الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف ومرجعيات الروح المبدع

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2009 / 3 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن الإبداع محرقة تصهر فيها معاناة الوجود الإنساني من اجل تأسيس المعنى. وتتوقف أبعاد هذه المعاناة الفردية وقيمتها التاريخية والمعرفية على ما فيها من قدرة واستعداد لسماع صوت الحقيقة. الأمر الذي يجعل منها مفارقة يصعب حدها بمعايير المنطق، لكنها غاية في الجلاء بالنسبة للحدس، كما لو أنها البديهة الجلية الوحيدة للوجد والوجدان، أي للمعاناة واكتشافاتها. فالمعاناة الحقيقية هي معاناة الحقيقة، أي حيرة البحث عن المعنى. وهي القوة المثيرة للعقل والوجدان في محاولاتها تأسيس النسبة الضرورية بين الحس والعقل والحدس. وكلما يقترب البحث من تمثل وتمثيل هذه النسبة الضرورية كلما يرتقي إلى مصاف الإبداع الكبير.
فالإبداع الكبير على حجم المعاناة الفردية في كيفية تمثل وتمثيل نسبة المحسوس والمعقول والحدس في تأسيس المعنى. إذ تصنع هذه النسبة الجميل والمتسامي، وتجعل منهما أسلوب التراكم الثقافي في مسام الوعي الاجتماعي والتاريخي للأمم. فالإبداع الثقافي الكبير هو توليف دائم للجمال العلمي والعملي، أي للنسبة النموذجية التي تصنع على قدر مكابدتها صرح الثقافة القومية والإنسانية. الأمر الذي جعل ويجعل من غيب الإبداع علامة جلية على طريق المسيرة الفردية للمبدعين، والغاية المثيرة للمثقفين. ولا تنتهي هذه العملية، لأن المجهول هو عين الحيرة، والإبداع تراكم في مجراها. وهو الشيء الذي ميز ويميز على الدوام الإبداع الحقيقي بوصفه بحثا في غياهب المجهول.
إن الإبداع الحقيقي هو معاناة البحث عن المعنى، أي عن الأبدية المجهولة. وهي المفارقة الأكثر إشكالية بالنسبة للإبداع. فالأبد مجهول الغاية معلوم الهوية. وما بينهما يترامى الوجد والوجود بوصفهما معادلة الكينونة الصانعة لهوية المثقف المبدع. إذ ترتقي هذه المفارقة في الواقع والمثال إلى مصاف الإشكالية الأشد تعقيدا. وذلك لأن المجهول في الأبد هو الأنا المبدعة، والمعلوم فيه وجودها. وتتمظهر هذه المفارقة في سر التفسير والتأويل الدائمين لإبداع الأرواح، وتفنى في التاريخ وتبقى في الذاكرة ووعي الذات الثقافي.
فالتاريخ الحقيقي الفعال والدائم للأمم هو تاريخ الفكر. وفيه ومن خلاله فقط يمكن "تحجيم" الأبد وجعله ملموسا معلوما، بوصفها العملية التي تغّيب الأنا المبدعة وتجعلها لغزا، ومن ثم قوة وميدانا للتفسير والتأويل. وفي مجراها تترابط حلقات التاريخ وتتكامل في وعي الذات القومي. إذ يجعل هذا الواقع من المبدع الكبير روح التاريخ الثقافي. ففي فناء المبدع تبقى الوحدة الحية للمراحل والأطوار الثقافية في تاريخ الأمم. بمعنى انه يجّسد في ذاته وإبداعه، أي في مواقفه وإنتاجه، مرجعيات الروح القومي والثقافي المبدع. وبالتالي لا يعني فناءه الجسدي سوى بقاءه في تاريخ الروح أو الفكر. وهو المعنى الذي يعبر عما أسميته بأن المجهول في الأبد هو الأنا المبدعة، وذلك لما في إبداعها الكبير من لغز هو احد نماذج أو مستويات التاريخ الروحي. من هنا تجدده وتنوعه في إشكاليات المعاصرة والمستقبل.
إن المبدع الكبير إشكالية لا تنتهي. وهي إشكالية تستمد مقوماتها وديمومتها من قدرننه على توحيد حقائق المنطق وحقائق المرجعيات المتسامية للروح الثقافي، أي قدرته على توحيد العقل والوجدان بطريقة تستطيع مع مرور الزمن تفعيل الهموم المشتركة وتنقيتها في معارك العقل النظري والعملي المتعلقة بإشكاليات المعاصرة. ونتلمس هذا الواقع في تحول إبداعه واكتشافاته المعرفية إلى ميدان التفكر اللاحق ومختلف محاولات استكناه تجارب الماضي وتأمل المستقبل، أي تحوله إلى خميرة العملية الدائبة للمعرفة. ومن خلالها تتجلى حقيقته بوصفه القوة الوحيدة القادرة على تجاوز الزمن والبقاء قي التاريخ، ونفي التاريخ والعيش بمعاييره، وصنع الحكمة بوصفها خروجا إلى ما وراء العقل والعمل بمقاييسها. وفي كلها ليست إلا التجربة الفردانية للمبدعين الكبار في تمثل حقائق التاريخ القومي والعالمي. مما يجعل من إبداعهم خميرة عملية دائبة للمعرفة. إذ لا يمكن للتطور المعرفي والإنساني النضوج دون خميرة الماضي. والماضي مستقبل. وعلى قدر ما فيه تتحدد معالم المستقبل بوصفه بنية بديلة متجددة. ولا يمكن للفكر التقليدي أيا كان شكله ونوعه صنع هذه الظاهرة وترسيخها في الوعي الاجتماعي والوجود التاريخي للأمم. وذلك لأن التقليد زمن، أي اجترار للوقت والبقاء فيه دون معاناة وبدائل. أما تجاوزه إلى ميدان التاريخ الفعلي فهو حصيلة الجهد النظري والعملي للمثقفين المبدعين. وهو جهد مهمته نفي الزمن الميت وتذليله بمعايير التاريخ الواقعي والخروج عليه إلى فضاء البدائل المتنوعة واحتمالاتها غير المتناهية. فهي العملية التي تنتعش فيها وحدة التاريخ ونفيه، بوصفها أسلوب بلوغ الحكمة. إذ ليست الحكمة من حيث الجوهر سوى الاستعداد والقدرة على تجاوز "حدود العقل" والعمل بمعايير الرؤية الإنسانية المتسامية.
إن الارتقاء من الحس إلى العقل ومنهما إلى الحدس، أو من الزمن السياسي إلى تاريخ الدولة ومنهما إلى حكمة الوعي الثقافي للأمة، أو من طور الوعي الأسطوري والديني إلى العقلي الفلسفي ومنهما إلى الحكمة العقلانية، هي العملية التي يصنع حلقات ارتقاءها جهاد واجتهاد المثقفين الأحرار. بمعنى انه الارتقاء الذي يؤسسه المثقف المبدع في مجرى معاناته حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة. وهي معاناة تجعل من المثقفين الأحرار وإبداعهم إشكالية حرة، أي جزء من تاريخ الأبد. كما أنها تحدد القدر التاريخي للمثقف المبدع، باعتبارها النتيجة المترتبة على قدر إشكاليته بالنسبة للثقافة العقلية والبدائل العقلانية. وهي الإشكالية التي تعيد إنتاج البدائل وتنوع الاحتمالات بوصفها مصدر الحرية الفكرية والروحية، وذلك لما فيها من وحدة خفية لمكونات الفردانية المبدعة والتاريخ الواقعي، التي تجعل من اجتهاد وجهاد المثقف المبدع تحد دائم لكل ما حوله. وهو تحد يجعل من الحرية مبدأ وغاية الوجود. بمعنى التحرر من رق الاغيار والعيش ضمنها، أي الفناء والبقاء في مرجعيات الروح المتسامي. وهو روح لا يعقل بدون نموذجية الأبد وإشعاعه المغري في الروح والجسد. وهي المفارقة المعذبة والعذبة للإبداع. كما أنها الحالة الوحيدة القادرة على جعل الإبداع أبديا. وذلك لأن الإبداع الأبدي هو القدرة على الاستماع لصوت الأبد. ولا يمكن سماع الأنغام العذبة لهذا الصوت دون بلوغ الحرية الذاتية. بعبارة أخرى، إن الحرية الذاتية للمثقف المبدع هي الشرط الأبدي لأبديته! وهي مفارقة وجوده التاريخي والروحي، بل مفارقة الإبداع عموما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رسالة 0000ألي ميثم ألجنابي
جيفارا ( 2009 / 3 / 25 - 20:04 )
منذفترة قصيرة قراءة لك موضوع في ألحوار ألمتمدن0وشدني أسلوب طرح ألموضوعمن ألنواحي 0ألعلمية 0وألواقعية وألدقة في طرح ألمسائل0فكان أٍسلوب جميل في ألمعالجة وجميل أيضآ في طرح ألمشكلة0 وقد لاحظت وأحسست من خلال ألقرائة وجود نزعة أونفس صوفي في أسلوب كتاباتك ألذي يغلب علية أيضآألطابع ألفلسفي0 لقد حاولت ألاتصال بك من خلال ألايميل ألموجود في ألاعلي ولم أستطع 0وأنت يا أخ ميثم من ألاشخاص ألذين أفخر أن أكون لهم صديق0أرجو أن أتصل بك دأئمآ وبستمراروتقبل فائق حبي وأحترامي0000000 وشكرآ

اخر الافلام

.. -واشنطن بوست- تكشف تفاصيل عملية -الموساد-.. كيف وصلت قنابل -


.. لماذا يصر قادة حزب الله على عقد اجتماعاتهم في ضاحية بيروت؟




.. خيام النزوح -مستشفيات تحت النيران-.. حديثو الولادة بلا رعاية


.. تحركات رسمية في لبنان لتجنب مصير غزة.. ماذا يحدث؟




.. -بنفت- تعمل على التوسع إقليميا