الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفاق الأصوليات (الدينية) السياسية في العراق

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2009 / 4 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إننا نعرف جيدا بأن الأحداث الدموية لا تنشأ عن فراغ. بل يمكننا القول، بأنها التعبير النموذجي عن خلل هائل في بنية الدولة أو العلاقات الاجتماعية أو الأخلاق أو الفكر أو في جميعهم. وإذا كانت الطبيعة لا تحب الفراغ، فان الفراغ الذي صنعه التسنن السلفي على امتداد قرون عديدة يشير إلى طبيعة الخلل الهائل في بنية الفكرة الإسلامية السنية وتقاليدها ككل. وهي تقاليد برزت بكامل قوتها التخريبية في العقود الأخيرة، بعد أن تمازجت مختلف تياراتها الراديكالية في سبيكة يصعب تحديدها بشكل دقيق، إلا أنها تتميز بصعود متنام لنفسية الإرهاب والعداء الشامل لكل ما لا يستجيب لتصوراتها وأحكامها، أي لعقائدها الخاصة.
فالعناصر الجزئية للعقلانية والليبرالية التي تراكمت في مجرى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في الحركات الإسلامية السنية قد أخذت بالاندثار شبه الشامل والتام مع صعود الأصوليات السياسية المتشددة. ولعل من أهم مفارقات هذه «الأصولية» هو فقدانها للأصول بالمعنى الفلسفي والفقهي والسياسي. الأمر الذي جعل من تصوراتها في الأغلب نسيجا خشنا من العقائد والأحكام الفقهية المرتبطة بعقائد الإيمان الرتيب وقواعد السلوك الميتة.
لقد كانت هذه الأصوليات المتشددة ردا مباشرا على هزيمة الأصوليات الدنيوية (التوتاليتارية) واستكمالا لها. وفي هذا الواقع نستطيع العثور على استعادة حية للفكرة التي بلورها ابن خلدون قبل ألف عام عن خصوصية الانتقال من البداوة إلى التمدن. إلا أن هذه الخصوصية تكشف لنا في الوقت نفسه عن بعد آخر لم يتطرق إليه، ألا وهو طبيعة الارتباط العضوي بين البداوة والتسنن السلفي الذي عادة ما يؤدي إلى إعادة إنتاج نفسية الاستبداد وفكرته السياسية في «الدولة». وهي حقيقة يمكن تأملها على أمثلة التاريخ الإسلامي ككل. فقد كانت جميع مراحل انحطاطه الثقافي مرتبطة بصعود التيار السني السلفي. وليس اعتباطا ألا ينتج التسنن السلفي أية منظومات فكرية فلسفية. كما انه ليس اعتباطا أن يناهض الفلسفة العقلانية والتصوف والتشيع ومختلف المدارس الإنسانية الإسلامية الكبرى من خوارج ومعتزلة وغيرهم. بمعنى سلوكه التاريخي المتأصل في العداء لإبداع العقل الرفيع والروح المتسامي والوجدان الخالص. وليس اعتباطا ألا تتعدى التصورات والأحكام العقائدية المميزة للأصوليات السلفية المتشددة القديمة والمعاصرة أكثر من اجترار جزئي لمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث الموضوعة (الكاذبة). إضافة إلى أن اغلبها لا علاقة له بالحياة ومتطلباتها. إذ لا يتعدى أقصى اهتمامها متطلبات الجسد والماورائيات الغارقة بزبد التمنيات والعجائب. وهي صفات يمكن فهمها على أنها النتاج الملازم لنفسية البداوة والاستبداد.
ويشكل تاريخ السلطة في العراق الحديث نموذجا ناصعا لهذه النفسية كما نراه في تمثلها وتمثيلها لاندماج تاريخ البداوة وبنيتها التقليدية بالسلطة. وليس اعتباطا أن تعارض هذه النفسية وترفض رفضا قاطعا فكرة ومبدأ الانتخاب والاختيار تحت حجج وذرائع شتى. أما في الواقع فإنها الصيغة الماكرة لنفسية البداوة والاستبداد، التي تعتقد بأن الشيخ يولد ليسود.
وفي ظل هذا التاريخ الخاص لنفسية البداوة والاستبداد، أصبح التسنن في العراق المعاصر أحد المصادر الكبرى للاستبداد وتبرير الإرهاب. وإذا كان هذا الانطباع العام والجلي في الوقت نفسه في كل مناطق العالم الإسلامي والعالم ككل، فان خصوصيته في العراق تقوم في انه اخذ يشعر للمرة الأولى بفقدان زمام «المبادرة» وانحساره التاريخي إلى حدوده الطبيعية. بمعنى إرجاعه إلى تخوم ما قبل الدولة والمجتمع المدني، أي بادية الثقافة التقليدية. إذ لم يصنع التسنن المتشدد والسلفي في العراق سوى صحراء قاحلة. ومن ثم لا يمكنه مع كل هبة ريح أن يجلب غير الرمال والرماد وبقايا عالم لا حياة فيه. والأحداث الدموية المتكررة في مختلف مدن العراق ليست إلا الصيغة الفعلية لهذه الرياح الرملية. إنها يمكن أن تصنع كثبانا من القتلى والجرحى، لكنها لا تستطيع حبس جريان الأنهار.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا التيار الجديد في الحركة السياسية العراقية والإسلامية وتقاليد المقاومة يكشف عن افتقاده لأبسط مقومات العيش والنجاح. وهو تيار لا يمكنه الاكتمال والظهور سياسيا وفكريا بسبب ضعفه مقارنة حتى بأكثر الأشكال تخلفا كما هو الحال في الوهابية المعاصرة وحركة طالبان. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الحكم بزواله السريع مقارنة بأمثاله لأنه يجمع بين قوى متناقضة لا يوحدها سوى العداء العلني والمستتر لفكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، أي ضد التيار الكاسح للتقدم والحرية. والقضية هنا ليست فقط في أن الالتفاف برداء «المقدس» لا يقدس المرء، مع ما فيه من ضرورة الارتقاء إلى مصاف البدائل الأجمل، بل ولأنه لا توجد في كل حيثيات الأصوليات المتشددة للغلاة الجدد ما يوحي باقترابها من ابسط مقومات ومبادئ الاعتدال المميزة لتقاليد الإسلام العقلانية وتاريخ الحركات السياسية المعتدلة والإنسانية القديمة والحديثة.
إننا نعثر في هذه الحالة على ما يمكن دعوته بانتهاء "المرحلة الدينية" المتشددة في الوعي السياسي، بما في ذلك في الحركات الإسلامية السياسية. لكنه انتهاء يحتوي على احتمالين متكافئين من حيث النتيجة، بمعنى إنهما يصبان في نفس المجرى العام المشار إليه أعلاه، أي في مجرى انتهاء المرحلة الدينية المتشددة في الوعي السياسي. وهي حالة تتسم بقدر كثير من التوتر الداخلي. وذلك لأنها تشكل مضمون عملية تاريخية أكثر مما هي عملية فكرية. فالحديث هنا لا يجري عن انقلاب أو تحول تاريخي أو فكري في التشدد الديني، وذلك لأنه كان على الدوام جزء جوهريا من تقاليد الوعي الديني بشكل عام المذهبي بشكل خاص، بل عن انتهاء مرحلة التشدد الديني في الوعي السياسي.
لقد كان هذا المخاض الصعب نتاج الحالة البنيوية الخربة للنظام الاجتماعي والسياسي العربي في مجرى النصف الثاني للقرن العشرين، وبالأخص منذ ستينيات القرن العشرين. بحيث أصبح الصعود الراديكالي للتشدد الإسلامي الوجه الآخر لهبوط الراديكالية الدنيوية (العلمانية) وتدميرها لمشروع النهضة والحداثة. الأمر الذي جعل ويجعل من اندثارهما في ظل العولمة المعاصرة وصراع الوجود الثقافي والقومي للأمم أمرا حتميا.
وإذا كان موت الراديكالية الدنيوية واقعا جليا بعد مرور نصف قرن من الزمن الضائع، فان الراديكالية الدينية المتشددة (الأصوليات) ولدت ميتة منذ البدء. وذلك لأنها ليست قادرة على مواجهة العولمة بمعاييرها، كما أنها عاجزة عن تمثل المصالح القومية بمعايير الحداثة الفعلية. كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول، بان التشدد العنيف المتماهي مع همجية "القنابل البشرية" و"الأحزمة الناسفة" وتدمير "الكفار" و"المارقين" من أبناء القوم سوى الصيغة الفعلية لتدمير النفس أولا وقبل كل شيء، أي الصيغة الواقعية والرمزية للانتحار الذاتي. وشأن كل انتحار قد لا يخلو من فروسية، لكنه لا قيمة لامتطاء حصان منهك للدخول في سباق في عالم يشعر بالضيق والتبرم من تباطؤ ثوان لحركة المعلومات أمام شاشة الحاسوب (الكومبيوتر) والشبكة العنكبوتية (الانترنيت).
إضافة لذلك، التجربة التاريخية للأمم الحديثة تبرهن على استحالة توسيع المدى العقلاني للمسار الفعلي في ارتقاء الأمم دون مخاض التجارب الخشنة والمريرة. فهو الأسلوب الوحيد لإرساء أسس العقلانية والرؤية الواقعية والنزعة الإنسانية، أي المكونات الضرورية لبناء منظومة الدولة والأمة الحديثة.
فالتاريخ لا يعرف معجزة إحياء الموتى. أنها مقبولة ضمن سياق ومذاق الأوهام والأساطير الدينية والدنيوية، أي ضمن سياق ومذاق الأوهام فقط. بينما التاريخ الفعلي للأمم هو تاريخ المستقبل، أي تاريخ الأمم القادرة على حل إشكاليات وجودها المعاصر بمعايير المعاصرة، والمستقبل بمعايير المستقبلية. ذلك يعني أنها حلول لا مكان فيها للأصوليات أيا كان شكلها ومحتواها. وذلك لأن الأصوليات منظومات مغلقة من حيث المبدأ والغاية. وبالتالي عاجزة عن إدراك قيمة ومعنى واثر فكرة الاحتمال والبدائل الحرة. أما "اجتهادها" فيبقى في أفضل الأحوال مجرد تأويل متحزب ومحكوم بأفكار جاهزة منذ البدء. الأمر الذي يجعل من الأصوليات كيانات ميتة منذ الولادة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - Totalities and the death instinct
Talal Alrubaie ( 2009 / 4 / 14 - 02:16 )
You seem to declare that totalities are dead by virtue of their intellectual closeness, refusal to engage into an exercise of self-interrogation, and hence they are a part of the death machinery. But death is a part of the reality; it is the reality that declares its presence through its absence. As Freud indicates, we are all governed, psychologically speaking, by the life and death instincts. The totalities belong to the realm of the death instinct. This instinct, expressing itself, for example, through totalities and closures, cannot be declared dead by virtue of its being labeled as such, namely, we cannot declare the ‘death’ of death, since by doing so we declare simultaneously that there is no life ending with death. Put differently, to negate death we negate life.
The other confusion is that you replace the actual reality with the wished-for reality. By declaring totalities as dead (reducing the irreducible reality to words), we blind ourselves to their reality and its deadness. Instead we should try our best to identify the destructive and malignant nature of all totaliti


