الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف ومهمة صنع التاريخ القومي

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2009 / 4 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن إحدى الصفات الجوهرية المميزة للتاريخ العربي تقوم في كونه تاريخا ثقافيا، أي ليس اجترارا للبديهيات، بل نقدا متراكما للمنظومات الفكرية واجتهادا أوليا يتسم بقدر عال من الإبداع الثقافي، بدأ من الخط والحرف والمعمار والمدينة والدولة والقانون، وانتهاء بعلوم الفلك والأديان والفلسفات. وهي مكونات لا يمكنها الاندثار لأنها تهدأ في قاع الكلمة والمعنى الذائبتين في وجد الأمم والتاريخ العالمي. وكل حركة إلى الأمام تحتوي بالضرورة على قدر من تحريك الماضي. وهو تحريك يؤدي بالضرورة إلى لمعان الهدوء الكامن في المعنى التاريخي للإبداع الثقافي. بمعنى إعادة إدراكه المتجدد. وهو إدراك يشّذب ويهذّب بالضرورة تحديد القيمة الثقافية للماضي، ويكشف عن أن الماضي هو حاضر ومستقبل أيضا. وهي المقدمة التي تتمثل في الواقع ذهنية وروح التفاؤل المغري للعالم العربي في إمكانية تجاوزه الأزمة الحالية للدولة والمجتمع والثقافة.
إن إمكانية تجاوز الأزمات التاريخية الكبرى، هي الصفة الملازمة للثقافات الكونية الكبرى. فالثقافة الكونية هي أولا وقبل كل شيء تراكم لمنظومة الرؤية تجاه إشكاليات الوجود والكون والإنسان والمستقبل. الأمر الذي يجعل منها طاقة خفية وفعالة تستظهر وجودها مع كل انعطاف هائل في تاريخ الأمم والبشرية. وفي هذا يكمن بريقها الخاطف وأثرها في العقل والضمير الإنساني. كما انه السبب الذي يجعل منها قوة حية ومنافسة، شأن كل ما هو حيوي ومؤثر في صيرورة التاريخ العالمي. وليس اعتباطا أن تبقى ثقافة وادي الرافدين (العراق وسوريا) والثقافة المصرية والإغريقية والرومانية والعربية الإسلامية السلسلة الحية للثقافة الكونية، أو أساسها الأولي. فهي الثقافات التي صنعت حضاراتها الخاصة وارتقت في نفس الوقت إلى مصاف الثقافة الكونية. وهو ارتقاء مختلف ومتباين لكنه يعكس التنوع في مسار ما يمكن دعوته بكيفية حل إشكاليات الوجود الطبيعي والمارواطبيعي للفرد والدولة والمجتمع بمعايير الوجود العام والتاريخ والمطلق، على خلاف غيرها كالصينية والهندية وأمثالها. فهي ثقافات هائلة وعظيمة لكنها كانت تعمل بمعايير الانغلاق الذاتي بوصفه كونا جامعا. وهو السر القائم وراء فكرة الإمبراطورية السماوية في الحضارة الصينية ورؤية حدودها الجغرافية داخل السور العظيم، وبناء جغرافية "السور العظيم" الهندي في فلسفة الطبقات المغلقة. وكل منهما يبقي على ما فيها بوصفها ثقافة كونية محلية. بينما الثقافة الكونية الشاملة هي التي تبحث عن حلول لإشكاليات الوجود الطبيعي والمارواطبيعي للفرد والدولة والمجتمع بمعايير الوجود العام والتاريخ والمطلق.
وهو بحث يتمظهر في الأغلب في تأسيس الرؤية الكونية وأسلوب أو منهج الواحدية فيها. بمعنى البحث عن فكرة أكثر تجريدا وعموما، ووضعها في أساس رؤية الكون والوجود وحياة الإنسان والجماعة والدولة. فالحضارة الصينية أبدعت فكرة الإمبراطور بوصفه ابن السماء أو تحقيقا لها في ارض خان (الصين). وسلكت الحضارة الهندية نفس المسار ولكن ضمن حدود التقاليد الهندية. الأمر الذي جعلهما يكتفيان بذاتهما. وان تكون الإمبراطورية فيهما إمبراطورية جغرافية قومية. على عكس ما هو مميز لثقافة وادي الرافدين ومصر والإغريق والرومان والعرب، التي جعلت من فكرة "التوسع" الجغرافي استمرارا لمهمتها الكونية. وهي "مهمة" لم تكن تخلو من نزوع ارضي ومادي وأناني لكنها كانت تسير ضمن معايير "الوجود العام" المحكوم برؤية كونية مصدرها الواحد. وليس اعتباطا أن تكون آلهتها الحلقة الرابطة بين السماء والأرض، والماضي والمستقبل. وان تخلو بالتالي من نزوع محلي وقومي صرف أو أن يكون المحلي والقومي ذائبا في رؤية عامة. ونعثر على التطور اللاحق لهذا التوجه في الثقافة الإغريقية التي جعلت من فكرة الواحد مبدأ فلسفيا في رؤية الكون والوجود وإيجاد الحلول المناسبة لها في الموقف من الإنسان والدولة (العالمية). وان تقسم العالم بالتالي إلى ثنائية المتحضر والبربري (الهمجي). وهو نفس المبدأ الذي اتبعته الحضارة الرومانية. كما انه ذات المبدأ الذي أسست له الحضارة العربية الإسلامية من خلال ثنائية الوحدانية والشرك. وهو المبدأ الأكثر سموا من الناحية الفعلية لأنه كان يستند منذ البدء على فكرة متسامية ليست قومية أو عرقية أو محلية. مما جعل من اشتراك الأمم فيها عملية تلقائية في اللغة (العربية) والإبداع. كما كانت قبل ذلك في الآرامية (الهلال الخصيب) ثم الإغريقية (اليونان) واللاتينية (روما). وكما نرى نموذجها الحالي في الانجليزية.
إن التنوع في حل إشكاليات الوجود الطبيعي (الحياة المادية والتاريخية للدولة والمجتمع) والماوراطبيعي (الحياة الروحية بمختلف أشكالها ومستوياتها) هو الذي حدد طبيعة التنوع المشار إليه أعلاه. وفيما يخص الثقافة العربية (الإسلامية)، فإنها وضعت منذ البدء فكرة العام والكوني في صلب رؤيتها لوجود الإنسان والجماعة والأمة. وهي رؤية عادة ما يتداخل فيها التاريخ والمطلق بقدر متكافئ. ومنهما كانت تتراكم مرجعيات الاعتدال العقلي والروحي الذي لم يخلو من صراع عنيف ودرامية هائلة، شأن كل ثقافة كونية. لكن مسارها العام كان ينحو صوب العام وقواعد الروح المطلق. من هنا تراكم المرجعيات الثقافية فيها الذي جعلها من بين أهم انجازات الثقافة الكونية. بل يمكن اعتبارها الوجه الأولي والمقدمة النموذجية للثقافة الأوربية الكونية. والفرق بينهما يقوم في أن الثقافة العربية الإسلامية سارت من العام إلى الخاص، ومن الروح إلى الواقع، ومن الحكمة إلى العقل، بينما سارت الثقافة الكونية الأوربية من الخاص إلى العام، ومن الواقع إلى الروح، ومن العقل إلى الحكمة. وهو خلاف اقرب إلى التنوع يجعل الالتقاء بينهما مع مرور الزمن أمرا ممكنا وواقعية، أي مهمة أكثر مما هي إشكالية عصية على الحل.
بعبارة أخرى، إن للثقافة العربية مقوماتها التاريخية الذاتية بسبب بلورتها النموذجية لمرجعيات ما ادعوه بحقائق الروح المتسامي. وهي مرجعيات ارتقت في مجرى التطور التاريخي للفكرة العربية إلى منظومة ما فوق تاريخية، أي إلى منظومة مرجعيات متسامية. من هنا قدرتها على النهوض بعد كل كبوة، وصعود بعد كل توقف، وإبداع بعد كل مرحلة جمود. بمعنى أنها لا تبدأ من الصفر، بل تستكمل ما سبق وان جرى تراكمه في نوعية المرجعيات الثقافية الكبرى. على عكس الثقافات المحلية، أيا كان بريقها وقوتها النسبية. فالثقافات المحلية تظهر وتندثر، أو تحترق وتتلاشى أو تذوب في مسام الأرض ووجدان الأمم وزمن الغابرين والعابرين. وكلها تسهم على قدر ما فيها من قيمة وقيم في إنعاش وإحياء التاريخ الثقافي الكوني. لكنها تبقى في نهاية المطاف مكونات جزئية على خلاف الثقافة الكونية.
والثقافة العربية هي ثقافة كونية، بمعنى أنها امتداد لتاريخ عريق جذره الأول هو تاريخ العرب القدماء وأسلافهم من أرومتهم، وأوسطه هو تاريخ مناطقه الثقافية الكبرى (الجزيرة ووادي الرافدين ومصر والمغرب)، ونهايته هو تاريخ الخلافة العربية. وليس اعتباطا أن يصبح العالم العربي موطن الرؤية الكونية. انه يستعيد هنا تاريخ عريق من دورة كاملة هي العربية القديمة – العربية الإسلامية – العربية الحديثة. فهي الدورة التي استطاعت من خلال حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والدولة والأمة وتأسيسها في منظومات العلم والعمل، إبداع مرجعياتها الثقافية المتسامية. وهي مرجعيات لا تفنى إلا في إبداع مثقفيه الكبار!
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله يعلن تنفيذ هجوم جوي على قاعدة إسرائيلية جنوب حيفا


.. من واشنطن | صدى حرب لبنان في الانتخابات الأمريكية




.. شبكات | هل قتلت إسرائيل هاشم صفي الدين في غارة الضاحية الجنو


.. شبكات | هل تقصف إسرائيل منشآت إيران النووية أم النفطية؟




.. شبكات | لماذا قصفت إسرائيل معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسو