الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف وروح القلق واليقين

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2009 / 4 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عندما ننظر إلى مختلف نماذج الإبداع الإنساني في الأساطير والأديان والفلسفات والآداب والفنون، فإننا نستطيع رؤية القلق الدفين في محاولاتهم تثبيت اليقين. وليس هذا القلق في الواقع سوى "ملاك الإنسان الضائع" في محاولاته بلوغ الهدوء والسعادة بين مكونات لا تثير في حركتها غير القلق. بمعنى أننا نستطيع أن نرى في ذلك محاولات الإنسان تحرير نفسه من ثقل الرذيلة الكامنة فيه. وهي رذيلة تحكمها "غريزة بلا حدود". من هنا الرغبة المتشددة في معاندتها! ومن صراعهما تبلورت فكرة الأخلاق والحدود بوصفها القوى الروحية و"السماوية" ضد قوى الطبيعة الأرضية. وهو صراع أرّق الإنسان دون أن يسلّمه لداء الإعياء. فقد كان السؤال المقلق والجوهري لمعنى وجوده يتعاظم مع كل هزيمة للجسد، بوصفه موطن الغريزة. ومع كل تعاظم له كانت تتعاظم فكرة السمو، والمتسامي، والروحي، والروحاني. ومع كل تراكم في وعي الذات تتحول "القوة الشيطانية" التي جرى انتزاعها من النفس وإخراجها إلى أنواع مختلفة من "شياطين" الجن والأنس إلى عالم الروح الباطني. وهو التحول الذي بلغ ذروته في صعود واستتباب فكرة "شيطان النفس" ووسواسه للفؤاد وتلبيساته للعقل. ولا يعني ذلك فيما لو جرى التعبير عنها بمنطق التأويل الفلسفي المتسامي، سوى أن الإنسان يدرك مع كل رقي مادي وروحي في صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية، بان حقيقة الشيطان هي لعبة الوجود الأبدية والقلق المرافق لرؤية صراع الخير والشر فيها.
وقد أنتجت هذه الحالة المادية والمعنوية معنى الشيطان وصورته بصورة قد تكون هي الأوسع والأدق والأعمق مقارنة بنقيضها. وليس مصادفة أن نعثر على تسميات و"نماذج شيطانية" تفوق في كميتها ونوعيتها "النماذج الملائكية". بل حتى في القرآن نعثر على 94 مرة يتكرر فيها اسم الشيطان بينما يبلغ عدد المرات التي يتكرر فيها اسم الملائكة 73 مرة. وهي نسبة يمكننا العثور عليها في الأدب والفن وقصص الأطفال وأحاديث العجائز وحكايات الشعوب وأعمال الفلاسفة وأقوال الحكماء. ويشير هذا الواقع إلى طبيعة القلق المتناغم مع رغبة الخروج من مأزق الوجود المعنوي الذي يحاصر الإنسان ظاهرا وباطنا على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية. كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول، بان الشيطان هو المرافق الخفي لسر الأسرار، أي لدراما الحياة المتذبذبة بين يقينين. وفي هذا يكمن أيضا سر "اختياره" مبدأ الدراما التاريخية ونهايتها للإنسان. وفي هذا أيضا يكمن مصدر الصراع التاريخي في التفسير والتأويل والمواقف والمساعي تجاه القوة التي تتحدى الإنسان وتنبع منه بقدر واحد.
فعندما ننظر إلى تاريخ الأساطير ونوعية "الشيطان" فيها، فإننا سوف نقف أمام صور متنوعة ومختلفة ومتباينة من حيث تقييمها لدوره وموقعه ووظيفته وأثره بالنسبة لحياة الإنسان، إلا أنها تشترك جميعا في الإقرار الخفي بدوره في إشكالية القضاء والقدر. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بان الشيطان يبرز في أساطير الأمم، بوصفه القوة الفعالة في كينونته الوجودية. وفي هذا يكمن طابعه الخاص بوصفه قوة وجودية في أساطيرها. في حين توحدت وتشابهت صورته ونموذجه في الأديان من خلال تحويل قوته الوجودية إلى وجود مؤثر بالنسبة لمصير الإنسان. وهي استعادة ونفي لما في تاريخ القلق الإنساني العميق في محاولاته تحدي النقص الدائم في الوجود البشري.
فالقلق من القلق! وهي الدورة التي تصنع شياطينها وملائكتها. وهي فكرة عقلانية نعثر على صيغتها الدينية وصورتها النموذجية في الرؤية الإسلامية التي جعلت من الشيطان نموذج التحدي العنيد والاستكبار المحكوم بغيرة أبدية ليست بذاتها سوى أحد عناصر الوجود. فعندما يعتدّ إبليس بناره، فانه يكون بذلك قد جهل بان قيمته ليست بذاته بل في وحدة مكونات الوجود الأخرى. وهي فكرة عانت منها عقلية الفلسفة الأولى عندما جعلت من عناصر الماء والهواء والتراب والنار كل لحاله مبدأ الوجود. لكنها إذا كانت تحتوي حينذاك على أبعاد منهجية مهمتها تفسير الوجود، فان رفع أي منها إلى مصاف القيمة الذاتية سوف يجعل منها بالضرورة قوة تكسر الوجود. وليس استعلاء النار على التراب كما هو الحال في الرؤية الإسلامية سوى الصيغة المعبرة عما يمكن دعوته بغواية الدراية الناقصة، أي ضعف العقل عن إدراك الأبعاد الكبرى في وحدة مكونات الوجود. بينما إدراكها يشكل مضمون المعرفة الحقيقية. وهي المعرفة التي تصنع من التراب والنار مختلف نماذج الفخار والحجار، بمعنى قدرتها واستعدادها على صنع فخار الرونق وافتخار النفس الغضبية، وكذلك حجارة القبور والقصور.
وعندما نتأمل تاريخ الأمم والثقافات وتجارب صعودها وهبوطها، ارتقاءها وانحطاطها فإننا نقف دوما أمام حقيقة مستترة يقوم فحواها في طبيعة الصراع بين "شياطينها" و"ملائكتها". ومهما كانت النتيجة، فان هذه التجارب تكشف عن أن "للشيطان" مظاهر و"مآثر" على قدر ما في الثقافة من دراما الغواية والدراية. بمعنى أن الصراع العلني والمستتر في تاريخ الأمم والثقافات عادة ما يضعهما أمام إشكاليات المعرفة ونوعية التمسك باستنتاجاتها. وليس مصادفة أن تتوصل الثقافة الإسلامية على لسان الشيخ الجنيد بالقول، بان من ليس له أستاذ فأستاذه الشيطان. وهي عبارة تكشف عن حجم المعاناة الكبرى للثقافة تجاه قضايا التلبيس والشبهات والقلاقل والفتنة المحتملة في العقل والضمير والوجود الاجتماعي للبشر ومواقفهم العملية من كل ما يشكل بالنسبة لهم قيمة كبرى. فهي العبارة التي كثفت في أعماقها إشكالية التراكم الثقافي وتربية الإرادة بالشكل الذي يحررهما من غواية الارتماء وراء كل عابر طريق أو تقليد أجوف.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - محاولة
سلمان النقاش ( 2009 / 4 / 12 - 12:33 )
كنت قد قرأت قبل ايام حوارا مع الدكتور الجنابي في جريدة الصباح وقد حاوره الاستاذ محسن يوسف ناعتا اياه بالمفكروجاء في سياق شروحاته ان دولة التوتاليتارية هي إحدى ثمار القرن العشرين المرة. ومرارتها تكمن في عدم قدرتها على تذوق الحياة بمعايير الحياة نفسها. وذلك لان معيارها الوحيد هو القيم الأيديولوجية. بمعنى انها محكومة في أذواقها بالأهواء الخاصة. وإذا كانت الأهواء هي النتيجة العرضية الملازمة لتطور الأمم والثقافات الكبرى، فان سيادتها في القرن العشرين جعل من الممكن انتقال الهامشية والراديكالية من الأطراف إلى المركز، ومن ثم جعل الزمن حاكما على التاريخ. بمعنى انقلاب القيم والمفاهيم والمبادئ. وضمن هذا السياق تكلمت عن -مرارة- التوتاليتارية. أما في الواقع، فان التوتاليتارية ليست خطأ في الذوق فحسب، بل وخطيئة تاريخية كبرى. غير انها، شأن كل -خطيئة تاريخية كبرى- هي نتاج -خطأ كبير- في المسمار التاريخي للأمم والدول والثقافة.
بمعنى خطأ الخروج على -منطق- التاريخ.أما ارتباطها بالقرن العشرين، فيكمن في كونه القرن الذي جعل من فكرة -الحتمية- فلسفة سياسية تاريخية. وإذا كان ارتباطها الظاهري بالشيوعية الماركسية، فان جذورها النفسية والأيديولوجية تكمن في فكرة الحتمية القائمة في السيطرة -الفرحة- للمركزية الأور

اخر الافلام

.. حزب الله يعلن تنفيذ هجوم جوي على قاعدة إسرائيلية جنوب حيفا


.. من واشنطن | صدى حرب لبنان في الانتخابات الأمريكية




.. شبكات | هل قتلت إسرائيل هاشم صفي الدين في غارة الضاحية الجنو


.. شبكات | هل تقصف إسرائيل منشآت إيران النووية أم النفطية؟




.. شبكات | لماذا قصفت إسرائيل معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسو