الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الراديكالية السياسية للغلاة الجدد!

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2009 / 4 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن المفارقة الكبرى للغلاة الجدد ترتسم في ظاهرة يمكن تصويرها بعبارة: "ملثم مفضوح الأسرار"! بمعنى محاولة الاختباء وراء غطاء مثقوب، تبرز من خلاله عيون فاقدة للحس الإنساني وقيمة البدائل العقلانية. الأمر الذي يجعل من حقيقة اللثام وما وراءه مجرد غطاء للقتل والجريمة المنظمة. وهي الخاتمة التي تعكس حقيقة المضمون الفعلي لظاهرة الغلاة الجدد.
فالغلو هو خروج غير عقلاني على ابسط مقومات الاعتدال التي تبدعها الثقافة القومية. وبالتالي، فان لكل ثقافة كبرى غلاتها، أي القوى المتناثرة على أطراف إبداعها العقلاني الكبير. وضمن هذا السياق ليس الغلو سوى إحدى الخمائر المعقولة والمقبولة لحد ما حيث كونه ظاهرة مثيرة للحس والعقل والوجدان. مع ما يترتب عليه من اثر بالنسبة لشحذ طاقة العقل النقدي. ومن الممكن رؤية مختلف مظاهر هذه الحقيقة على مثال الإبداع الإنساني الأصيل في مختلف حضارات الأمم التاريخية الكبرى. وليس مصادفة أن تبرز ظاهرة الغلو في مراحل الانحطاط ومراحل الصعود أيضا. ففي الأولى هي تعبير عن احتضار تام، وفي الثانية تعبير عن استثارة حية للبدائل.
وإذا كانت هذه الظاهرة في اغلب مكوناتها ملازمة للماضي، بمعنى ملازمتها للحالة التي جعلت من الممكن ظهور ما يسمى بالحركة الدورية للتاريخ، فإنها لا تحتوي، شأن كل ما هو تاريخي، على صفة الإلزام المنطقي. وبالتالي، فإن المفارقة الجلية القائلة، بأن الذروة الحضارية للأمم عادة ما تتحول إلى مقدمة الانحطاط، تماما كما يصبح الانحطاط مقدمة للارتقاء الحضاري، لم تعد تحتوي بحد ذاتها على إلزام منطقي. أما الإلزام المنطقي الوحيد بوصفه بحثا عن البدائل العقلانية، فيقوم في جعل الحضارة استحضارا دائما أو ديمومة حية لإبداع النسب المثلى في بناء الدولة والمجتمع والثقافة. بمعنى صنع الوحدة الحية للأمة الحديثة بوصفها امة ثقافية متحررة من جميع أصناف البنية التقليدية أيا كان شكلها ومضمونها. وما لم يجري انجاز هذه المهمة التاريخية الكبرى، فإن الغلو يصبح النسق الأكبر للوعي الاجتماعي والممد الأكبر لمجاري الانحطاط المعنوي. وهي الحالة التي مازال العالم العربي يعاني منها منذ صعود الراديكالية السياسية الدنيوية في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين. بمعنى هيمنتها شبه التامة على الوعي الاجتماعي، وتحولها إلى الممد الوحيد لانساق الوعي، وبالتالي لمجاري الانحطاط المادي والمعنوي. وليس مصادفة أن "تتفوق" وتسود مختلف الأصوليات المتشددة للغلاة الجدد، أي لمختلف نماذج ما يمكن دعوته بالوهابية الجديدة من حركة طالبان والقاعدة وغيرها بعد سقوط الراديكاليات الدنيوية.
إن تحول الغلاة الجدد إلى "طليعة" الصراع الاجتماعي والسياسي الداخلي للعالم العربي (والعراقي في الحالة المعنية) والخارجي (على الصعيد الإسلامي والعالمي) هو الوجه الآخر أو الاستكمال "المنطقي" للخروج على منطق التطور الطبيعي للدولة الحديثة والأمة الثقافية. بعبارة أخرى، إن صعود الأصوليات المتشددة هو الوجه الآخر (المضاد والمكمل) لزمن الراديكالية السياسية الحزبية.
فالراديكالية السياسية الحزبية لا تصنع تاريخا لأنها محكومة بهاجس العقائد المقدسة من هنا دنسها العقلي والأخلاقي. وليس ذلك معزولا عن كونها نتاجا للذهنية الأصولية المغلقة، التي لا تلمس ولا تسمع ولا ترى ولا تشم إلا ما فيها. وما فيها عقائدها فقط. وليس مصادفة أن تبقى الأحزاب الراديكالية السياسية في خطابها خارج التاريخ. بمعنى تطابق خطابها مع عبارة "الدفاع عن الفقراء والمحرومين" و"النضال من اجل الخبز" في بلدان تمتلك من الثروات التي تجعل من أكل الخبز المفرط "جريمة صحية"! إضافة إلى ما في ذلك من إشارة على سريالية وجودها في مجرى عقود مديدة من الزمن وانعدام قدرتها على تغيير هذه الحالة البائسة في ظل تشدق ممل ويتسم بقدر هائل من الفراغ العقلي عن امتلاك "النظرية العلمية الوحيدة" وما شابه ذلك من ترهات غير مفهومة لحامليها أولا وقبل كل شخص آخر.
وحالما نضع هذه الحالة ضمن سياقها التاريخي والمنطقي، فإنها تشير في أفضل الأحوال إلى إننا نقف أمام جمعيات خيرية. أما من الناحية الفعلية، فإنها تشير إلى أننا نقف أمام أحزاب أعلاف البقر والأغنام وليس أحزاب الطبقات الاجتماعية والأمة القومية. وذلك لأن المهمة الحقيقة للحزب السياسي تقوم في إرساء أسس البنية الاجتماعية المتطورة للدولة الحديثة وحداثة كينونتها المتكاملة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والعلم والتكنولوجيا. فعندما يناضل حزب سياسي لمدة قرن من الزمن من اجل إشباع بطون الناس بالخبر فانه يكشف عن بؤسه التاريخي بوصفه سائسا في إسطبلات الزمن الفارغ وليس سياسيا في تاريخ الدولة والأمة. لكنها تبقى مع ذلك من مفارقات التاريخ الواقعي، التي تنعكس فيها حالة الوجود الراديكالي وتقاليده الذهنية الخربة، التي جعلت من العراق بعد ستة عقود من الزمن يراوح في مكانه، ويقف حائرا أمام قضية الدولة والمجتمع والهوية والدستور والثقافة والعلم والإنتاج والمياه والأيتام والعوانس وكثرة القتلة والجهلة!
لقد كانت الحالة المشار إليها أعلاه المقدمة الفعلية لصعود الغلاة الجدد. الأمر الذي جعل ويجعل من جوهر الصراع الحالي والمستقبلي في العراق محتدما بين ممثلي تقاليد الاستبداد والتقليدية من جهة، وقوى الديمقراطية والدولة الشرعية والمجتمع المدني من جهة أخرى. وإذا كانت قوى الاستبداد والتقليد قد تعرضت إلى هزيمة سياسية ساحقة بعد 2003، فان رصيدها الأيديولوجي والاجتماعي مازال يتمتع بقوة نسبية في العراق. كما انه رصيد له موارده القوية على الصعيد المحلي والعربي والإسلامي المتمثل بمجموعة متنوعة من القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية. وليست هذه القوى في الواقع سوى السبيكة الجديدة من التطرف والإرهاب التي يشكل الغلاة الجدد في العراق نواتها الفاعلة. فهي القوى التي تحاول استلهام فكرة المقدس المزيفة والجهاد المقلوب من اجل تحويلهما إلى غطاء سياسي لاستعادة البنية التقليدية وتراث الاستبداد.
فهي قوى لا تدرك لحد الآن الحقيقة البسيطة القائلة، بأن الاستبداد مصيره الزوال. إلا أننا نعرف في الوقت نفسه، بان زواله عادة ما يثير كميات هائلة من المشاكل والمعضلات التي تقع على الأجيال اللاحقة مهمة حلها. وليس ما يجرى في العراق الآن سوى الاستمرار«الخفي» لتقاليد الاستبداد، التي جرى إعادة إنتاجها من خلال ملابسات تاريخية هائلة، مرتبطة بطبيعة الاحتلال الكولونيالي للعالم العربي وتجزئته وبعثرة التراكم الفكري والاجتماعي والمؤسساتي فيه من خلال الانقلابات العسكرية وصعود الهامشية إلى السلطة وسيادة النزعة الراديكالية. وبمجموعه أدى إلى صنع توتاليتاريات دنيوية ودينية، ليس الغلاة الجدد سوى إحدى صيغها الأكثر همجية.
ومن الممكن فهم آلية نشوء الغلاة الجدد إذا أخذنا بنظر الاعتبار كون الدكتاتورية الصدامية كانت «عتبتهم المقدسة»، بحيث اخذوا يتحسسون سقوطها التاريخي، باعتباره خيانة تاريخية «لمقدساتهم». وليس مصادفة أن تكون ردود فعلهم عنيفة للدرجة التي تتطابق من حيث الوسيلة والغاية مع أكثر مظاهر العنف الهمجي، تماما كما تغيب صورتهم الفعلية وراء ملامح الملثمين والمقنعين، أي المختبئين وراء أغشية تمثل في رمزيتها غطاء الغيلة والغدر.
فمن المعلوم والمعروف عن التاريخ الفعلي للراديكاليات «المتنورة» و«اليسارية» هو وضع نفسها وإعلاناتها السياسية في صف واحد يرتقي إلى مصاف الاستعداد المباشر والعلني للتضحية الفردية، باعتباره أسلوب تأييدها وتوكيدها وتحقيقها للفكرة العامة. في حين يمثل الغلاة الجدد في أساليبهم احد أكثر نماذج السقوط السياسي، كما يظهر ذلك في هذا الكم الهائل من التفجيرات القاتلة في مختلف مدن العراق. وهي ممارسة تشير أولا وقبل كل شيء إلى طبيعة الفراغ الذي صنعه زمن طويل من نفسية الاستبداد والقتل الجماعي، كما مثلها تيار «القاعدة» أو «الجهاد في بلاد الرافدين». وسوف تطرح هذه الحالة والنموذج في وقت لاحق مهمة تحليل الأبعاد الأخلاقية في الفكر والممارسة السياسية العراقية الحالية، إلا أنها تبقى من حيث كونها ظاهرة سياسية حادة جزء من قضايا الحاضر، وبالتالي جزء من حالة الانحطاط السياسي والروحي الذي عادة ما يثير في مراحل الانعطاف الكبرى نفسية الراديكالية المتنوعة. وليست ظاهرة الغلاة الجدد في الواقع سوى النموذج الذي يمثل حالة الحراك الشرس لترهل التقاليد أو جمودها المحاصر بقيود الغيرة وحمية الإيمان التقليدي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - Do not forget corruption
Talal Alrubaie ( 2009 / 4 / 8 - 23:24 )
Extremism is a form of terrorism and a moral and political bankruptcy. Also the widespread corruption in Iraq and the allocation of posts on sectarian grounds, rather than on grounds of qualifications and abilities, is another form of the ethical corruption you refer to.

اخر الافلام

.. حزب الله يعلن تنفيذ هجوم جوي على قاعدة إسرائيلية جنوب حيفا


.. من واشنطن | صدى حرب لبنان في الانتخابات الأمريكية




.. شبكات | هل قتلت إسرائيل هاشم صفي الدين في غارة الضاحية الجنو


.. شبكات | هل تقصف إسرائيل منشآت إيران النووية أم النفطية؟




.. شبكات | لماذا قصفت إسرائيل معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسو