الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمقراطية المغدورة

ماجد الشيخ

2009 / 3 / 20
المجتمع المدني


سياسة غائبة .. حريات مقموعة وثقافة مفرغة
إلام إنتهت "أعراس انتخاباتنا" في عصر تفشت فيه عولمة الامبراطورية الاميركية. ومدت فيه أذرعها الاخطبوطية وتشعبت، وما عكسته من محاولة ترسيخ دعائم فاعلة في اسناد واشاعة روح الاستبداد، وانتشار الإرهاب المعولم على إمتداد القارات. وأي ديمقراطية يمكن أن تنشأ في ظل سيادة هذه الانماط المستجدة، من التعولم الراهن، الذي حوّل كل ممارسة سياسية إلى شكل هجين، فيما تحولت قوى سياسية عريقة إلى هجائن سياسية. وأخرى مستجدة ما كان لها ان توجد على ضفاف العولمة الراهنة، إلا لتخدم هجنة التأسيس المعولم للفراغ والإفراغ الذي يوحي بالامتلاء الكاذب، في نطاق السلطة والمجتمع وشرائح طبقية، حيث النخب السياسية والدينية والثقافية توغل في تمركزها الواضح لإنتاج وعي زائف، إرتفع وترافق مع وجودها منسوب التبعية لليبرالية غربية تزداد وحشية، كلما أوغلت في إرساء هيمنة أكثر أدلجة لكامل سلوكها العولمي. وكلما رسخت من مفاهيم هجينة، إزداد معها منسوب الولاءات العشائرية والقبلية والمذهبية والفئوية، وحتى العائلية الاضيق، في تمدد واضح بإتجاه إنحيازات محلية لمراكز التسلط الاستبدادي، الفاعلة في إطاراتها الاشد تحلقاً حول الذات النرجسية الأحادية، وارتباطاتها وعلاقاتها بالخارج الاستعماري الغربي، الذي يختزله اليوم مركز عولمي واحد، أحادي يذهب في هيمنته على النظام الدولي حيث أعالي قمم الهيمنة السياسية والاقتصادية.

في مناخات عولمة كهذه، ما كان ممكناً نشوء أي شكل من أشكال الديمقراطية، ولا يمكن للديمقراطيات أساساً ان تقوم في مناخات من تخلف الفكر السياسي، وغياب الثقافة السياسية؛ في ظل ترديات الحال الاقتصادي والاجتماعي، وتباطؤ نمو النظام السياسي، ان لم نقل مراوحة هذا النظام عند مستوى معين من الضعف والعجز عن تطوير آليات سياسية، قادرة على مواكبة تطور قوى الحداثة والمعاصرة، وقدرته على فرض خيارات الإرادات الحرة لمواطنيه، ما قد يساهم في بلورة وصقل تجربة ديمقراطية تطور من آليات تداول للسلطة حقيقية وفاعلة، تساهم إسهاماً خلاقاً في رفع منسوب الحرية، والخيارات التي تفتح آفاقاً واسعة لتعددية وتنوع حقيقيين، يحفظان للحقوق الفردية والجماعية الاهلية كل فرص وإمكانيات التساوي، نقيضاً لمنطق الاحتكار والهيمنة التي تكرسها او تحاول؛ قوى النفوذ والثروة والسلطة من أحزاب وتيارات ومنظمات شمولية، من داخل السلطة ومن خارجها.

العولمة هي المعادلة الجديدة لعنف إكراهات الإخضاع والهيمنة التتبيعية، بل هي شكل القوة الراهن وجوهرها، الاقوى هو الذي يفرض شروطه وشرطته في النطاق الدولي، كأداة ناظمة وحارسة للأساطير العقيدية المؤسسة لإيديولوجيا الفرض والاكراه، العاملة على إشاعة الاستبداد المرتهن لأشكال من "ديمقراطيات سوقية"، وإختلاق "ليبرالية جديدة" متوحشة، تناهض الديمقراطية، وتعادي حرية الاختيار، وتحطّ من قدر الارادات المحفزة على هذا الاختيار، في إرساء لأشكال جديدة من إستبدادية السوق وإنتظاماته المعيارية، الملتزمة قيم الواحدية؛ والأحاديات النازعة إلى إلغاء روح المنافسة وتقويض حرية الاختيار، وإستبدال "الحق الانتخابي" بـ "حق المشاركة المجردة"، في انتهاك لكل قيم وأخلاقيات ثقافة الديمقراطية الحقة، ما ولّد في الممارسة العملية ترسيخاً للا معنى، بل وترسيخ معنى لأوهام "ديمقراطية" يراد لها ان تتراكب قسراً وحشراً في مركب واحد؛ كنقيض لليبرالية الحقّة، مع تلك الليبرالية التي إستكملت في نطاق المشروع "الاممي الجديد" لعولمة الامركة الامبراطورية الاميركية كامل حضورها المؤدلج، ضافية عليها عنف حتمية تاريخانية مناهضة للحرية وللديمقراطية، بما هي في الاصل نتاجا أصيلا للحرية – حرية الارادة الفاعلة لإنسان يعقل إدراكاته ويدرك عقلانيته – إلا أنه وفي عصر كهذا – عصر العولمة الامبراطورية النازعة إلى إفقاد الارادة ذاتها والحرية جوهرها-، فإن الديمقراطية أضحت "سلعة سوقية" مفروضة من خارج السوق، غير خاضعة لا لعرض ولا لطلب، هي سلعة تسويقية مفروضة ومعروضة – مقبولة أو مرفوضة في بعض الأحيان وبعض الاماكن او البلدان – في سوق بلا منافسة، تساوت فيه أشكال الديمقراطية الديكورية ومضامين الاستبداد، طالما ان العارض هو نظام كولونيالي "مركزي"، والشاري هم ضحايا كل إستبداد تنتجه السلطة، محلية كانت او عولمية.

العولمة إذن هي الاسطورة الجديدة، والتعولم هو الاسطرة الجديدة للذات في تماهيها مع إستبداد وأحادية العولمة الامبراطورية، العولمة التي وجدت متسعاً من الوقت لإستكمال عدة هيمنتها دون منغصات المنافسة او المقاومة الحقيقية، وتتبيع الآخرين وزجهم في إطار سوق كبير هو العالم مبتسراً ومجزوءاً، محتكراً ومصادراً، أحادياً في خضوعه لعنف الاصوليات وأيديولوجياتها التي قوّضت بنى الدولة وأفرغتها من كل معنى.

وإذا كان الاجتياح الاميركي المعولم قد إستهدف حتى مجموع تفاصيل حياة الشعوب؛ من السياسة إلى الاقتصاد إلى الثقافة إلى التعليم، وحتى الدين نفسه، لجهة محاولات تغيير أو طمس بعض المناهج التعليمية والدينية، فإن إجتياح المجزءات الطائفية والمذهبية والعصبويات الفئوية في محاولتها الهيمنة على تفاصيل حياة المجتمعات، حوّل العملية الانتخابية من تنافس يفترض أنه ديمقراطي في حيثياته، إلى تناحر سياسي، سلاحه المتاجرة بالنزعات التجزيئية التي أدت في بعض البلدان إلى إغراق المكونات الوطنية بالدم، عبر متاريس الاختراق والافتراق بين "الوحدة" من جهة و"الوطنية" من جهة أخرى، وخروجاً عليهما معاً، فعن أي وحدة او وحدات وطنية يمكن الحديث إذا كانت هي تلك المعبر عنها في تضامن وتكامل مصالح النخب السياسية والمالية الطامحة للسلطة؛ وصولاً إليها او تكريسا لوجودها فيها او إحتفاظاً بها؟ هنا تصبح "الوحدة الوطنية" مجرد فولكلور مصالحة المصالح السياسية والمالية لأربابها. فمن يحرر المواطن ساعتئذٍ من الاقطاع السياسي والمالي السلطوي الفاسد والمفسد، ومن عصابات الارتزاق العصبوي الطائفي والمذهبي، وأي ديمقراطية يمكن ان تنتجها عملية إنتخابية هي نتاج قانون المحاصصات والتوافقات الفوقية التجزيئية، إن لم يكن هدفه مصادرة الديمقراطية في حد ذاتها كعملية إجرائية، قبل أو بعد أن يجري مصادرة الارادة الشعبية للناخبين/المواطنين؟

