الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف العراقي وحقائق المرجعية الأبدية للروح

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2009 / 4 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن الامتحان الأكبر لوجود الإنسان والجماعة والأمة يقوم في مستوى إدراكهم لتراكم الحق والحقيقة والخير والفضيلة. إذ يفترض هذا التراكم تكاملا بمعايير العلم والعمل، أي بمعايير أحراره العظام ومرجعياته الروحية المتسامية، لكن من خلال وضعها الدائم على محك التجارب الذاتية. وإلا فان ما يحدث لا يتعدى ترديد وإعادة إنتاج تقاليد الغواية المتكسرة بتقليدية الفكر والوعي. فهي المكونات التي تصنع رذائلها، أي قواها القادرة على إغواء العقل والضمير وإغرائهما في التلذذ الحار ببرودة البلادة الأبدية للجمود والتحجر. وهو إغواء وإغراء لا يفعلان في الواقع إلا على لف الفرد والجماعة والأمة والثقافة في فلك الاجترار الدائم للزمن، مع ما يترتب عليه من فقدان التراكم الضروري بالنسبة للتاريخ ووعي الذات. وهو زمن لا يعمل إلا على جعل الأمة والثقافة يواجهان ما يواجهه العوام من قلق الزمن الضائع.
إذ ليس الزمن الضائع بالنسبة للفرد والجماعة والأمة والثقافة سوى الوجه الآخر للإرادة البشرية المتكسرة بدهاليز الإغراء الإغواء. وذلك لأن مبدأها الولع وغايتها الولع وما بينها اجترار للقلق. وهي صورة واحدة من حيث المضمون. أنها الصورة التي تثير الفزع في الطفولة، والولع في الرجولة، والجزع في الكهولة. ذلك يعني أنها صورة الإرادة المسلوبة. فحقيقية الرذيلة في هذا الميدان ليست إلا الوجه الآخر لتلون الإرادة المتكسرة بدهاليز الإغواء والإغراء. فقوته من ضعفها، وضعفه من قوتها. وهي معادلة تصنع ما يمكن دعوته بثلاثية الإرادة الشيطانية: جسد بلا روح، وإيمان بلا هداية، وعلم بلا دراية. وهي ثلاثية تقفل على الروح والعقل والإيمان إمكانية العمل بما فيهم من قوة قادرة على تنقية النفس والارتقاء بها إلى مصاف التمسك الدائم بالحق والحقيقة.
وهي ثلاثية أكثر من يمثلها ويجسدها الآن في العراق القوى التي تعمل بمتطلبات الغريزة الجسدية وليس بمرجعيات الروح الثقافي للأمة. فهي قوى لا يحتوي إيمانها على هداية لأنه موجه ضد حقيقة الإيمان باعتباره إحسانا. كما لا يتعدى علمها تكرار واجترار ما عفا عليه الزمن من أحكام ومفاهيم ميتة. والقضية هنا ليست فقط في أن كلام القدماء، مهما كان عظيما يبقى جزء من تجاربهم، بقدر ما في خطورة تطويعه الجزئي الذي يجعل من فكر القدماء عبارات، ومن عباراتهم هراوات الإرهاب والاستبداد عوضا عن تحرير العقل واختبار الحكمة. وهي حالة تجعل من الممكن القول، بان الرذيلة العراقية الكبرى (أو العصرية!!) هي القوة التي تعمل بدون هوية تلقائية في مواجهة إشكالاتها الكبرى والصغرى. وهي رذيلة بلا آفاق. بمعنى انها قادرة على سحق كل التراكم التاريخي للثقافة ومرجعياتها الروحية المتسامية، لكنها لا تعمل في الواقع إلا بأسلوب رمي الحجر بالحجر. وهو أسلوب لا قيمة فيه ولا اثر حتى بالنسبة لإنهاك القوى الشيطانية الفاعلة في نفسية وذهنية العراق الحالي. وذلك لأنه يكتفي بصورة "رمي الجمار"، أي حجر بحجر، دون الاعتبار برمزيتها التي قالت عنها شيوخ الإسلام العظام:"إذا كسرت الحجارة للرمي، فاكسر مع الحجارة إرادة الباطن وشهوات الأسرار وممكنات الأهواء". بمعنى التحرر من عبودية الإغواء والإغراء القائمة في ضعف الإرادة.
بعبارة أخرى، إن مهمة كسر الحجارة "الشيطانية" القابعة في العقل والضمير تفترض كسر الإرادة المتكسرة وإعادة صهرها ببوتقة الحق والحقيقة. وبدون ذلك تبقى إشكالية المأزق الحرج والطريق المسدود القلق الدائم للفكر والوجود! وهذه بدورها إشكالية ملازمة لفقدان المرء والمجتمع والدولة والثقافة مرجعيات كينونتهم الثقافية. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بأن رذيلة العراق الكبرى الآن تقوم في كونه يعمل بدون هوية تلقائية، أي عمل خارج منظومة المرجعيات العامة والملزمة في ميدان القومية والدولة والثقافة.
وهي الحالة التي يقف أمامها المثقف العراقي بعد انحلال وتحلل الثقافة والمثقف في مجرى الاستحكام التام للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، اللتين جعلتا من المثقف ملاكا ضائعا في الزمن وشيطانا ماردا بيد الأحزاب! وهي مفارقة الثقافة والمثقف العراقي الحالية. فإذا كان خراب الثقافة والمثقف في ظل سيادة الزمن الدكتاتوري النتيجة الحتمية المترتبة على تجفيف مصادر الإبداع الحر، فان مفارقة الظاهرة الحالية تقوم في أن الأحزاب المعارضة لم تفعل في الواقع إلا على إنتاج دكتاتوريات وتوتاليتاريات مصغرة. بمعنى أنها كانت تختزن في أعماقها تقاليد الزمن الميت وتقاليد الراديكالية الهامشية. وهي نتيجة كانت تكمن في مصادرة الأحزاب السياسية للثقافة والمثقف على السواء. ولم يكن ذلك معزولا عن استبدال طاقة الحرية الذاتية للإبداع الثقافي بقواعد العقائد الأيديولوجية المتحكمة بنفسية وذهنية الأحزاب. بحيث جعل من الأحزاب قوى متصارعة فيما بينها أيضا حتى في مجال "الاستحواذ على المثقفين"! وليس مصادفة أن تطلق بعض الأحزاب على نفسها لقب "حزب المثقفين"! وهي مصادرة من نوع غريب ومزيف، لكنها تعكس نفسية وذهنية الأحزاب المضادة لحقيقة الثقافة والإبداع الثقافي الحر. وحالما تتحول هذه النفسية والذهنية إلى عقيدة سياسية، عندها يصبح إنتاج شياطين الأحزاب صفة ملازمة لها.
فالمثقف والحزب مكونات مختلفة، لا يمكن الجمع بينهما إلا في ميدان المواقف السياسية. وما عدا ذلك فالاختلاف قابل للتضاد. وخصوصا حالما يربط الحزب السياسي مواقفه من المثقفين بفكرة الطاعة والانقياد والدعاية، أي كل ما يجعل من المثقف كيانا ذليلا أمام الإغواء والإغراء. أما النتيجة فتقوم في تحول الحزب السياسي إلى شيطان كبير. مع ما يترتب عليه من موقف أيديولوجي مهمته تصنيع شياطين صغار، أي ألسنة بلا قلوب. وهي إحدى اشد الممارسات "السياسية" تعارضا مع فكرة السياسة بوصفها فضيلة نظرية وحكمة عملية. مع ما فيها بالضرورة من استعداد دائم لاقتراف الجريمة باسم الثقافة من خلال تحويلها إلى مرتع الارتزاق وسوق الجريمة بغطاء القيم المزيفة والرصانة المفتعلة. وهي الحالة التي يمكن تتبع حيثياتها الهائلة في كل مجرى التاريخ الحديث والمعاصر للعراق. بمعنى التصنيع الدائم من جانب الأحزاب لما يسمى بمثقفي الأحزاب. بينما تقول بديهيات الثقافة، بان المثقف الحقيقي خارج الأحزاب والحزبية لأنه يعمل بمعايير الحقيقة، أي الأكثر تجريدا وتعميما وحكمة وفضيلة. بينما أفضل الأحزاب مصالح، والسائد منها مغامرات ضيقة. ومن ثم لا يمكنها أن تنتج أكثر من صناعة مزيفة في ورشات الإنتاج المتخلفة. بينما حقيقة المثقف تقوم في نفي هذه التقاليد المتخلفة وتفكيك آلية فعلها من خلال العمل بمعايير ومقاييس المرجعيات المتسامية، أي حسب "حقائق المرجعية الأبدية للروح". وهي حقائق تستمد مقومتها دوما من ثلاث مبادئ جوهرية ومتناسقة بالنسبة للمثقف والثقافة وهي: الفردانية المتسامية، ووحدة العلم والعمل، والإبداع الحر عبر معاناة الهموم الكبرى للفرد والمجتمع والدولة.
إن "حقائق المرجعية الأبدية للروح" هي المنظومة الخفية للإبداع التاريخي. وبالتالي فهي المنظومة الجلية للإبداع الأبدي. وهي حقائق يمكن تأملها في كل تاريخ الأرواح الفاعلة في الجنس الإنساني، وما عداها مجرد هباء وغباء أو ارتزاق مر. وما لم يتوصل المثقف العراقي إلى إدراك وتحقيق ذلك، فان المأزق العراقي يبقى "حيا" قاتلا! أما تذليل هذا الخلل الهائل فيفترض بناء الوجود الفردي والاجتماعي والقومي على أسس ثقافية حرة ومرجعيات تلازمها في بناء الدولة، لكي لا يكون المثقف مجرد ملاك ضائع في دراما الوجود العابر للأحزاب.
***










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله يعلن تنفيذ هجوم جوي على قاعدة إسرائيلية جنوب حيفا


.. من واشنطن | صدى حرب لبنان في الانتخابات الأمريكية




.. شبكات | هل قتلت إسرائيل هاشم صفي الدين في غارة الضاحية الجنو


.. شبكات | هل تقصف إسرائيل منشآت إيران النووية أم النفطية؟




.. شبكات | لماذا قصفت إسرائيل معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسو