معاوية ودهائه وبرغماتيته في الظاهر يبدو الامر هكذا لكن الحقيقة هي وصول الحقبة الراشدية اي الخلافة الى نهايتها لانها استنفذت غرضها التاريخي كمشروع يتماهى مع المفهوم الا سلامي الا ول والذي بدأت الشروخ تتناهبه منذ حكم الخليفة الثالث عثمان بن عفان فالمجتمع الاسلامي الصاعد بأغنيائه وبيوتاته وزعامته العشائرية والمالية والاقطاعية يحتاج الى نظام اخر والى تشكيلة اخرى تتجاوز النمط الراشدي وهذالامر يجب اخضاعه للتحليل التاريخي الصرف والتفاصيل التي جرت اثناء الاحتدام الكبير كرفع المصاحف أوخسة معاوية هي حاصل تحصيل وكل هذه الا مور ممكنة لكنها ليست الحاسمة فيما جرى، هي مظاهر لتراكمات اكبر دفعتها الى الواجهة ولو لم يكن فريق الا مام علي مهيئاً لمثل هذه االتأثيرات ماكان لحيلة المصاحف أن تعبر وتنجح وماكان لمعاوية أن يراهن على ها العمل في ذلك المنعطف المصيري أن الموضوع طويل وللكنني اردت لفت انتباه الكاتب الى رؤية المحرك الحاسم للتاريخ وأذا اراد معاوية أن يتجاوز الفترة الراشدية فعليه يكون في الصورة التي ظهر فيها ومن خلفه، والامام علي هو ابن الاسلام الاول فهو يرى التمسك بمبادئه حد التضحية امراً لامناص منه مهما كلف الا مر والا كف أن يكون ممثله وبالتالي


3 - قراءة جديدة
محمد الخليفة ( 2009 / 3 / 2 - 10:41 )
مع أحترامي وتقدير لشخصك الكريم أجد من خلال مقالك بأنك أعطيت الرجل أكثلر مما يستحق فحديثك بهذه الرومانسية عن علي والذي كان شاهراً سيفه في القتل والقتال حتى قتل لاأعتقد بأن يكون له تاريخ بهذه الحفاوة ولا أن يكون قدوة لإنسان هذا العصر، فليتك ياسيدي تسلط الضوء بقلمك الساحر وثقافتك العالية على من يستحق من رجال ونساء أثروا حضارتنا الأنسانية بفكر مسالم وعلم عاد على البشرية بالنفع والخير وليس رجال حرب من أمثال على وغيره من رجال ذلك الزمان غير المأسوف عليه


4 - ضوء جديد على قراءة قديمة
رياض الحبيّب ( 2009 / 3 / 2 - 11:59 )
لقد ورد في موضوعك ((صار مهماً ان يراجع المسلمون تاريخهم وان يتمعنوا كثيراً في سيرة رموزهم الكبار لكي يَتعظِوا ويستخلصوا الدروس والعِبر لا ان يطمسوا معالم تلك الرموز في انبهارات اسطورية وتبجيلات خارقة)) وقد أحسنت، ثمّ ذكرت عن الإمام عليّ بن أبي طالب (رض) في سطور تالية ((كان يخاف الله لأنه: الحق!)) فهل ظننت أنّه كان يعرف الحقّ؟! ما دليلك؟ هل كان (( محمّد مدينة العلم وعليّ بابها)) حقّاً؟! أم ((لا فتىً إلاّ عليّ ولا
سيف إلاّ ذو الفقار))؟! وهما من الجُمل الرنانة التي أثقلت مسمعي مدة ربع قرن من حياتي بين المسلمين. فأرجو أن تجيب على تساؤلات هي في غاية التمدّن: أوّلاً- هل أحبّ محمّد وعليّ أعداءهما أم فتكا بهم إلى درجة البطش؟ إذ قال السيّد المسيح الذي تعترفون بأنّه ((كلمة الله وروحه ألقاها إلى مريم)): {أحبّوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم} ثانياً- من الذي أغار على بني قُرَيظة وبني قينقاع ويهود خيبر معتدياً، هل أغار أهلوها على مكة والمدينة أم العكس تماماً؟ ولماذا اعتبر محمّد هؤلاء وأمثالهم أعداءاً له بعدما كذبوه؟ ولماذا شرّع إخضاعهم لدعوته بالقوة وهم من أهل الكتاب- كذلك من خلال سورة التوبة 5 و29 اللتين أتمنى عليك أن تقرأ تفاسيرهما عند ابن كثير والقرطبي لترى مدى المذلة التي أحا


5 - ليس هناك فرق ؟
شامل عبد العزيز ( 2009 / 3 / 2 - 18:55 )
ابو بكر وعمر وعثمان وعلي .. جميعهم كانوا يحبون الله ويخافونه. أتمنى أن ترد على أسئلة الاستاذ رياض حبيب .حتى تتوضح الصورة لدينا من خلال اجوبتك . شكرا

اخر الافلام

.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس


.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال




.. قطب الصوفية الأبرز.. جولة في رحاب السيد البدوي بطنطا


.. عدنان البرش.. وفاة الطبيب الفلسطيني الأشهر في سجن إسرائيلي




.. الآلاف يشيعون جـــــ ثمــــ ان عروس الجنة بمطوبس ضـــــ حية