الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة الفرنسية وملحمة الحرافيش

نرمين خفاجى

2009 / 3 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


"كانت معركة لم تسبق بمثيل من حيث عدد من اشترك فيها .فالحرافيش اكثرية ساحقة .وفجاة تجمعت الاكثرية واستولت على النبابيت فاندفعت فى البيوت والدور والوكالات رجفة مزلزلة تمزق الخيط الذى ينظم الاشياء... واصبح كل شىء ممكنا..!! ."
نجيب محفوظ – ملحمة الحرافيش
فرنسا منتصف القرن ال18
باريس اكبر مدن فرنسا واكثرها امتلاءا بالجوع والذعر،بالثراء والثقافة،بالحرافيش والنبلاء،بالمثقفين والتجار ،ممتلئة بالتناقض الصارخ الذى يعصر المدن ويفجر منها الثورات،الان وبقلب ميدان الباستيل الشهير يقف اله الحرية الذهبى حيث انهار السجن العتيق فى 14 يوليو 1798 تحت اقدام الجماهير الثائرة ليحكى قصة اعظم واعنف ثورات القرن ال18 الثورة الفرنسية.
كان لابد من ازالة ذلك النظام الاقطاعى الذى افلس سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، وادى الى هزيمة فرنسا امام انجلترا -التى كانت قد سبقت فرنسا بقرن من الزمان فى التخلص من ذلك النظام القديم- ومع اهتراء الاقطاع وهيمنة النبلاء ، ووقوع فرنسا فى هوة الديون ،نمت طبقة ثالثة سميت "بالبورجوازية" تضم الموظفين والمهنيين المشبعين بأفكار فلسفة التنوير عن الحرية والمساواة وحقوق الانسان وايضا التجار والحرفيين اللذان راكما ثروتهما من العمل بالتجارة والصناعة.حملت هذه الطبقة بداخلها صورة لفرنسا حديثة،بها حكم دستورى يساوى بين الطبقات ويضمن لها تمثيلا سياسيا يدافع عن مصالحها.
مع احتدام الازمة الاقتصادية استمر تشييد الملوك للقصور واعفاء النبلاء من الضرائب ،وارتفع انين الشعب تحت سياط الاسعار والضرائب المتنوعة والمتذايدة،واصبح الجوع مع ازمة الخبز من مألوفات الحياة.
فى تلك الاجواء بدأت الطبقة الثالثة فى الصعود وفرض نفسها على مسرح الاحداث منذرة بأفول طبقة النبلاء الاقطاعية ،وخاصة عندما فشل الملك لويس السادس عشر الجالس على عرش فرنسا حينذاك ان يجبر النبلاء الذين يستمد شرعيته من دعمهم له ،على الانصياع لخطة الاصلاح الاقتصادى ،التى تضمنت فرض ضريبة عقارية تصاعدية تتناسب وقيمة الارض ويخضع لها الجميع بغض النظرعن الانتماء الطبقى ،وبتمنع النبلاء تم فرض المزيد من الضرائب على الفلاحين مما ادى الى اندلاع عدة انتفاضات فلاحية .
انضم الى صفوف الطبقة الثالثة التى كانت تطالب فى البداية بحكم ملكى دستورى يساوى بين كافة الطبقات ،بعض النبلاء الليبراليين امثال ميرابو ولافاييت وعدد من رجال الدين كان اشهرهم الاب سييس ، والذى كتب مقالا هاما تحت عنوان ما الطبقة الثالثة ؟ بين فيه ان الامة هى صاحبة السيادة وان الطبقة الثالثة هى التى تجسد الامة فى حين لاتعدو طبقة النبلاء سوى اقلية ضئيلة غير فاعلة، طبقة يمكن القضاء عليها بدون اى ضرر !!.
وللخروج من الازمة دعا الملك في صيف 1789 لعقد مؤتمر بفرساى تمثل فيه الطبقات الثلاثة "النبلاء –رجال الدين – الشعب "من برجوازيين وفلاحين وفقراء المدن".
