الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم العلم بين الاسلام والحداثة

مهدي النجار

2009 / 3 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


من أعوص المشاكل التي تواجه ثقافة العالم الاسلامي هي الصراع الذي يدور بين التمدن والتخلف، بين العلم والجهل ولا يتعلق أمر هذا الصراع بالديانات او الطوائف انما يتعلق الامر بتحديد المفاهيم والمصطلحات والارتباكات الحاصلة فيها، يتعلق الامر بنخب ثقافية امتهنت تدليس هذه المفاهيم وزجها في صناعاتها الوهمية، مستأنسة بتجهيل الناس ومسترزقة من زرع الالتباس والوهم في اذهانهم وقد برز مفهوم "الِعلّمْ" كواحد من اكثر المفاهيم تداولاً وأوسعها انتشاراً في منظومة الثقافة الاسلامية المعاصرة، يتسابق المتشددون والتقليديون من النشطاء في الحقل الثقافي،خاصة اولئك الناشطين في مجال الاعجاز العلمي للقرآن والسنة النبوية، بأضفاء صفة القداسة عليه ونزعه من تاريخيته وظروفه وبيئته وبالتالي النظر اليه في سياقاته الدينية الكلاسيكية وفق منظورات الحداثة والمعاصرة وادخاله في حقولها المعرفية الحديثة غير مُدركين ان هذا المفهوم شأنه شأن كل المفاهيم والمصطلحات يتطور ويحفل بالتعديلات والتصويبات وفق الازمنة والظروف والاماكن.
لقد تكررت لفظة "العلم" ومشتقاتها في القرآن الكريم حوالي 765 مرة ويرتبط هذا المفهوم بالقضايا الاساسية التي جاء بها، قضايا التوحيد والعبادة والاخلاق والمعاملات، ونفهم بان المقصود بالعلم هنا هو معرفة الله ومعرفة كتابه، عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم عَلمهُ الكتاب". (صحيح البخاري/باب العلم:143، 3546،6842). والمقصود بالعلماء هم الاشخاص الذين لهم باع طويل في حفظ وتفسير وشرح النصوص الدينية، اي الفقهاء في دين الله وشريعته،قال الرسول: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به".(صحيح البخاري/باب العلم) وكان في العصر النبوي شبه مدرسة لتحفيظ القرآن وتدارسه يذكرأحمد أمين في كتابه "فجر الاسلام": "اشتهر من الصحابة ستة او سبعة، عُدوا الطبقة الاولى في العلم ويختلف العادون في بعضهم فيضعون واحداً مكان الآخر، وهم:عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعائشة" ويضيف أحمد أمين: "أما الطبقة الثانية في العلم، فقيل انهم عشرون، والطبقة الثالثة نحو مائة وعشرين". ان هؤلاء العلماء (وتلاميذهم) الذين ينشطون في المجال الديني ويسخرون امكانياتهم الذهنية من اجل حفظ النص القرآني وتلاوته وشرحه ونشره بين الناس كان الرسول الكريم قد وزعهم في جميع انحاء بلاد الاسلام قصداً الى تعليم الناس، اي نشر الدعوة الاسلامية...فكانوا إذا مانزلوا بلداً أقاموا الحلقات وأنشأوا المدارس يفقهون الناس في امور الدين ويدعونهم الى طاعة الله ورسوله، ويقول عبد الرزاق نوفل في كتابه "المسلمون والعلم الحديث": " كلما زادت فتوحات الاسلام زادت الرغبة في تعلم العربية من سكان البلاد المفتوحة ليعرفوا شئون الدين الجديد، وزاد بذلك علماء الاسلام". نستخلص من ذلك ان العلم المقصود في القرآن هو العلم بدين الله وهو علم متعلق بالعبادات.يقول الرسول الكريم: "ساعة عالم مُتكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة عابد ستين عاماً " (صحيح البخار/باب العلم)، نُلخص ما قلناه آنفاً بأن مفهوم العلم في المرجعيات التأسيسية للاسلام لا تخرج عن النطاق الديني وتقترن بصورة اساسية بمسائل العبادة والتعبد، لذا استورث اغلب المسلمين المعاصرين العلم بمفهومه التقليدي/ التعبدي وهو القبول بالرأي او الحكم لمجرد ان مصدره مقدس( القرآن، النبي، الصحابة) يقول عبد الوهاب عزام بهذا الصدد: "لا اخال التاريخ يعرف أمة من الأمم الغابرة سارت سيرة المسلمين في طلب العلم والاخلاص في تحصيله وجعله عبادة الله يتعبد بها العلماء والمتعلمون واتخاذ المساجد للصلاة والدرس معاً..." ومفهوم التعبد، انني أقول ان (أ) يعني(ب)، وتطالبني بالدليل والحجة، أكتفي بالقول في معرض الجواب: لأن (س) من الناس قال كذا، هذه هي الهيئة العامة للأستدلال على طريقة التعبد وهي نفس الهيئة التي يستدل بها العلم التقليدي ومازالت اغلب النخب الثقافية في العالم الاسلامي تنتهجها وتستدل بها لانها لم تستطع الغاء عنصر التعبد من العلم قدر الامكان او انتزاع العلم من اسيجة العقائد المغلقة ودفعه صوب فضاءات معرفية كونية جديدة، ولا يمكن أن يتخيلوا ولو للحظة واحدة انه يمكن فصل الدين عن العلم، اوفصل الجامع عن الجامعة، هذه هي احدى سمات النخب التقليدية في العالم الاسلامي وتزعم: ان كل ما يكتشف في مجال العلوم إنما قد جاء به القرآن والسنة النبوية، وقد جاءت قضايا العلم بصياغة عجيبة وبألفاظ محدودة وإذا حدث شئ من التناقض او الاختلاف بتغير الزمان والمكان فهذا هو خطأ المفسر!!. ان هذا الاعتقاد هو نوع من الوقوع في الإسقاط والمغالطة التاريخية التي يمارسها العقل الاسلامي المعاصر، اي إسقاط تجربة الحاضر ومفاهيمه وخبراته على عصور سابقة لم تعرفها ولا كان بإمكانها ان تعرفها وليس يضيرها او يقلل من اهميتها انها لم تعرفها.
نعود الآن الى مفهوم العلم الحديث كما هو سائد في الانكليزية science ويُحدد بأنه: " نسق المعارف العلمية المتراكمة أو هو مجموعة المبادئ والقواعد التي تشرح بعض الظواهر والعلاقات القائمة بينها " .او يعني بالمفهوم الشامل للكلمة، هو كل نوع من المعارف أو التطبيقات. و هو مجموع مسائل و أصول كليّة تدور حول موضوع أو ظاهرة محددة و تعالج بمنهج معين و ينتهي إلى النظريات و القوانين. وقد أنشغل العلم بادئ بدأ بالدراسات والمعارف التي تدور حول الكون الفيزياوي وقوانين الطبيعة. ويُذكر ان الفيلسوف التجريبي البريطاني جون لوك (1632 (1704- المتأثر بأنجازات نيوتن هو اول من استخدم كلمة "علمي" بمفهوها الحديث ولابد من الاشارة الى ان العلم الحديث الذي ينتهج منهجاً يعتمد الملاحظة و التجربة و القياسات الكمية و البراهين الرياضية وسيلة لدراسة الطبيعة، و صياغة فرضيات و تأسيس قوانين و نظريات لوصفها قد تمايز وأنفصل تدريجيا عن مفهومي الدين والفلسفة، التي تعتمد أساسا على التفكير و التأمل و التدبر في الكون و الوجود عن طريق العقل، ولم يكن هذا الانفصال سهلاً لانه يستهدف تصحيح افكار أغلبية الناس الخاطئة عن أسرار الكون، فقد كانت المعرفة عند الانسان في الماضي السحيق وحدة غير متخصصة وجميع المعارف تقريباً كانت تأملية وضمن اطار الدين والفلسفة ونلاحظ انه في جميع الازمان كان الفلك جزءاً مهماً في نسيج المعرفة البشرية فمن اوائل الصراعات الفكرية كانت تدور حول الارض، وهل انها مسطحة ام كروية؟ وحين قال فيثاغورس (500 ق.م ) ان الارض كروية وانها تدور حول نفسها اعتبره الناس كافراً لان افكاره الجديدة هي إهانة للإله. وكانت فترة ما بعد 1500 ميلادية من اصعب الفترات التي مرَّ بها تاريخ العلم،لان الصراع هذه المرة اخذ طابعاً دموياً لدخول الدين كطرف في النزاع، وكان النقاش يدور حول موضوع واحد: هل ان الارض ثابتة كمركز للكون ام الشمس هي المركز؟ كانت قوانين وافكار البابا في روما هي التي يجب ان تنفذ، ومن احكامه القاسية ان كل من يتحدى آراء بطليموس وارسطو في الكون كافر ومعنى ذلك انه يجب على البشر جميعاً ان يعتقدوا بان الارض ثابتة وهي مركز الكون وان الشمس تابع لها وتدور حولها ومن ينكر ذلك فهو زنديق يستحق الموت. باختصار كانت الثورة الكوبرنيكية هي التي وضعت الدعائم الاساسية للعلم الحديث وكان كوبرنيكس ( (1543-1473هو المؤسس الحقيقي للثورات العلمية حين أصرَّ من خلال بحوثه: "ان الشمس هي المركز وان الارض تدور حول نفسها وحول الشمس". من كان يصدق ان المجتمعات الاوربية ستخرج من هذه الاجواء الكالحة التي تضغط فيها الاكراهات القسرية على الناس، ومن كان يستطيع ان يتصور ان النظام الديني الذي سيطر عليها طيلة ثمانية عشر قرناً يمكنه ان ينزاح عن وجهها ويحل محله النظام العلماني، إن قانون 1905 الذي فصل الدين عن الدولة في فرنسا ورسخ النظام العلماني كان تتويجا لقرن بأسره من الصراعات السياسية والفكرية الذي هو القرن التاسع عشر. ففي هذا القرن تحققت الفتوحات العلمية الكبرى وفرضت فكرة التقدم نفسها على الجميع. ثم تتسارع الخطوات ويتمايز عالمنا المعاصر بالتطور الهائل في العلوم التجريبية، وعلى وجه الخصوص بالانجازات الضخمة في العلم الرائد الذي يدرس تركيب الكون والعلاقات العميقة للتناسق الكوني، اي علم الفيزياء، وحقيقة الامر ان العلوم التي تنتهج مناهج حديثة للسيطرة على الطبيعة لم تكن صفة عالمية لكل المجتمعات، بل تم ابتكارها عند نقطة معينة في التاريخ على يد بعض الاوربيين، الا ان هذه الابتكارات اصبحت مشاعاً لكل الاقوام، او كما يشير فرنسيس فوكو ياما: "متى يتم ابتكار المنهج العلمي فانه يصبح ملكاً للانسان العاقل، ويمكن لاي شخص ان يستعمله بغض النظر عن الاختلافات في الثقافة او الجنسية". الا ان استيعاب العلوم الحديثة والتكنولوجيا يتطلبان أستعياباً للعمليات الفكرية التي تصاحبهما.
ان المسلمين بشر كبقية شعوب الارض تهمهم العلوم الحديثة وتشدهم اليها منجزاتها وليسوا مسجونين في خصوصية التخلف كما انها أبدية إنما من الممكن اختزال اوضاعهم الى اوضاع اخرى، ولا نرى في الدين الاسلامي في اطاره العقلاني اي عائق من عوائق اندماج هذه المجتمعات في الحداثة، لكن اذا ارادت ذلك، اي الدخول في طور الحداثة والتمدن والانخراط بمسؤولية في مضامير العلوم الحديثة ، وهذا أمرٌ لامناص منه ولا بديل، فعليها ان تتدارك ما فاتها بكدح الليل والنهار وتتفحص علومها ومفاهيمها وتراجعها مراجعة نقدية صارمة وتُخضع كل شئ للدليل والبرهان، كذلك يتطلب من هذه المجتمعات ان تنظر بمدى صلاحية علمائها لا ان تظل راكضة خلف العلماء الكذابين الذين يزورون في آن واحد، العلم والدين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كم ينصلح حال العالم لو؟
العقل زينة ( 2009 / 3 / 16 - 20:40 )
كم يمكن للعالم أن يتغلب علي العديد من تحديات العصر من

امراض فتاكة ومجاعات مميتة وتصحر قاتل لو إنضمت تلك الأمة_ البائسة بمجموعة من المنتفعين علي حساب تجهيل شعوبها_ إلي التسابق العلمي الفعلي والجاري ما بين الشعوب المتحضرة ومتقدمة علميا وتكنولوجيا

اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال