الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزمن الطائفي والتاريخ العربي

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2009 / 3 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إن تاريخ الأمم ليس ألعابا نارية شديدة التوهج سريعة الزوال. على العكس! إن تاريخ الأمم هو تراكم بطيء عميق الثبات. وهو الفرق الجوهري بينه بين الزمن. فالزمن دقائق وساعات وأيام وأشهر وسنوات، أي تيار سار لا يعني البقاء ضمن معاييره سوى تكرار واجترار ما مضى. وليس مصادفة أن يواجه الإسلام فكرة الدهر الجاهلي القبلي (الطائفي) بالزمن الإلهي، أي بفكرة الالتزام الفردي والجماعي تجاه المستقبل (من ثواب وعقاب). وهي فكرة لم ولن تفقد قيمتها مع مرور الزمن، وبالأخص حالما يجري وضعها ضمن قيم العصر الحديث.
فالأحداث الكبرى والهزات العنيفة التي ميزت العالم العربي في نهاية القرن العشرين وبداية الحادي العشرين جعلت من التقاء القرنين شيئا اقرب إلى التقاء قرون الثيران في صدامها الدامي. بمعنى تحول التاريخ إلى لحظات منحلة في زمن الغريزة. وقد يكون صعود التفسير والتأويل الطائفي للماضي والحاضر من بين أكثرها تمثيلا لهذا الانحطاط. إذ ليس هذا النوع من التفسير والتأويل سوى الأسلوب الملازم للحركات والتيارات الخارجة على حقائق التاريخ الكبرى. وليس مصادفة أن تكون هذه الحركات والتيارات في أولها مذهبية ضيقة وفي آخرها طائفية سياسية، أي أكثر الأشكال تخريبا للعقل النقدي والضمير الاجتماعي والقومي.
إن تأسيس التاريخ الفعلي يفترض تأسيس "تاريخ المستقبل". والانتكاسة الكبرى للفكرة القومية تقوم في أنها لم تستند إلى وعي ذاتي تاريخي، بل إلى صناعة الأهواء المتبدلة والمسطحة للأيديولوجيات السياسية المصطنعة. فقد غذّت هذه الحالة وما تزال تغذي جذور الأصوليات المتطرفة، بوصفه الوجه الآخر للراديكالية السياسية القومية والشيوعية. وكلاهما وجهان للغلو والانغلاق العقائدي. وليست الطائفية السياسية في الواقع سوى الثمرة المرّة لانغلاق طرق وآفاق هذه الراديكاليات السياسية المصطنعة. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بأن الطائفية السياسية هي الموجة الأخيرة لهولاكو الغزو الهمجي الملازم لسيادة فكرة الزمن. ونعثر على هذه الموجة ليس فقط في تعصب الحركات المذهبية والطائفية المغلقة، بل وفي "الاجتهادات" الخربة للصحافة والإعلام ورجال الفكر! ولعل محنة العراق الحالية وما يدور حوله هي أنموذج "حي" بهذا الصدد. ومفارقة الظاهرة تقوم ليس فقط في تحوّل العراق من "قلب العروبة" النابض إلى ميدان الاقتتال الهمجي، بل وإلى ميدان التجريب المبتذل "للتفلسف" الطائفي، كما نراه في مختلف مظاهر البحث عن أسباب ومقدمات "محنة العراق" في مقارنات "تاريخية" مبتذلة مثل "ابن العلقمي" و"صدام حسين"، والروافض والنواصب. بل ونرى استمراره "الفكري" أيضا في محاولات عديدة مثل محاولة إيجاد المقاربة السياسية بين "محنة القرآن" القديمة و"محنة العراق" الحالية وغيرها كما نراها في الكتابات التأويلية التي قام ويقوم بها محمد عابد الجابري!
إن "محنة" القرآن، أي الجدل اللاهوتي السياسي حول مسألة ما إذا كان القرآن قديما (منذ الأزل) أم مخلوقا (بمرحلة ظهور الإسلام)، لم تكن امتحانا سياسيا فقط أو اختبارا عقائديا عاديا من اجل السلطة كما يشيعه هذا النوع من "التفلسف". إضافة لذلك انها لم تكن معتركا بين "شيعة" فرس بقيادة المأمون، و"سنة" عرب بقيادة الأمين! وإلا لأدى ذلك إلى رمي كل جدل الأفكار والمدارس الإسلامية الكبرى في مزبلة المذاهب المنغلقة.
