الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين والانثروبولوجيا

سعدون محسن ضمد

2009 / 5 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أشعر دائماً بأن علم الانثروبولوجيا يتقاطع مع التدين. واستغرب في حال صادفني باحث انثروبولوجي متدين، سواء ممن أقرأ لهم أو التقيهم. أما لماذا؛ فلأن هذا العلم يدرس حضارة الإنسان والدين مفردة من مفردات هذه الحضارة، الأمر الذي يُمَكِّن الباحث في الانثروبولوجيا من نقطة مراقبة تكون دائماً فوق حضارة المجتمع الذي يدرسه، أو بعبارة أدق؛ من نقطة تكون منفصلة عن الضغط العاطفي الذي تمارسه الثقافة على أفراد مجتمعها. بالتالي تكون المراقبة لا عاطفية (ما أمكن)، الأمر الذي يكشف علاقة الدين ـ أو تأثره وتأثيره ـ ببقية مفردات الثقافة التي ينتمي لها. وهكذا يشاهد الانثروبولوجي كم أن الأديان تتأثَّر ببيئته الإنسان. ويشاهد بأم عينه كيف أنها تنمو وتترعرع وتزدهر وتذبل وتجف وتتكسر.. بل وتندثر. وعلى هذا الأساس ألا يعود غريباً أن يبقى الانثروبولوجي متديناً؟
كما أن الانثروبولوجيا، من جهة أهم، تستكشف، بحكم تخصصها، الدور الوظيفي الذي تؤديه فكرة المقدس بالنسبة لبنية الجماعة التي تعمل داخل إطارها. الأمر الذي يُعرّض هذه الفكرة للترهل، بالنسبة لمن يبحث في وظيفتها. ومن هنا يبدو غريباً على مختص بالانثروبولوجيا أن ينتمي عاطفياً للموروثات العقائدية المقدسة، الخاصَّة بجماعته؛ لأنه، بالتأكيد، سيفكر بالوظيفة التي تؤديها هذه المقدسات بالنسبة للجماعة، فيكتشف، مثلاً، أنها مكرسة لحماية تماسكها، أو أنها مشكَّلة بطريقة تدعم نظامها الاقتصادي أو تؤسس لشرعية نظامها السياسي.. وهكذا. إذن، وبعد كل ما يبحثه الانثروبولجي أو يقرأه بخصوص معتقدات الشعوب وأديانها، وعلى الأخص عندما يعمل بمجال المقارنة بين أديان الشعوب المختلفة. كيف يمكن له أن يبقى متديناً؟.. إلا إذا افتقد طبعاً للعقلية النقدية، ما يمنعه من الحصول على المشهد الثقافي الذي ينتمي إليه دون مؤثرات عاطفية تذكر.
عندما تتَطَّلع على تنوعات الأديان وبما تحتوي عليه من أفكار مقدسة تستتبع طقوساً، هي الأخرى مقدسة، يمكن لك أن تجد الخيط الناظم لمجموعة هائلة من الأفكار والفعّاليات البشرية الدينية، التي يبدو عليها أنها مشتتة ولا يشبه بعضها بعضاً. فمهما بدا على طقوس الهندوس أنها تختلف جذرياً عن طقوس اليهود، فإن المقارنة الدقيقة بين هذين الدينين، وبين غيرهما من الأديان، سرعان ما تكشف للباحث المُقارِن مجموعة المشتركات، التي بالوقوع عليها تبدو بقية المختلفات وكأنها هامشية وغير مهمة.
من هنا يكتشف الانثروبولجي معنى أن الدين ظاهرة اجتماعية بشرية، مكرسة لخدمة الجماعة وتحقيق الهدف من عملية تجمع أفرادها، وأيضاً حماية هذا الهدف، ما أمكن. بالتالي يكون الدين في جذور نشأته التاريخية فعلاً اجتماعياً يهدف لتحقيق غايات اجتماعية يأتي بمقدمتها الحفاظ على كيان المجتمع وضمان تماسكه وتحقيق شخصيته وحمايته من التفكك، وكل هذا يتم تحقيقه من خلال فكرة المقدس. لكن كيف؟
هناك علاقة وطيدة بين الدين والتقديس، إذ الدين يقوم على دعامات هي عبارة عن أفكار مقدسة. وما تقديس الأفكار إلا عملية (تعمية) غير مباشرة، الغرض منها صيانة هذه الأفكار من نوازع التمرد لدى الإنسان. فالدين يتقاطع مع النقد ليس ـ بالضرورة ـ لأن الدين ككيان يتناقض مع التمرد، لكن ـ بالضرورة ـ لأن الأديان، في أغلب صورها، تمثل المؤسسات المسؤولة عن ضمان تطبيق أفراد المجتمع لكل السلوكيات والأخلاقيات التي يقوم بناء المجتمع عليها. ومثل هذا الضمان لا يمكن خلقه أو تكريسه في شخصيات الأفراد إلا من خلال الإيمان التسليمي غير المبني على الفهم الدقيق. وهو الإيمان الذي يخلقه الدين، ويسوقه من خلال فكرة المقدس، التي هي فكرة متأسسة على الإيمان غير المرتبط بالفهم والرافضة لكل أنواع النقد.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الايمان؟
رشدي علي ( 2009 / 5 / 3 - 02:44 )
يوجد تفسير للالحاد, ولكن لا يوجد تفسير للايمان,رغم ان الثاني اقدم من الاول, حتى المؤمن نفسه لا يستطيع ان يفسر ايمانه, يقول الشافعي: لا احتاج الى القران كله لكي اؤمن بالله, فقط والعصر ان الانسان لفي خسر؟ السؤال هو: مالذي سيقوله الشافعي لو كانت هذه الاية مزيفة؟ هل هذا سؤال محير؟ بالطبع لا, لانه بالتأكيد سيبحث عن شئ آخر ليعزز به ايمانه!
يحيلنا هذا الى غياب العقلية النقدية الذي اشار اليه الاستاذ سعدون في مقاله القيم اعلاه..فسورة والعصر هي نص والنص منذ اختراع الكتابة هو اداة للنقد, سواء كان حركة او جسم او اي شئ ينتج عن تفاعل معين.. اي ان رجلا ما ذو عقلية نقدية كتب نصا ما, ليقرأه رجل آخر ليتلبس بذات الحالة...وعلى هذا الاساس يكون الانثربولوجي (المزيف) مؤمنا بالله او اي اله اخر.
ولكن هل ترتبط عقلية النقد بعقلية العلم؟ حيث المسألة الاخطر وهي غياب العقلية العلمية عند العالم, وهي غير العلم طبعا, ولكي لا اطيل, فانا اجزم انه لا يوجد انثربولوجي (حقيقي) يؤمن بالغيبيات او غير مقتنع بنظرية دارون, او الاهم ايمانه بانه لكل سؤال جواب..اللهم الا ان يكون معدل الاعدادية هو الذي رماه ذلك المرمى!


2 - النشأة
سلمان النقاش ( 2009 / 5 / 3 - 10:20 )
وهذا الكلام يصح ايضا على كافة المجالات الثقافية والعلمية ومن يختص بها فنحن نلاحظ بشكل جلي كيف تتناقض شخصية المثقف الذي يحوي رأسه على مفاهيم حضارية وعلمية مع سلوكياته ومرد ذلك حسب رأيي طبعا الى التطبع السلوكي الذي يفرضه نمط الحركة الاجتماعية الذي نشأ فيه مما يتشكل نوع من الازدواجية بين المحتوى المعرفي والسلوك التلقائي الذي يفضح في المواقف الانفعالية المفاجئة حيث يتعامل المرء بثقافة النشأة وليس بثقافة المحتوى المعرفي المحمول في الرأس نتيجة الدراسة والمطالعة واعتقد ان الاستاذ سعدون يستطيع ادراك ما ارمي اليه بمجرد تذكر بعض سلوكيات من يعرفهم من المثقفين فلا اظن ان يستغرب حين يصادف من يتناول موضوعة الانثربولوجيا بمفرداتها ودهاليزها وهو يرى ان معتقده لا يعلو عليه .. لقد صادفت مرة من اعرفه شيوعيا ويعتقد ان احد رجال الدين قد الف كتابا عن الاقتصاد يفوق امكانية كتاب رأسمال لماركس وانا متأكد انه لم يقرأ الاثنين

اخر الافلام

.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض


.. واشنطن وبكين.. وحرب الـ-تيك توك- | #غرفة_الأخبار




.. إسرائيل.. وخيارات التطبيع مع السعودية | #غرفة_الأخبار


.. طلاب بمعهد ماساتشوستس يقيمون خيمة باسم الزميل الشهيد حمزة ال




.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