2 - تعليق على تعليق
ميثم الجنابي ( 2009 / 4 / 14 - 09:02 )

الدكتور طلال الربيعي
ليس المقصود مما اكتبه هنا الرد على ما ورد في تعليقك، وذلك لان ما كتبته سليم من الناحية المجردة. والسبب بسيط للغاية، وهو انه يعيد توكيد بعض الحقائق والبديهيات. مثل الموت هو جزء من الواقع، وانه لا يمكننا قول موت الموت، لان ذلك يعني إقرارنا بإمكانية حياة بلا موت، وأننا جميعا محكومين بغريزة الحياة والموت (فرويد)، وانه لا يمكن استعمال فكرة النفي الماركسية بصدد هذه القضية، وان نفي الموت على المستوى الفكري هو هروب نفسي من واقع مؤلم لا يتسم بالتسامح. ومن ثم فإننا لا نستطيع القضاء على الموت بل يمكننا تمديد الحياة ولو إلى حين (فيما لوا استعملنا مفاهيم وتعبير اللغة الطبية) وغيرها من الأمور.
الشيء الوحيد والأساسي الذي يمكن الاعتراض عليه هو أن إشكالية الحياة والموت المثارة في تعليقك لا علاقة لما كتبته بها. فهي ليست جوهرية ولا حتى عرضية (عابرة) في المقال. فالشيء الجوهري في هذا المقال (وما سبقه وما سيتلوه) هو محاولة البرهنة على ما في تقاليد الراديكالية من خطر مميت بالنسبة للدولة والأمة والثقافة والتطور الحر للفرد والجماعة والمجتمع. مع إدراك لضرورتها التاريخية. بمعنى أنها تظهر بفعل الضرورة. وللضرورة أحكام. أما في مجال الرؤية المستقبلية فيمكنها أن تكون جزء من مشاريع الب


3 - The urgent need for an interdisciplinary research
Talal Alrubaie ( 2009 / 4 / 14 - 13:51 )
Dear Dr Al Jinabi
Thank you for your useful remarks.
I would like to think in the prevailing destructive nature of radicalism and its featurelessness, and think that radical projects, political ones at least, are necessarily totalitarian and destructive, which might even become more malignantly destructive when they acquires a vulagar party- or politcal group-oriented fanatism (Is this a radical stance on my part?). However, the logician and mathematician Gödel, decades ago, had demonstrated in his Incompleteness Theorem the impossibility of totalitarianism in science and knowledge (please refer to my comment in: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=168605
I agree that the developmental history in Iraq, on social and political levels, should have moved away from radicalism and towards pluralism. There is no problem here, I feel, on the descriptive level of the phenomenon at issue.
However, as a psychiatrist and sexologist, I see the root cause, or at least as one of the main causes, for this phenomenon of radicalism and totalitarianism lies in the ascend


4 - key west body painting on women hot abs
RobertMoke ( 2016 / 10 / 18 - 01:13 )
دًَïًَيûé ÷àé -) goo.gl/AB1mUb

Cellufit -) goo.gl/Nk5d5C
===========

اخر الافلام

.. 82-Al-Aanaam


.. هل هبط آدم من الفضاء ؟




.. -اليهود مش هينسوهم-..تفاصيل لأول مرة عن قادة حرب أكتوبر


.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية.. الكلمة الفصل للميدان | 202




.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية: تماسك في الميدان في مواجهة