وهنا كان لزاما على كل طبقة ان تنتخب ممثلين لها فى المؤتمر ،وكانت هذه الانتخابات هى المفتاح الحقيقى للثورة حيث ادت الى زيادة الوعى السياسى فى البلاد بأسرها ،فعلى الرغم من انتشار الفقر والاميه وتخلف طرق المواصلات،الا ان ذلك لم يشكل اى عائق امام شلال الحيوية والتسييس والاهتمام بالشئون العامة ،فمن اقصى البلاد الى ادنها كان الرجال يلتقون لتبادل الاراء حول مشكلاتهم ومشكلات البلد بصفة عامة ولاختيار نوابهم الذاهبين الى مؤتمر فرساى،لقد تحولت الانتخابات الى ناقوس ايقظ الشعب ،و ساعدت هذه اليقظة على فرز المنتخبين ليبرز من بينهم اكثرهم ثقافة وتصميما وقدرة .
مؤتمر فرساى..وصيحة الثورة
اليوم الاول لمؤتمر فرساى كان كرنفالا مستفزا حيث اصر ممثلو النبلاء على ارتداء ملابس احتفالية ،واكمالا للكرنفال اصر الملك ان يرتدى ممثلو الطبقة الثالثة بزة البرجوازى السوداء ،مما اجج مشاعر الغضب لدى ممثلى الطبقة الثالثة والتى اضطر ممثلوها الفقراء الى تأمين بزة بلاط لهذه المناسبة ،وازدراءا للممثلى الشعب طالب النبلاء باجتماع كل طبقة على حدة فى قاعات منفصلة، قابلت الطبقة الثالثة الاستفزاز بالاصرار على اجتماع الطبقات الثلاث معا وان يتم التصويت على اساس فردى ،مما يضمن التفوق للطبقة الثالثة اذ ان عدد ممثليها ضعف عدد ممثلى النبلاء ،بالطبع رفض النبلاء هذا المطلب ،الذى ادى الى اعلان ممثلو الطبقة الثالثة تكوين جمعية وطنية ودعوا رجال الدين والنبلاء الى الانضمام اليها .وقطعوا عهدا على انفسهم بألا يتفرقوا حتى يقر دستور المملكة على اسس سليمة . بدأ القلق يساور الملك من قوة وتصميم هذه الطبقة فبعث بقوة من 30 الف جندى لفض المؤتمر وامر بأغلاق قاعة الطبقة الثالثة.
لمواجهة عسكر الملك كان لابد من تسليح الشعب لذلك انطلقت صيحة ديمولان احد ممثلى الشعب "الى السلاح ايها المواطنون" معلناً بداية الثورة.
تدفقت الجماهير فى 14 يوليو والذى اصبح العيد القومى لفرنسا مدفوعة بايمان عميق بحقها فى حياة لايسكن فيها الجوع اجسامهم، لتقتحم سجن الباستيل بحثا عن السلاح والذخيرة .وبانتقال خبر سقوط الباستيل والاستيلاء على مابه من اسلحة، اعلنت باقى المدن الفرنسية الثورة ،وشكلت لجان للمواطنين لتحل محل السلطات القديمة واعلنت هذه اللجان تضامنها مع العاصمة ومع الجمعية الوطنية ونظمت حرس وطنى لحماية الثورة من اى ثورة مضادة قد يشنها الملك ونبلاءه .
وفى الريف قام الفلاحون الذين عانوا طويلا من الفقر والذل باحتلال قصور الاقطاعيين ودمروا سجلاتهم وحرقوا صكوك الضرائب ، واضرموا النار فى العديد من القصور.وبذلك غدا النظام الاجتماعى والاقتصادى فى الريف الفرنسى فى قمة تفككه وانحلاله .
وفى 4 اغسطس قدمت الجمعية الوطنية الى الشعب "اعلان حقوق" كان بمثابة شهادة وفاة الاقطاع تضمن الغاء الضرائب التى فرضها النبلاء على الفلاحين،والغاء العشور التى تتقاضاها الكنيسة،واعلن حق المواطنين جميعا فى شغل الوظائف العامة بغض النظرعن انتمائهم الطبقى.
اما اهم وثيقة صدرت عن ثورة القرن الثامن عشر فى 26 اغسطس كانت اعلان "حقوق الانسان والمواطن" التى اقرت ان البشر يخلقون ويبقون احرارا متساوين فى الحقوق .
الملكية و زفة الحرافيش!
لم يشك زعماء الثورة للحظة فى حتمية قيام الملك والنبلاء بثورة مضادة ،لذلك خططوا لنقل الملك المقيم بقصر فرساى ،الى قلب باريس معقل كراهية الملك والارستقراطية حيث تحتشد وتعيش الطبقة الثالثة- بجميع شرائحها ابتداءا من الصيارفة وانتهاءا بالشحاذين .
ومع اختفاء الخبز انطلقت رائحة المأدبة التى اقيمت بقصر فرساى البعيد ،وتحدثت فيها الملكة "بقرف"عن الشعب والثورة لتقود الحشود الجائعة ومعظمهم من النساء فى مظاهرة ضخمة وصلت الى ما يقرب من 8 آلاف امرأة زحفوا جميعا الى فرساى مطالبين بالخبز وعلت الاصوات تلعن الارستقراطية .
وبعد مبيت ليلة فى العراء استطاعت مظاهرة الحرافيش التى حلقت فوقها سحابة من رائحة عرق الفقراء والمهمشين وبائعى الاسماك والمومسات وغيرهم من البؤساء والصعاليك، اقتحام قصر فرساى الرائع ذو المئة غرفة واحتلوا الاجنحة الملكية وتعالت صرخاتهم الجائعة "نريد خبزا" "اين الملك" "الى باريس"،وفى الظهيرة تشكل موكب ضخم يضم اكثر من 60 الف شخص احاطوا بالعربة الملكية وبداخلها الملك والملكة مذعورين وقد احسوا باقتراب النهاية ، وتحول الموكب الى زفة شعبية ساخرة تشدو بأغانى الانتصار "عدنا بالفران والفرانة وصبيهما" ويتمايل امامها النساء راقصات فرحين بالغنيمة !!.
اليعاقبة والثورة المضادة والمقصلة !!
اقام الملك فى باريس ،محاصرا بأحلامه فى استرجاع هيبته القديمة ،لذلك شرع بألاتصال بملوك اوربا لانقاذه من براثن الثورة ،وفى 1791 قبض عليه وهو يحاول الهرب واعيد الى باريس،وخوفا من انتقال عدوى الثورة شن ملوك اوروبا الحرب ضد فرنسا، وبدأت تعبئة الجماهير لصد العدوان ودحر الثورة المضادة ، وسرعان ما سيطراليعاقبة على الجمعية الوطنية بتأييد عارم من جماهير الفقراء وأصدروا قرارات ثورية تقضى بأعدام الملك وإلغاء كافة القوانين الإقطاعية ،وتحرير العبيد في المستعمرات الفرنسية وإعتبارهم مواطنون احرار،كما اصدروا قانون الحد الأقصى للأسعار الذى كان مطلب رئيسي للجماهير،كما صادروا املاك الكنيسة الكاتوليكية التى كانت تؤيد الملك .
و اليعاقبة عرفوا بهذا الاسم لعقد اجتماعاتهم العامة فى قاعة كانت تخص فى الماضى الرهبان اليعاقبة ،وينتمى غالبية اليعاقبة الى الشرائح الميسورة والمثقفة من الطبقة الثالثة،والنوادي اليعقوبية كانت هى التنظيم الثوري الذي ينظم صفوف الثوار.
كون اليعاقبة جيشاً وطنياً ضخما ضم الآلاف من فقراء المدن ، لمواجهة الثورة المضادة القادمة من الخارج ، وفى الداخل استخدم اليعاقبة المقصلة لأعدام قيادات الثورة المضادة من النبلاء .
وفى عام 1792 بدأت الخلافات تشتعل داخل الجمعية الوطنية فانقسمت الى يمين ويسار . اليمين يريد ملكية دستورية مع الغاء القوانين الاقطاعية ،واليسار يريد القضاء نهائيا على النظام القديم. قاد اليسار ماكسمليان روبسبيير وسان جوست ومارا الذين انتموا الى اليسار.
بعد إنتصار الفرنسيون في الحرب ، دخل اليعاقبة في أزمة حادة كان للمقصلة فيها وجود طاغ, فبينما طالب اليمين بإنهاء الثورة واجراءاتها الإستثنائية، بزغ يسار جديد أكثر راديكالية من اليعاقبة طالب بتأميم البنوك، وبرز منهم بابوف الذى اصدر بيان سنة 1795 كتب فيه ان الثورة لن تكتمل ما لم يحصل كل فرد على حصته من خيرات هذا العالم حصة تعادل تماما حصة الاخرين وللوصول لهذه المساواة الحقيقية يتحتم الغاء الملكية الخاصة على الفور لان كل اعادة توزيع عادل للثروات لن يقيض لها الاستمرار ما دامت الملكية الخاصة قائمة .
كان من المستحيل في تلك اللحظة تحقيق آمال ذلك اليسار الجديد ،لان غالبية فقراء المدن كانوا من صغار التجار والصناع وليسوا طبقة عاملة في مصانع، وكان هؤلاء يحلمون بعالم متساوي من صغار الملاك وهذا ايضا ما كان يعبر عنه روبسبيير كزعيم لليعاقبة، وفي نفس الوقت لم يكن من الممكن إبقاء الوضع على ما هو عليه فالبرجوازية تريد إنهاء حالة المظاهرات والتمردات شبه الدائمة،وللخروج من الازمة قام روبسبيير بالإطاحة بيمين اليعاقبة الذين كانوا يطالبون بإنهاء الثورة ،فبعث بدانتون خطيب الثورة الشهير الى المقصلة، ثم اطاح أيضاً باليساريين من أمثال هيبرت.
ثم مالت الجمعية الى اليمين الذى استطاع بمؤامرة صغيرة ارسال روبسبيير وسان جوست الى المقصلة.
بعد اعدام روبيسبير سيطر اليمين على الأمور واغلقت النوادي اليعقوبية،وطورد اليعاقبة فى كل مكان،وإعدم منهم الكثيرون،والغيت الكثير من القرارات والقوانين الثورية. ولكن بعد كل هذه العقود لا زالت مبادىء الثورة الفرنسية "العدل ،الحرية والمساواة والاخاء " هى حلم البشرية الاكبر.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حرافيشهم غير حرافيشنا
أبو هاجر: الجزائر ( 2009 / 3 / 21 - 11:06 )
نعم يا ست نرمين، حرافيشهم قدموا التضحيات اقتحموا السماء من أجل الغزة و الكرامة، لم يبالوا لا بالنفس و لا بالنفيس لأنهم تعلموا أن الحرية تؤخذ ، تنتزع، بالدم و البارود. أما حرافيشنا فهي ذليلة مستكينة مستسلمة استسلام عبودي تصفق لجميع المستبدين بشعارات بالروح بالدم نفديك ،بل لا أبالغ إذا قلت أن حرافيشنا هي التي خلقت مستبديها ومضطهديها.بالمناسبة لقد نسيت يا نرمين شيئا مهما وطريفا ،لما كانت الجماهير متوجهة نحو القصرر الملكي وفي مفترق الطرق كانت تقف إمرأة ،ممن أطلقت عليهم اسم مومسات، هي التي أشارت عليهم بالتوجه نحو سجن الباستيل بدل القصرر الملكي و الكثير من المؤرخين يقولون إن هذه المرأة هي التي غيرت تاريخ فرنسا من خلال هذا الاقتراح .بالمناسبة الفرنسيون كانوا يطلقون عيهم اسم
femme sans culotte

اخر الافلام

.. إسرائيل تسيطر على الجانب الفلسطيني من معبر رفح.. وتوقف دخول


.. بعد قتله جنديين.. حزب الله يستهدف مجدداً ضباطاً إسرائيليين ب




.. هل سيطرة إسرائيل على معبر رفح مقدمة للسيطرة على المدينة بكام


.. شقاق متزايد في علاقة الحليفين.. غضب إسرائيلي من -الفخ الأمير




.. ترامب يتهم بايدن بتزوير المحاكمة لأهداف سياسية