هنا نحن في مواجهة إستبداد يستنسخ ذاته، طبقات ترث نفسها، سلطة تعيد إنتاج ذاتها وعلى صورتها السابقة، وأبناء يعيدون إنتاج أنفسهم توريثاً وإستنساخاً هجيناً، وجمهوراً لا يستطيع ان ينتج سلطة دولة. وفي كل ذلك؛ فإن من يذهب طواعية وصولاً إلى مثل هذه النتائج الكارثية، يجعل من الاستحالة إحداث اي تحول او تغيير في الانماط السائدة داخل المجتمعات. ومجتمعاتنا العربية تحديداً، مجتمعات تحمل إشكالياتها في ذاتها: إشكاليات تداخل الدين بالسياسة بالمال وبالسلطة، وتمكنهم من الاستفراد والهيمنة وتعميم الاستبداد، وخلق أنماط من عقلية التباسية، تماهي وقد ماهت بين الدين والسلطة، السلطة والاستبداد، ولم تنتج مجتمعاتنا جراء ذلك سوى جماعات مغلقة وزعامات إستزلامية، قاربت او ماهت بين رجل الدين والسياسي، والسياسي ورجل الدين، في رؤية أحلّت تبادل المنافع والمناصب، وتبادل أدوار إستبعاد الحقوق والناس من مجالات عمل السلطة الدينية والسلطة السياسية على حد سواء. وصارت الواجبات الكثيرة هي العلاقة الابرز في نشر مفاهيم التبعية بين الرعية، وصار الناس مجرد رعية لرعاة العلاقة الوحيدة المتاحة والمستحبة، هي تلك القائمة في الحفاظ على الدور الوظيفي المتحقق لمصلحة السياسي او رجل الدين، فيما قادا ويقودا إليه من تأطير حركة الرعايا في نطاق أحزابهما وتياراتهما على إختلاف أشكالها التنظيمية، وذلك إنحيازاً لمسيرة طويلة من الأدلجة المعادية للعلم والعلمانية، للعقل والعقلانية على حد سواء.

من هنا فإن الخطاب الديني عموماً وإطلاقاً، وإن نحا وينحو في أدلجته نحو الوظيفة الوحيدة التي يجيدها، فإن الخطاب الاميركي الديني هو خطاب أيديولوجي بإمتياز، يجري توظيفه لخدمة عولمة منفلتة ومنفلشة، فهو مناهض بالتأكيد للعلمنة، وإن لم يكن معادياً للعلم بشكل مطلق. أما الخطاب الديني عندنا، فهو علاوة على أيديولوجيته الفاقعة والمنفلتة، فهو خطاب معادٍ للعلم ومناهض للعلمنة كذلك. وهو إذ يسعى إلى توظيف وإستثمار جهد الجمهور المتدين في معاداته ومناهضته تلك، فإنه وفي سياق أهدافه النهائية، لا يختلف في شراكته مع العولمة الاميركية على هدف إلغاء الدولة أو تقويضها، وتحويلها الى مجرد "ألعوبة سوقية" لدى أرباب العولمة، وألعوبة تنشيط روح "الهيمنة المطلقة" لدى أرباب التدين السياسي عندنا. وكلاهما يسعى إلى الالغاء والاقصاء او التهميش كهدف ناجز في سياق مواجهة قوى العقلانية النقدية الساعية إلى بناء دولة حديثة، دولة علمانية حقيقية تحقق إستقلال العلم عن الدين، وتنجح في فصل الدين عن الدولة، وإستعادة تحرير الدين من توظيفات نخب دينية وسياسية أبعدت الدين عن مجالاته الفعلية، وأبعدت السياسة عن دورها المفترض.

إن إستمرار محاولات دمج السياسي بالديني، والديني بالسياسي، ومواصلة إقامة التماهي في أدوارهما، لن يولّد سوى ممارسة قهرية لسلطة مستبدة، إحدى سماتها الابرز تحويل الناس - المواطنين- الرعية إلى خدّام لسياسات الإدغام السياسي -الديني، والمضي في عملية إقصاء وتهميش، والاستيلاء على دور المواطن، في سعيه وطموحه للعمل على تكريس إرادته الحرة في بناء مجتمعه، وتحديد خياراته الديمقراطية، بعيداً عن منطق الاكراه والغلبة، وبعيداً عن الوقوع تحت سطوة عصابات الارتزاق العصبوي التي عاثت وتعيث فساداً وإفساداً وإفشاءاً وترويجاً لثقافة الخوف داخل مجتمعاتنا.

لقد وصلنا إلى وضع باتت فيه النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية على اختلافها، لا تبحث عن ذاتها الاجتماعية، في ما قد يحقق لشعوبها ومجتمعاتها واوطانها، أهدافها وطموحاتها الوطنية والاجتماعية، إلى جانب طموحات الاصلاح والتنمية والحرية والديمقراطية، ودفاعاً عن حق الانسان في العيش بكرامة، بل في ما يحقق لهذه النخب او تلك ذاتها وطموحاتها هي في السلطة والثروة والنفوذ، وهي لذلك ما عادت تنشدّ إلى قضايا مجتمعاتها الوطنية قدر إنشدادها إلى مصالحها الخاصة، والعمل على تنمية مصادر وإنعاش آليات هيمنتها السلطوية.

إن الفراغ السياسي الذي تعيشه مجتمعاتنا، وسط ثقافة مفرغة، وفي غياب مشروعات سياسية – ثقافية في أروقة السلطة، ومطاردة الثقافة السياسية الفاعلة والمنتجة في مجالاتها. كل هذا مهد ويمهد لإستقبال والقبول بأنماط من مسلكيات وقيم إستبدادية، ما جعل ويجعل من إرهاب القتل العبثي المعولم يمتح من أيديولوجيا شمولية كامنة، تسود الآن وتنمو تحت اجنحة السلطة الشمولية ذاتها، وخروجها "التنافسي" على حواضنها السابقة لا يعني إنها باتت تمتلك برنامجاً او مشروعاً سياسياً او أية رؤى جديدة، بل هي في "إنطلاقتها المتجددة" هذه، إنما هي تعيد إنتاج عداواتها وتوسيعها وفق صيغ جديدة، في مركزة لأهدافها وتوجهها صوب العداء المطلق لإمكانية بناء دولة حديثة ومجتمع حديث، ما أبقى ويبقي السلطة الحاضنة و"خوارجها" الجدد عند حافة البقاء على الاستبداد المقيم، في تماه مطلق ومطبق لتنمية روح الاستعداء المتواصل لفكرة السياسة ومجموع القيم الثقافية، فأين تقبع الديمقراطية وثقافتها وسط هذا الهلاك المدمر لبنى المجمتعات والدول؟

إذا كان للدول من الفشل نصيب، فإن للسلطة من هذا الفشل أكثر الأنصبة القائمة والمحتملة، لا سيما في ظل أشكال من "الديمقراطية الديكورية" السائدة في بلاد الاخضاعات السلطوية، حيث قياصرة الاستبداد الشرقي المتناسلين كالفطر، وحيث الأشكال التزيينية الديكورية تمنع او تحد من تطوير الحرية الاجتماعية والحريات السياسية، ومن ان تبلور ثقافة ديمقراطية او تؤسس لحيثيات ديمقراطية تربوية حقيقية، وسط سيادة مفاعيل هلاكي السلطة والسلطة المطلقة. فالأشكال السائدة راهناً لن يكون في مستطاعها كذلك ان تولّد آليات إنتاج الممارسة (سلطوية كانت او معارضة) في إطار كيفية إنبثاق السلطة في بلاد تشكل أمثال هذه السلطة فيها المعلم الوحيد الثابت، العصيّ على التغيير او التبديل الذاتي. فيما الديمقراطية وبالتأكيد تقبع في مكان آخر، حيث بنية المؤسسات الناظمة والدستورية القائمة والفاعلة، القادرة على إنتاج حلول ومخارج عملية للأزمات والاشكالات السياسية والمجتمعية، وما يتفرع عنهما من إشكالات متلازمة ونظرية نشوء السلطة، وأكثر بكثير إزاء نظريات إنتاج الدولة.

ولهذا تعكس الهشاشة التي تقف على أرضها قضية المواطنة، هشاشة البناء الديمقراطي وزيف آلياته والمعايير التي تحتكم إليها العملية الانتخابية برمتها، في غياب الحريات الاجتماعية والسياسية التي تشكل القاعدة الأساس لحرية التعبير وحرية الانتخاب. ففي غياب الاسس الحقيقية لمواطنة فاعلة، وفي مجتمعات طبقية بإمتياز، وسلطوية وتسلطية بأكثر من إمتياز، لا يمكن للديمقراطية ان تستقيم حتى في الاطار السياسي الذي يسم العملية الانتخابية كعملية إجرائية. والاهم أنه وفي غياب الدولة الحافظة والحارسة والناظمة – الحيادية – في إشرافها على تلك العملية، وعدم إنحيازها أو تحيزها لجهة دون أخرى، لقوى دون أخرى من القوى السياسية او الاجتماعية، فإن السلطة في بلادنا هي جزء رئيس من المشكلة، بل هي المشكلة في حد ذاتها، إذ لا يمكن لإستبدادية وسلطوية هذه السلطة القاهرة، المنحازة لهيمنتها ولدورها التقليدي بالأساس ان تشكل الوسيط النزيه، بل هي أحد أطراف العملية، الطرف الأقوى فيها، القادر على عجنها، وخبزها في مصهرها الناري بعيداً عن الأعين ورقابة المجتمع وقواه، وذلك قبل الوصول إلى مرحلة وضع الاوراق في صناديق الاقتراع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دوجاريك: القيود المفروضة على الوصول لا تزال تعرقل عمليات الإ


.. الأونروا تقول إن خان يونس أصبحت مدينة أشباح وإن سكانها لا يج




.. شبح المجاعة في غزة


.. تشييد مراكز احتجاز المهاجرين في ألبانيا على وشك الانتهاء كجز




.. الأونروا: أكثر من 625 ألف طفل في غزة حرموا من التعليم بسبب ا