الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حركة الترجمة في العصر الذهبي للحضارة العربية

مرعي أبازيد

2009 / 4 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


حركة الترجمة في العصر الذهبي للحضارة العربية
في هذا الزمن، وفي ظل غياب صناعة الترجمة في البلاد العربية وعدم وجود جمعيات أو مؤسسات تشرف على إعداد المترجمين وتنظم عملهم وتضع برامج لرفع الكفاءات وتنوير المترجمين بكل ما هو جديد، بالإضافة إلى الاهتمام بالمترجمين الجدد وإعدادهم لمرحلة الاحتراف، تبقى الطريق الموصلة إلى هذا الحقل طريق شاقة و طويلة، محفوفة بالأشواك والمصاعب. و السبب يرجع إلى النظرة إلى الترجمة و السلوك المهني للمترجم سواء أكان جديدا أم قديما!! و السؤال الذي يطرح نفسه هنا لممارسي مهنة الترجمة هو: كيف دخلوا هذا المعترك وكم استغرقت عملية إثبات الذات حتى استطاعوا الوقوف على أقدامهم مهنيا؟ فمن خلال الجواب على هذا السؤال يمكننا الوقوف والتعلم من التجربة العملية الحقيقية والإنسانية ومن خلال الصعوبات والأشواك التي أدمت أصابع الكثيرين ناهيك عن الحالات النفسية التي تركت آثارها في نفس كل من مسك قلماً وخط حرفاً كي تتذكره الأجيال!!
إن هذا الموضوع صعب جدا ولكنة ليس عويصا ويحتاج أن ننظر إليه من وجهة عقلانية بعد الالتفات إلى جميع التجارب الإنسانية التي سبقتنا. إذا ما نظرنا إلى حركة الترجمة اليونانية العربية في بغداد في المجتمع العباسي المبكِّر أيام العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ستبرز العوامل الثقافية والسياسية التي رافقت تلك الحقبة، حيث رأى خلفاء الدولة العباسية كالمنصور، والرشيد، والمأمون وغيرهم أن الترجمة تعتبر جزءاً من نظرة سياسية وعلمية بل واستراتيجية شاملة تهدف إلى توسيع وتعميق شرعية الدولة، مدفوعة بعوامل الحاجة إلى البحث العلمي وتطوير العلوم المحلية، هذا ما قاد إلى إنتاج حركة ترجمة لم يسبق لها مثيل على مر التاريخ أدت إلى نشوء فترة من أعظم الفترات وأكثرها تقدُّماً في تاريخ البشرية جمعاء ولم تتكرر هذه التجربة إلى يومنا هذا. فلذلك سميت هذه المرحلة مرحلة العصر الذهبي للحضارة العربية.
لا نريد أن نأخذ قيمة التجارب التاريخية في حد ذاتها، لأنها كتجربة تاريخية قد انقضت، إنما في دلالاتها، دلالات تبين أن الحضارات تتفاعل مع بعضها، وتأخذ بعدها الحقيقي بهذا التفاعل، مما يعني أن هناك دورات للحضارات، دورة تسلم إلى أخرى. فإذا تساءلنا كيف تكون وسيلة هذا التفاعل، فغالباً ما تكون عن طريق الاحتكاك المباشر أو الترجمة، ترجمة ما هو مفيد، وما هو خلاَّق وما هو مُبدع بالنسبة للحضارة الناشئة.
إن هذه المرحلة في حد ذاتها كانت مفيدة وهامة جداً بالنسبة للحضارة الأوروبية الحديثة، لأنها أرست إحدى أهم الدعائم الرئيسية في عصر ما يسمى ألـ (Renaissance))) النهضة الأوروبية الحديثة، بترجمة الكتب العربية في العلوم والفلسفة والطب من العربية إلى اللاتينية، ثم إلى اللغات الأوروبية الأخرى. بعد أن أصبحت الريادة للحضارة الأوروبية الحديثة مرت المنطقة العربية بمرحلة جديدة أثناء الاحتكاك مع المستعمر بعد حملة نابليون على مصر، إذ بدأت حركة ترجمة أخرى مهمة قادها رفاعة الطهطاوي وأُنشئت دار الألسن في عهد محمد علي باشا، كان هدفها ترجمة العلم الأوروبي الحديث إلى اللغة العربية، لأسباب مشابهة وقريبة من الأسباب التي ظهرت في الزمن العباسي وهو الإمساك بأسباب النهضة والتقدُّم الذي وصل إليه الأوروبيون حتى تستطيع الأمة أن تتقدم بعد عصور طويلة من الانحطاط في شتى المجالات فكانت عملية مهمة جدا في حركة التاريخ.
في الحقيقة أن هناك قضية مهمة جدا في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية إذا ما لاحظنا حركة الفكر اليوناني وحضوره في الثقافة العربية من خلال السياقات التاريخية والأطر الاجتماعية والسياسية والمناخ الأيديولوجي الذي أدى إلى نشوء حركة ترجمة لا مثيل لها في تاريخ العالم كما قال الكثير من المؤرخين. وبتفصيل تاريخي لكل ما رافق حركة الترجمة على صعيد الوضع السياسي وتشكيل الدولة العربية الإسلامية والعوامل التي أدت إلى ظهور هذه الترجمة، فكل العوامل تضافرت لتحقيق تلك الحركة الثقافية الرائدة، بالإضافة إلى الدوافع التي حفزت العباسيين إلى القيام بمشروع الترجمة الكبير إذ شملت حركة الترجمة الفلسفة أيضاً دون الاكتفاء بالمعارف والعلوم التي تخص الحياة اليومية مثل الطب والهندسة والكيمياء. إن الصلات التي شدت ذلك المشروع العظيم وبهذه الكثافة من المجالات تعود إلى مجموع التيارات الثقافية والدينية والسياسية التي كانت سائدة في العالم الإسلامي آنذاك ومعنى تلك الصلة هو ما بين اهتمام مبكر بالعلوم الدنيوية وبين تصور إسلامي أصيل للمعرفة، وهذا يقدم صورة واضحة لمدى احتضان المسلمون وبشكل مكثَّف ومتميز لمعارف وعلوم العصر الوسيط. هنا نقطة أساسية أيضا يجب التنويه إليها وهي أن البعض ذكروا بأن اهتمام العرب بالترجمة كان مجرد اهتمام أفراد أو مجموعة شرائح بسيطة في المجتمع مثل المثقفين و المسيحيين السريان الذين أصبحوا فيما بعد من رعايا الدولة الإسلامية. لكن في الحقيقة هذا الطرح ليس صحيحاً إذ أنه في العصر العباسي و حتى في بداياته كانت الترجمة عبارة عن نشاط عام وممنهج وتهتم به الدولة بل و تؤطره وتدفع باتجاهه وقبل كل شيء ترجمة العلوم لحاجاتٍ عملية تطبيقية بحتة، مثلاً في الزراعة والطب حيث أرادت الدولة أن تحصل على أفضل ما وصل إليه العلم في ذلك الحين، ولحاجات أيضاً سياسية ودينية، تخص موضوع الجدل قاموا بترجمة مقولات (أرسطو) كتاب "المقولات" أو منطق أرسطو حيث الجدل يعتبر جزءا هاما وأساسيا منه لأن أبناء المسلمين في الدولة العباسية بدءوا يمتزجون مع أبناء الشعوب الأخرى وحتى مع أبناء الديانات الأخرى فنشأ ما سُمِّي بعلم الكلام. عرف العرب علم الكلام بأنه علم الحجاج أي المحاججة عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية.. فهنالك أدلة برهانية أو أدلة عقلية، مما يعني عدم الاكتفاء بالأدلة النقلية لأن الشخص يجادل من هو على غير دينه فكانت هناك حاجة دينية للترجمة أيضاً.
إذاً فلم يكتفوا بأن ترجموا الكتب العلمية إنما ترجموا الكتب الفلسفية والمنطق فشملت هذه القضية اهتمام الدولة واهتمام الوزراء وأن أسرة آل برمك بنفسها اهتمت بهذا الموضوع إضافة إلى اهتمامات الشرائح الاجتماعية الأخرى. أما المترجمون من أبناء الرعايا فهناك تفسير آخر حيث أن المسيحيون الذين كانوا من رعايا الدولة الإسلامية الناشئة وخاصة بعد ما سمي بالثورة العباسية كانوا على خلاف كبير مع الدولة البيزنطية التي كانت أصلاً كارهة للنشاط العقلي اليوناني القديم فاضطهدتهم نتيجة للتخلُّف الفكري الذي كانت تمر به في تلك المرحلة التي سميت بمرحلة حرب الأيقونات مما أثار ردة فعل لديهم فجاءت الدولة الإسلامية الناشئة فاحتضنتهم واحتضنت نشاطهم العقلي فكانوا الوسيلة الجديدة للترجمة. إن بعض كتب الفلسفة والعلوم تُرجمت إلى اللغتين السريانية والفارسية وهنا لابد من الإشارة إلى أنه كانت هنالك حركة ترجمة قوية من الفارسية أيضاً.
من هنا يتضح إذن أن الشيء الأساسي هو أن الاهتمام بالترجمة لم يكن اهتمام جزئي أو هامشي على الإطلاق، ولم يكن على حواف المجتمع وشرائحه الضيقة بل كان جهداً جماعياً نتيجة ضغط وحاجة مجتمعية ودولتية ملحة في نفس الوقت. إن الفتوحات الإسلامية أثرت بشكل كبير على نقل العالم المتمدن في تلك المرحلة إلى مرحلة جديدة أي مرحلة حضارية جديدة وبالتالي كانت الترجمة عامل أساسي وحضورها كان فعَّالا وقوياً، والترجمة في الحقيقة بدأت في أوقات مبكِّرة جداً أي قبل وأثناء الفتوحات الإسلامية، وأن ظهور الدولة العباسية بالتحديد أعطى دفعة قوية جداً لحركة الترجمة ولانتقال الأفكار وألغت كل الحواجز بين الشرق والغرب والمقصود هنا بالشرق والغرب هو النهرين الكبيرين أو غرب الفرات، حيث بدأت الأفكار تنتقل في هذه المساحة الجديدة عن طريق الأسواق والمهارات وحتى المعارك أيضا ففتحت آفاقا جديدة لانتقال هذه الأفكار. وهذا يعطينا خلفية تاريخية عريضة عن الوضع السياسي والتاريخي والاجتماعي قبل وأثناء الفتوحات الإسلامية مما يعني أنه ظهرت حاجات جديدة بناءً على الأيديولوجية السياسية والظروف الاجتماعية الجديدة التي ظهرت في بغداد. في الحقيقة بدأ هذه السياسة المنصور وبشكل مختلف تماما عما كان سائداً آنذاك رغم وجود المترجمين ورغم وجود الكتب اليونانية واللغة السريانية إلا أنه لم تكن حركة الترجمة معتمدة على صعيد الوضع الديني والسياسي. بناء على ذلك الوضع كانت هذه السياسة هي سياسة جديدة في الحقيقة تقاطعت مع نظام التفكير السائد في ذلك الوقت. هذه السياسة فتحت آفاقا جديدة للتفكير وبالتالي حفزت حركة الترجمة لكي تنهض بناءً على حاجات جديدة للمجتمع العباسي الذي قام على عوامل غير قبلية في الأساس.
أسباب وضرورات حاجة الدولة الإسلامية إلى الترجمة
حول أثر الفتوحات على كل حركات الترجمة وأيضاً تشغيل غير العرب ممن تكلَّموا اللغة الرومانية التي كانت سائدة في دواوين الحكم العربي في بدايات نشوء الدولة الإسلامية فإن انتشار الإسلام في مناطق خراسان ومناطق أواسط آسيا أي مناطق ما وراء النهر "منطقة الري" أدى إلى جعل اللغة العربية هي اللغة السائدة وبالتالي أصبح الناس يتحدثون العربية، إذ أن هناك دوائر ونخب وهناك بعض رجال الدين من الديانات السابقة وخصوصاً الزرادشتية أرادوا ألا تمحى هذه الأديان وأرادوا ألا تنسى وأن تبقى كتبها متداولة فاضطروا لترجمتها إلى اللغة العربية باعتبار أن الناس في تلك المنطقة وفي تلك المرحلة أخذوا لا يتحدثون اللغة الفهلوية أي لغتهم الأصلية فأصبحت اللغة الجديدة الصاعدة في الثقافة السائدة هي اللغة العربية. فهذا عامل معاكس لكنه عامل مساعد.
نعم فلنذهب إلى ترجمة ما نريد إلى اللغة المركزية الأم، وهذا عامل مهم، لكن هناك نقطتين هامتين لابد من الإشارة إليهما، النقطة الأولى هي استخدام الدولة للترجمة في السياسة الخارجية والنقطة الثانية استخدام الترجمة في السياسة الداخلية. هنا لابد من القول أن الدولة العباسية احتاجت للترجمة في سياستها الخارجية ضد بيزنطة لتشويه صورتها، والقول أن بيزنطة منحرفة وتستحق الحرب عليها لأسباب مختلفة، أما داخلياً استخدمها المأمون لشرعنة وحدانية السلطة الدينية المتمثلة فيه. في تلك الفترة كانت بيزنطة تعيش في ما سمي بالعهد المظلم حضارياً حتى أن مؤرخي الدولة البيزنطية بأنفسهم أرَّخوا هذه الحقبة من الانحطاط الحضاري، وأن الدولة والمجتمع تدنيا إلى مستوى كبير جدا من النواحي العقلية والعلمية والدينية أيضاً حيث اختلفت الدولة البيزنطية مع النساطرة واليعاقبة، مما اضطرهم للهجرة إلى العراق وإلى بلاد فارس وأغلقت كل المراكز الفلسفية في أثينا حتى قبل ذلك أي أيام الساسانيين. المأمون بالذات أشار إلى هذه الناحية معتبراً أن بيزنطة المعادية للعالم الهلِّيني المتقدم في تلك الفترة، يعني مدرسة الإسكندرية والمدارس الأخرى، والذي كان يعتبر أنه ودولته الوريثين - حسب تصوره - الوريثين لهذا التراث العقلي لأن الإسلام ليس لديه مشكلة مع التيار العقلي، إذ أن الخطاب القرآني دائماً يبحث في هذا الاتجاه وهناك الكثير من الآيات القرآنية تشهد بذلك مثل : (لَقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، و(لأُوْلِي الأَلْبَابِ) ، و(الذين يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، دائماً هناك دعوة لإعمال العقل في العالم وفي الأشياء وفي الموجودات والمخلوقات وليس الاكتفاء بالطقوس والعبادات، على عكس الكنيسة التي اهتمت في تلك الفترة بالأيقونات وما إلى ذلك أكثر من أي شيء آخر وحاربت كل نزعة عقلية. إذن وحسب تصور المأمون يجب أن تزاح هذه الدولة لأنها حضارياً لا تستحق الوجود، هي عمليا أزيحت ثقافياً وحضارياً فلذلك يجب أن تزاح سياسياً أيضاً، لأن هنالك مبرر فكري ...
هذا في الحقيقة يطرح فكرة وإن كانت بعيدة بعض الشيء عن الموضوع لكن من الموضوعية ذكرها هنا، وهو أن هذه النظرة لدولة بيزنطة وللثقافة البيزنطية، هي عبارة عن نظرة استرذالية واستعلائية، تذكرنا في الوقت الحاضر بنفس النظرات الإستشراقية تجاه الثقافة العربية والإسلامية، بأنها ثقافة غير عقلانية وثقافة عاطفية وغير ذلك وهنا يظهر الاستشراق معكوساً تماما لنفس الحقبة البيزنطية أو العصر العباسي، فيبدو أن هناك علاقة بتراتيبية الحضارات، إذا الحضارة التي كانت غالبة تنظر لبقية الحضارات على أنها ثقافات جهل، لقد قال أحد الكتاب الغربيين المعاصرين: لقد صُوِّر البيزنطيون على أنه حريٌّ بهم أن يتلقوا الضربات الإسلامية، لا لأنهم كانوا كفرة فحسب، بل ولأنهم كانوا جهلة ثقافياً وكانوا من الناحية الثقافية أدنى من المسلمين. نفس هذا الحديث نسمعه الآن ولكن بشكل معكوس تماما، فيبدو أن تيار الاستشراق والاستشراق المعكوس هو أقدم بكثير مما هو معاصر. لكن في الحقيقة هنا القضية تخص المأمون بالذات لأنه كما هو معلوم لدى الجميع أن الحروب الخارجية توحِّد المجتمع في الداخل بشكل عام مما يعني بالتالي أن المأمون أراد وحدة مركزية قوية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن النظرة الإحتقارية والتقليل من شأن الآخر المهزوم، باعتبار أن البيزنطيون أنفسهم كانوا ينظرون إلى الفلسفة اليونانية وللفكر اليوناني نظرة احتقارية، واعتبروا أن هذا شيء أصبح نسقه منتهي ولا أهمية له وانتقلوا إلى الحديث عن المسيحية. هذان العاملان هما في الحقيقة دفعا المأمون إلى هذا الجانب بحيث استطاع تركيز سلطته الأساسية وبالتالي توحيد المجتمع وبالتالي يصبح ذو شأن.. أي صاحب قوة وهيمنة، فأصبحت الترجمة والفكر اليوناني غير ذو بال، وغير ذو أهمية، فتراجع الاهتمام بهذا الموضوع وهو على خلاف ما كان سائداً في دولة بيزنطة.
حاجة المجتمع في العصر العباسي إلى الترجمة
الآن نتحدث عن الترجمة والمجتمع. يقال بأنه كانت هناك أربع احتياجات أو أكثر للترجمة، فأولها للتنجيم، أي حاجة الترجمة للتنجيم، وخاصة عند السياسيين والحكام، ثم تدريب كوادر للدولة، وهناك الاقتصاد نفسه، والحاجة إلى البحث العلمي والتطبيقي المباشر. هنا يبدو في هذه الاحتياجات وجود حركة تناغمية استقطابية فيما بين المجتمع والترجمة، هذا يعني على عكس ما نراه حالياً، على سبيل المثال، إذا شئنا المقارنة مع المجتمع العربي هناك قدر من النفور والتوجس والريبة من كل ما هو قادم للترجمة أو من الخارج، بينما في هذه الحالة العباسية تحفز ومحاولة إقدامية على ترجمة علوم الخارج. نعم، لماذا هذا القدر من النفور والتوجس والريبة؟ لأن الحضارة عندما تكون قوية ومتمكنة فهي لا تخشى من أي وافد خارجي أو لا تخشى من أي ثقافة وافدة، إذاً متى يحصل هذا التوجس وهذا الخوف؟ هذا يحصل حينما تكون الأمة عليلة ضعيفة، فتتوجس خيفة من أن هذه الثقافة الوافدة بما أنها ثقافة قوية، ربما تخلخل عقائدها وتوازناتها وثوابتها. بينما كان أبناء الحضارة العربية والإسلامية في ذلك الوقت هم سادة الإبداع، وهناك نقطة مهمة وهي أن الترجمة لم تكن تتم إلا على ضوء الاحتياجات، وعلى ضوء ما يريده المجتمع، مما يعني أنهم لم يترجموا كل شيء، فمثلا لم تترجم الأساطير اليونانية، ولم يترجم من الأدب اليوناني بشكل عام إلا كتاب الشعر لأرسطو الفيلسوف كتاب "فن الشعر" والذي كان له أثراً كبيراً في حركة النقد الأدبي والشعري العربي. أما الآن فهناك مشكلة كبيرة تكمن في أننا نترجم من ثقافة لها مشروع هيمنة استعمارية، لكن في رأيي أنه لا داعي للخوف والتوجس لأن هناك احتياجات لهذه الترجمة. من الممكن الإشارة هنا أيضا إلى أن الترجمة لم تلب فقط حاجات نخبة المجتمع وعليَّة القوم بل حتى نساء القصر ورجال البلاط، في الاقتصاد أي اقتصاد الدولة، بالإضافة إلى احتياج العلماء التطبيقيين للكيمياء والفيزياء وحتى علوم التنجيم التي نقلت من اللغة الفارسية (الفهلوية) عن طريق اللغة السنسكريتية مما يعني أن اللغة الفارسية أيضاً كانت واسطة لعلوم الهند بل لبت أيضاً احتياجات ابن الشارع العادي والشرائح الشعبية العادية. إذن كيف كانت الشرائح الشعبية تتواصل أو تستفيد من هذه الترجمة؟ تبقى هنا حلقة مفقودة وهي أنه كيف استفادت سائر شرائح المجتمع العادية من الترجمة وكيف كانت نظرتها لهذه الترجمة ؟
إن الحاجة للمسائل الطبية هي تخص حياة الناس العاديين أيضا، وفي مسائل الهيئة، علم الهيئة وهذا يخص حتى مواقيت الصلاة، أيضاً تخص حياة الناس العاديين بالإضافة إلى علوم الفلك والرياضيات والإرث وعلم الحساب التي تمس كافة شرائح المجتمع بما فيها الطبقات العادية. هذه الشرائح المختلفة تبرز أهمية ومركزية دور المترجم إذا ما قورن بدور المترجم - على سبيل المثال - في الأوضاع العربية الحالية. في الحقيقة إن وضع المترجم الذي كان يتمتع بمميزات كثيرة عندما كانت الترجمة من.. اليونانية للسريانية موجودة وعندما نرى إنه ما أن اتخذ قرار سياسي من الدولة بالترجمة حتى كان المترجمون حاضرين وموجودين، وتمت الاستفادة منهم في هذه الترجمة. وإذا أردنا أن نتكلم عن دخل المترجم فإنه كان من أعلى المداخيل في المجتمع، ثم لاحقاً زادوا من مهاراتهم وإمكاناتهم بهذا الجانب، لأن الموارد المالية كانت كبيرة ومحفزة، فعلى سبيل المثال إنها 75 أوقية من الذهب، فعائلة علي بن عيسى تصرف 500 ديناراً من الذهب شهرياً على المترجمين، بمعنى إن الباحث في صيغة طريفة يحسبها الآن معاصراً تعني 24 ألف دولاراً شهرياً. هذه إمكانية كبيرة جداً للمترجم، وبالتالي تعطيه اهتمام أكثر حتى في الجانب الحرفي والتقني من عمله. ومن الممكن الذهاب إلى أبعد من ذلك في قضية مكافآت المترجمين والعناية بهم. إن حنين ابن إسحاق كان يعطى زنة ما يترجم ذهباً، أي يوزن الكتاب المترجَمْ ويأخذ المترجم أجره ذهبا بوزن هذا الكتاب. فلننظر إلى أي درجة نحن متخلفون حقيقة في وضعنا الحالي، فهذا يعني أن الترجمة مشروع ضخم جداً ومهم. نعم فالترجمة تساوي الإبداع .. لأن ترجمة الكتب هي عبارة عن معرفة إبداعية أصيلة وليست نقلا فقط .
أسباب انحدار حركة الترجمة في الدولة الإسلامية
مع بداية الألف الثاني الميلادي تقريبا بدأ منحنى الترجمة في النزول، وهناك عوامل عدة من ضمنها وقوف بقايا الأمويون في الأندلس تقليدياً ضد حركة الترجمة، واعتبروا بأن الترجمة هي عبارة عن هرطقة، وإدخال هرطقيات وغيرها إلى الدين، وهكذا كانت بعض التصورات لدى التقليديين الدينيين، خاصة إزاء الصراع مع المعتزلة في عهد المأمون، وكانت القضايا السياسية هي البارزة في هذا الصراع لأن الأيديولوجية أي القضايا السياسية كانت تلعب دوراً كبيراً في إذكاء الصراع ما بين الحكمة والشريعة أي بين العقل والنقل، حيث كان الناس يتجهون اتجاهاً نقلياً خالصاً، أو عقلياً خالصاً، والإسلام هو الميزان. دائماً نجد عند علماء العقائد، مثل علماء الأشاعرة، وغيرهم من علماء الإمامية أو كتب العقائد أن هناك دليل عقلي ودليل نقلي، وهنالك في القرآن أيضاً أدلة عقلية وأدلة نقلية، مما يعني أن العوامل السياسية كانت تلعب دوراً كبيراً في إذكاء الصراع، وإلا لما ازدهرت حركة الترجمة أيضاً في الأندلس، حيث ظهر اهتمام من قبل مفكرين كبار مثل ابن رشد وابن طفيل، وابن باجه، أي حركة فلسفية ناهضة استطاعت أن تعيد أمجاد التجربة التي حصلت في بغداد. نقطة مهمة يجب الإشارة إليها هنا وهي أن حركة الترجمة توقفت، لا لأن الكتب لم تعد موجودة أو لم تكن هناك كتب مترجمة أو لم تترجم بعد، إنما لأن المشروع العربي الفلسفي قد استقل، وهذه نقطةً مهمة جداً، يعني أصبح مستقلاً بذاته، وأصبح قادة الحكم حتى في فترة البويهيين يريدون كتباً بالعربية، يعني انتاجات بناء على تفكير عربي وبلغة عربية بحتة. أما بالنسبة لموضوع أسطورة الممانعة أو المقاومة الإسلامية للترجمات اليونانية، فإنه موضوع لا يستند إلا إلى آراء استشراقية تحمل فكر استشراقي يقول: أن الإسلام والعقيدة الإسلامية وقفت بصلابة ضد ما كان يأتي من الخارج ويترجم. في الحقيقة تجدر الإشارة هنا إلى الباحث (كونسير) وباحثين آخرين أنتجوا أعمالاً لامست الشرق في مرحلة مبكرة من عام 1916، وأصبح المسار مفتوحا لهذا التوجه في الدراسات الإستشراقية. ومن الممكن ملاحظة أن الباحث جوتاس وفي نفس المرحلة وجه انتقادات قوية وصارمة لهذه الرؤية، التي تنطلق من واقع أيديولوجي، وبالتالي يفككها، ويرى أن هذه الكلمة هي عقائدية بالدرجة الأولى، وأن هناك اتجاه حنبلي هو في الواقع ضد العلوم الدخيلة، أو ضد العلوم اليونانية، وضد الفكر اليوناني، وضد الفكر العقلاني، وفي نفس الوقت لا يمكن تعميم هذه الصيغة. ربما لكل فكر في أي مجتمع وفي أي مرحلة تاريخية، هناك مؤيدون وهناك معارضون، وبالتالي ظهور أصوات معارضة أو مخالفة هو مسألة طبيعية جدا، هذا من جانب. أما الجانب الآخر فهو أن هؤلاء المستشرقون شكلوا صورة معينة بأن هناك تقليديون وعقائديون ضد العلوم اليونانية وعكس هذه الصورة على جهة إسلامية أو مذهبية بعينها هذا أمر غير صحيح تماماً.
في النهاية نخلص إلى نتيجة مفادها أن شؤون الفكر والفلسفة والعلوم هي شؤون عالمية لا يتعلق بلغة ولا بثقافة وليست محصورة بثقافة أو لغة وهي نظرة انفتاحية وإنسانية شمولية، وتأكيدا لهذا الكلام أن اليابانيون مهتمون مثلا بالسياسة عند المسلمين وترجموا إلى اللغة اليابانية كتاب "السياسة الشرعية" لابن تيميه وكتاب "السياسة المدنية" للفارابي وكتاب "الإنسان في فلسفة أبي نصر" وكتب أخرى أيضا تمت ترجمتها إلى اللغة اليابانية، فإذن هناك أهمية فهم يريدون أن يطلعوا ويريدون أن يعرفوا هذه الثقافة العربية فيرجعون إلى أصولها وجذورها. قال أحد الأساتذة اليابانيين: أنا مهتم بكتب السياسة عند المسلمين، وترجمت بعض الكتب وأريد أن أترجم كتب أخرى، إنه لأمر عجيب أن يكون ياباني مهتم بكتاب السياسة للفارابي، أو "السياسة الشرعية" لابن تيميه والإنسان في فلسفة أبي نصر وكلها مترجمة إلى اليابانية، فإذن هنالك أهمية... في حين أن الكثير من العرب لم يسمعوا حتى بهذه الكتب ناهيك عن قراءتها. نعم نحن الآن نتكلم كثيراً عن الغرب ونتكلم كثيراً عن الحضارة الغربية نشتمها أحيانا ونؤيدها أحياناً أخرى ولكن في الحقيقة أن الأصول الفكرية والفلسفية والعلمية لهذه الثقافة إلى الآن ليست في متناول القارئ العربي تماماً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بكاء ومعاناة نفسية وذكريات جميلة.. تفاصيل مراحل مختلفة عاشته


.. فرنسا تدعم مسعى الجنائية الدولية لإصدار مذكرات توقيف بحق قاد




.. ما رمزية وتداعيات طلب مذكرة توقيف بحق نتنياهو؟


.. إيران تبدأ تشييع رئيسي.. ومجلس خبراء القيادة يعقد أول اجتماع




.. الحوثيون يعلنون إسقاط مسيرة أمريكية في محافظة البيضاء| #الظه