إن هذا الإسقاط المفتعل والمسطح على أوضاع العراق الحالية هو تفعيل سيئ للخطأ والخطيئة. انه يساهم في تفعيل الكليشات المذهبية والطائفية المميزة للزمن الميت و"القرون المظلمة". ومن ثم يساهم بوعي أو دون وعي على تعميق وتوسيع الأوهام الطائفية، أي القوة الأشد تخريبا. وذلك لأن أية قوة تسعى لجعل الزمن العابر تاريخا، فإنها تجعل من نفسها بالضرورة "مغوارا" في مغول الجاهلية الجديدة.
فمن الناحية التاريخية كانت "محنة القرآن" امتحانا فكريا وثقافيا معقدا وعسيرا، لا يخلو من أبعاد سياسية. لكنها أبعاد كانت جزء من صيرورة الثقافة الإمبراطورية العربية الإسلامية ورؤيتها الكونية الصاعدة. وهو السر القائم وراء تحول المأمون ومرحلته إلى "العصر الذهبي" في الحضارة الإسلامية. أما محنة العراق الحالية فهي محنة الانحطاط العام للدولة والثقافة والفكرة القومية، التي لعبت فيها الطائفية السياسية وما تزال دورا فاعلا.
من هنا خطورة الإسقاطات المبتسرة لهذا النوع من القراءة على التاريخ. فالطائفة من حيث البنية والتركيب زمن فارغ، والطائفية اجترار ممل لقيم ومفاهيم تعيش على أطرافه. فالطائفية هي نفسية وذهنية جزئية، أي لا علاقة لها بمنطق التاريخ العام. لهذا لا يوجد تاريخ طائفي، وذلك لأن الطائفة بلا تاريخ. وبالتالي لا توجد قراءة طائفية للتاريخ، بل يوجد تأويل مذهبي ومتحزب لزمن الأسلاف، أي لماض لا قيمة له بحد ذاته. وعادة ما يؤدي هذا التأويل إلى تهشيم الوحدة أو "الغرض المتسامي" الذي يدعى تمثيله، وذلك لأنه يسحب الوعي الاجتماعي والسياسي صوب مستنقع اللاعقلانية والانحطاط. ومن الممكن رؤية هذه الحالة على واقع العراق الحالي، ومن ثم احتمال تكرارها في دول العالم العربي الأخرى.
من هنا ضرورة قراءة الماضي بطريقة تجعلها جزء من قراءة المستقبل. فالعالم العربي ما زال يراوح في مكانه لمدة قرنين من الزمن. وأغلب ما فيه مستورد، بما في ذلك رموز الملابس العربية الأصيلة! والسبب هو عدم إدراك الفكرة القائلة، بأن حقائق التاريخ الكبرى هي مرجعيات متسامية لا علاقة لها بالأحزاب والمذاهب والطوائف. وبالتالي، فإن قراءة صراع الآراء والمواقف والمدارس القديمة ينبغي أن تصبح جزء من بناء العقل النقدي ومنظومة القيم الثقافية مثل الإقرار بالتعددية والتنوع والاختلاف، بوصفها مرجعية فكرية وروحية كبرى، أي النظر إلى كل الاختلافات القديمة على أنها اجتهادا. والأهم من ذلك التحرر منها بوصفها حلولا ورؤية "عصرية". وذلك لأن تجارب الماضي جزء من الماضي، أي جزء من الزمن المنصرم. والتاريخي فيها فقط يقوم في قدرتنا على توظيفها العقلاني بالشكل الذي يخدم تطوير الرؤية الإنسانية وفكرة الحرية والتقدم الاجتماعي.
إن تحويل القراءة "المتفلسفة" للتاريخ إلى قراءة مغلوطة لتاريخ الفلسفة والأفكار، يعادل المساهمة في إثارة مختلف أشكال اللاعقلانية. فإن كانت هذه القراءة عن دراية فهي ارتزاق وتخريب للعقل والضمير القومي، وإن كانت عن غير دراية فهي ليست فكرا.
بينما تفترض الدراية والفكر التأسيس الحي للتاريخ القومي بوصفه تاريخيا ثقافيا، أي نفيا لزمن الانحطاط، وفي الحالة المعنية لزمن الطائفية بمختلف أصنافها، والسياسية منها بشكل خاص. فالتاريخ الثقافي للأمم (والعربي احدها) وحدة متناقضة لا تخلو من دموية. ومهمة المثقف بشكل عام ورجل الفكر بشكل خاص تقوم في تنشيط حركة الدماء في قلوب وشرايين الوعي القومي الثقافي وليس في سكبها على أسياف المعارك الهمجية!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله يعلن تنفيذ هجوم جوي على قاعدة إسرائيلية جنوب حيفا


.. من واشنطن | صدى حرب لبنان في الانتخابات الأمريكية




.. شبكات | هل قتلت إسرائيل هاشم صفي الدين في غارة الضاحية الجنو


.. شبكات | هل تقصف إسرائيل منشآت إيران النووية أم النفطية؟




.. شبكات | لماذا قصفت إسرائيل معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسو