الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة في التراث ....

شامل عبد العزيز

2009 / 5 / 9
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


متى يعيش الإنسان ثقافته ؟
متى يكون لها كيان مستقل بذاته قائم برأسه ولا شأن له بحياة الإنسان كما يحياها كل يوم ؟
ولكن أولاً ماذا تعني الثقافة ؟ ليختار القارئ العزيز ما يشاء :
طريقة العيش في شتى نواحيه .
أو مجموعة القيم التي توجه الإنسان وتسيره وتقدم له المعايير التي يوازن بها بين الأشياء والمواقف ليختار .
أو مجموعة العلوم والمعارف وأحكام العرف والتقليد .
أو لتقتصر على ما يتصل بالذوق وحده دون العقل من أدب وفن .
ذلك كله لن يؤثر في الفرق بين أن تكون الثقافة بأي معنى أخذتها سارية في جسم الحياة العملية وبين أن تجعلها موضوعاً للدراسة العلمية النظرية التي لا تمس حياتك العملية في كثير أو قليل .
شاهد الناس من حولك تدرك من سلوكهم أي ثقافة يعيشون ..
إننا نعيش ثقافتنا في كل ما تراه من تفصيلات احتفالاتنا بمناسبات الميلاد والزواج والموت .ذلك حين تكون الثقافة المعينة منسابة في عروق الناس مع دمائهم فحياتهم هي ثقافتهم . وثقافتهم هي حياتهم . لا حين تنسلخ عن الحياة ليضطلع بها محترفون يطلقون على أنفسهم اسم ( المثقفين) . لا يحدث الانسلاخ إلا حين تكون الثقافة وافدة إلى الناس من خارج لا منبثقة من نفوسهم ..
يقول هربرت ريد : لم تكن عند اليونان الأقدمين كلمة خاصة تعني ثقافة لأنه لم تكن هناك المجموعة الفكرية القائمة بذاتها والتي تستحق أن تستقل وحدها بلفظة تسميها .
كانت الثقافة كاللغة تدور بين الناس . دون أن يشعروا لها بوجود خاص . أما حين أخذ الرومان ثقافة اليونان أصبحت ثقافتهم كياناً قائماً وحده متميزاً بخصائص فأوحى ذلك لهم بان الثقافة كالسلعة يستوردها القوم أو يصدرونها . ولما صنع الرومان ثقافتهم الخاصة واخذوا يقيمون لأنفسهم إمبراطورية حملوا ثقافتهم معهم وأرادوا فرضها على الشعوب .
وجاءت العصور الوسطى التي سادها الدين فعادت الثقافة كما كانت قبل عهد الرومان جزءاً من الحياة العملية وفقدت استقلالها الذي يجعلها كالسلعة يتفرد بها فريق من الناس دون غيره .
عادت الثقافة لتكون هي طريقة الحياة ووجهة النظر وأساس العمل والسلوك . كان الناس في العصور الوسطى يحملون ثقافتهم وكأنهم يحملون الهواء الشفاف يستنشقونه وهم لا يشعرون بوجوده . وذهبت العصور الوسطى وجاء عصر النهضة الأوربية ومعه بدايات الاستعمال الجديد لكلمة ثقافة . وهو الاستعمال الذي يشيع بين جماعة المتعلمين ومع الثورة الصناعية جعلت الثقافة تزداد انسلاخا عن دنيا العمل .
الناس يعبرون عن ثقافتهم في مواقفهم من الحياة العملية حين يندمج الطرفان في كيان عضوي واحد عندئذ لا تنشأ أمام الفكر مشكلات لان طرق السلوك ممهدة مرصوفة بالعرف والتقليد إنما تنشأ المشكلات حين تحدث فجوة وتتسع بين الثقافة الجارية من جهة ومواقف جديدة من جهة أخرى اقتضتها حياة جديدة لم يألفها القوم . فعندئذ لا استجابات العرف والتقاليد تكون ملائمة وكافية ولا الناس يملكون الطرق الجديدة التي يواجهون بها الجديد .
للنظر إلى حياتنا اليوم وما تواجهنا به من مشكلات أساسية لم يعد يصلح لها ما قد ورثناه من قيم مبثوثة في تراثنا لسبب بسيط هو أنها لم تكن هي نفسها المشكلات التي صادفت أسلافنا حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها الحلول .
وعلى رأس هذه المشكلات مشكلة الحرية بمعناها السياسي ومعناها الاجتماعي وهما المعنيان اللذان تدور حولهما أرجاء الحياة المعاصرة معظمها إن لم يكن جميعها . وهما كذلك المعنيان اللذان لم يكونا موضع النظر عند الأقدمين
فقد كانت فكرة الحرية تنصرف عندهم إلى المعنى الذي يقابل الرق فالفرد من الناس إما أن يكون حراً ذا حقوق وواجبات وإما أن يكون عبداً مملوكاً لغيره . فلا حقوق له إلا ما يأذن له به مولاه . وكل ما يأمره به مولاه هو واجب محتوم .. فأولاً قد زالت هذه التفرقة ولم يعد أمامنا إلا مجموعة من المواطنين هم أنفسهم مجموعة من الأحرار ثم أتسع المعنى .. ثانياً .ليشمل جوانب جديدة لم تعرفها الحياة القديمة وهي الجوانب السياسية التي من شانها أن تقام الحكومة بانتخاب المواطنين إما بطريق مباشر أو غير مباشر على الصورة التي نألفها . على اختلاف أشكالها في الدول الحديثة . لقد كان يسيراً علينا . أعني أبناء الأمة العربية في مختلف أقطارها أن نقفو أثر أوربا وأمريكا فيما اصطنعوه من أنظمة للحكم تكفل للمواطنين أن ينتخبوا من يمثلونهم أمام من تسند إليهم مناصب الحكم . بحيث تكون السلطة كلها في نهاية الأمر للشعب فإذا رضي عن الحكومة أبقى عليها وإذا سخط عمل على إزالتها في غير حاجة إلى معارك ومذابح وتعذيب وسجن وتشريد . لا من قِبل الحاكم ولا من قِبل المحكوم . أقول إن نقل الأنظمة كان يسيراً علينا من الوجهة النظرية الشفوية . وهل يتعذر أن ننتقي عدداً من المواد نجمعها في بضع صفحات لنقول هذا دستورنا الذي يكفل لنا الحرية في حكم أنفسنا بأنفسنا عن طريق الذين نختارهم لينوبوا عنا في كل ما نهتم له من شئون التشريع والقضاء والإدارة .
لكن الفجوة فسيحة وعميقة بين أنظمة كهذه تصون للناس حرياتهم السياسية وبين صورة ورثناها فيما ورثناه من السلف .. فعلى طول التاريخ العربي ندر وكدت أقول استحال لولا أني تعمدت الحيطة في الصياغة .. ندر أن زالت حكومة لأن الشعب المحكوم بها لم يعد يريدها . فهنالك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير . أخذ الحكم وراثة أو أخذ عنوة وفي كلتا الحالين لا يزحزحه عن أريكته إلا غدر أو قتل أو سجن أو ما رأيت من سبل تكون في وسع المتآمر عليه فلا الشعب اختار ولا الشعب يملك حق العزل . ولا القلة ممن لهم الصدارة في المجتمع يستطيعون بإزاء الأمر الواقع شيئاً إلا الطاعة أو العصيان والمؤامرة .
ووجدنا أنفسنا في عصرنا هذا بين هذين الطرفين : أنظمة الحكم التي تكفل الحرية للشعب ننقلها على الورق ثم صورة موروثة تخلع على الحاكم صفات الخليفة أو الأمير بالمعنى التاريخي القديم . يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بغير حساب . ومن ثم نشأت أمام المفكرين مشكلة المطالبة بتحقيق الحرية السياسية تحقيقاً يجاوز الكتابة على الورق . ليصبح سلوكاً جارياً في صلب الحياة التي نحياها كل يوم .
وشاء لنا القدر الغشوم أن نستيقظ لنجد أنفسنا في قبضات المستعمرين فكان من الطبيعي أن نوجه الطاقة الثائرة كلها أولاً نحو هؤلاء المستعمرين لنتخلص من قيودهم ثم ننصرف بعد ذلك لتنظيم البيت ما دمنا قد أصبحنا سادته
مشكلة الحرية السياسية إذن هي على رأس مشكلاتنا المعاصرة ولن أجد في التراث حلولاً لها لا بل إنها إنما نشأت أساساً بسبب الفجوة الفسيحة العميقة التي تباعد بين أنظمة الحكم في العصر الحديث والصورة التي ورثناها عن الحاكمين وما يحيط بهم من جاه وسلطان وهيل وهيلمان .
في المقالة القادمة سوف يكون الكلام عن الحرية الاجتماعية والمرأة وعصر العلم والصناعة .
أتمنى أن يكون اختيارنا مؤفقاً لتوضيح معنى التراث على ضوء قيم العصر الحديث ..












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الإنتاج الثقافي كسلعة نبيلة
مختار ( 2009 / 5 / 8 - 21:39 )
أحب هنا أن أتطرق إلى جانب من الموضوع أراه في غاية الأهمية، رغم بعض الابتعاد عن صميم موضوعك، فمعذرة.
أحب أن أتطرق إلى علاقة المثقفة بإنتاجه وبالسلطة .
في العهود العربية وغير العربية القديمة، بمختلف عصورها، كان المثقف، شاعرا أو أديبا أو فقيه، ينتج ثقافة ويتوجه بها إلى الحكام والأمراء والأعيان فيدفعوا له من المال حسب درجة رضاهم عما أنتج.
المثقف إذن، بهذا المعنى كان منتج سلعة يراعي فيها مدى تلبيتها لحاجات المستهلك ورغباته وحتى نزواته، خاصة في ظروف كان القراء نادرين، وكانت إمكانيات النسخ ضعيفة ومكلفة لا يتمكن من اقتناء الكتاب معها إلا المترفون.
المثقف في العصور القديمة لم يكن حرا في التفكير والتعبير، إلا إذا فضل الفقر والإقصاء. وقديما قيل عمن ابتلي بالفقر (أصابته حرفة الأدب)
مع ذلك ظهر هنا وهناك رعاة الثقافة الذين كانوا يشجعون المبدعين ويجزلون لهم العطايا ويمنحونهم قدرا كبيرا من الحرية.
مع مجيء العصور الحديثة وتعميم التعليم واختراع الطباعة وتدني مستوى تكاليف الطبع ازداد عدد القراء وظهر إلى الوجود نوع جديد من القراء القادرين على استهلاك هذه البضاعة النبيلة والقادرين على دفع أتعاب المنتج (الكاتب).
من هنا بدأت مسيرة الكاتب المنتج للثقافة نحو طريق الاستقلال عن السلطة، بل


2 - الوعي قبل الثقافة .
ياسمين يحيى ( 2009 / 5 / 8 - 23:22 )
راوي العقول أنت ياشامل - ياتلميذا لوفاء وصلاح وكامل - (مع حفظ الالقاب) صباحك سكر استاذي شامل .. قرأت هذه العبارة قبل قليل للاستاذ صلاح الدين ورأيت أنها تناسب مقالك الرائع وهي :( الوعي قبل الثقافة .كثير من الوعي وقليل من الثقافة افضل ) أي أن الوعي أهم من الثقافة ./ تحياتي المعطرة برائحة الخزامى ارسلها اليك من الرياض الى بغداد أستاذي الشامل لكل جميل ورائع..


3 - نعم
علي ( 2009 / 5 / 9 - 00:25 )
موفق في اختيارك وجهدك ياسيد شامل


4 - كل شيء قابل للنقد و التغير
وائل الياس ( 2009 / 5 / 9 - 04:58 )
أوافقك الرأي أستاذ شامل، فالسلوك (أيا كان مصدره و كنهه ) الذي كان مستهجناً و غريباً في الماضي أصبح الأن سلوكاً مقبولاً و طبيعياً، و قس على ذلك الكثير، و أهمها مفهوم الحرية، فكما ذكرت أن تحرير العبيد لم يعد غاية مرجوة الأن. لأن مفهوم العبودية لم يعد موجوداً أصلاً، و كذلك الأمر بالنسبة لعدة مفاهيم أخرى ، و لكن المشكلة تكمن في الذي يرى أن لديه حلاً يناسب كل زمان و مكان،فقط لأنه يأخذ شرعيته من الله الذي ربما يكون غير موجود أصلاً، فكيف السبيل لإيصال فكرة كهذه لأصحاب العقول المتحجرة من جميع الملل و الأديان السماوية و الأرضية و الفضائية

تحياتي لشخصكم الكريم


5 - استفسار
maron ( 2009 / 5 / 9 - 08:35 )
هل انت تلميذ ل وفاء وصلاح وكامل؟ ارجوا الاجابه


6 - تعقيب
شامل عبد العزيز ( 2009 / 5 / 9 - 11:45 )
الأستاذ مختار سوف يكون لنا وقفة حول ما طرحته كم أتمنى أن تكتب حول الموضوع في مقالة مستقلة لغرض الفائدة . السيدة ياسمين شكراً جزيلاً على الاطراء مع الاحترام .الأستاذ علي أتمنى لك التواصل تعليقك الثاني سوف لن يظهر مع التقدير الأستاذ وائل شكراً على المتابعة رغم انشغالك أتمنى لك التوفيق الأستاذ مارون . أنا أتشرف أن أكون تلميذاً صغيراً جداً لكل كاتب وصاحب تعليق في موقع الحوار المتمدن وعلى رأسهم أنت سيدي مارون . مع الود .. محبتي للجميع . أتمنى التواصل مع الاعتزاز بالجميع .


7 - ثقافة التداوي بمخلفات البعير لا تصلح للتغيير
جحا القبطي ( 2009 / 5 / 9 - 14:43 )
إستاذ شامل المثل يقول الطبع غلاب ..تناقشت مع شخص تخرج بكلية حقوق جامعة الأسكندرية وتشعب نقاشنا عن مدي ما خربته الوهابية بمصر وأفهمته أنني أطلع علي ما أريد معرفته بطريق النقر علي جوجل وقلت له ماذا تريد أن تعرفه مثلا ؟هل تريد معرفة زوجات النبي وكيف تزوجهم و... إنقر علي جوجل وهو يفيدك ويزيد من معرفتك وقلت له اليوم لا إله إلا جوجل فهو يعلم بكل الخبايا وفجأة نظر إلي بتحد وقال لي من هذا الجوجل ؟وماهي جنسيته ؟وما هي... ؟؟وإندهشت ..و أجيبه يا سيدي جوجل موتور للبحث وليس شخص فعلي يكتب ما يشاء بل هو يساعدنا علي البحث و التوصل إلي ما نريد دون مجهود ونظر صديقي إلي بريبة مستنكرا معرفة هذا الجوجل بقصص وحكايات زوجات النبي هذة عينة من عينات ثقافة متعلمي خير أمة وهكذا صديق لي مهندس زراعي وآخر محاسب ومدرس للغة العربية أيضا وفي المقابل عندما أتناقش مع أوروبي ربما محصلة دراسته أقل من بكالوريوس أو ليسانس أجده أكثر إلماما بكل ما يحيط حوله؟؟


8 - طھط¹ظ„ظٹظ‚ ط®ط§طµ
ظٹط§ط³ظ…ظٹظ† ظٹط­ظٹظ‰ ( 2009 / 5 / 9 - 15:38 )
ظ‡ط°ط§ ط§ظ„طھط¹ظ„ظٹظ‚ ط®ط§طµ ظ„ظƒ ظˆظ„ظٹط³ ظ„ظ„ظ†ط´ط± .. ط§ط³طھط§ط°ظٹ ط§ظ„ط¹ط²ظٹط² ط´ط§ظ…ظ„ ط§ظ†ط§ ظ„ظ… ط£ظ‚طµط¯ ط¨ط£ظ†ظƒ ط§ظ‚ظ„ ط´ط£ظ†ط§ ظ…ظ† ط§ظ„ظƒطھط§ط¨ ط§ظ„ط°ظٹظ† ط°ظƒط±طھظ‡ظ… ظˆط£ظ†ظ…ط§ ظ‚طµط¯طھ ط£ظ†ظƒ ط¨ظ…ط«ظ„ ظپظƒط±ظ‡ظ… ظˆظ‚ظˆط© ظ‚ظ„ظ…ظ‡ظ… ظˆط§ط¨ط¯ط§ط¹ظ‡ظ… ظˆط£ظ†ظƒ طھظ„ظ…ظٹط°ظ‡ظ… ظ„ط£ظ†ظƒ ط§طµط؛ط± ظ…ظ†ظ‡ظ… ط¹ظ…ط±ط§ ظˆظ„ظٹط³ ظ‚ط¯ط±ط§ .. ط£ط´طھظ‚طھ ظ„ظƒ .. ط±ط§ط­ ط§طھطµظ„ ظپظٹظƒ ط¨ط¹ط¯ ط´ظˆظٹ ظپظٹ ظˆظ‚طھ طµظ„ط§ط© ط§ظ„ظ…ط؛ط±ط¨ .. ظ„ط§طھظ†ط³ظ‰ ط§ظ„طھط¹ظ„ظٹظ‚ ظ„ظٹط³ ظ„ظ„ظ†ط´ط±. ظ„ظƒ ط£ظ†طھ ظپظ‚ط· ..


9 - . شكراً جزيلاً أخي جحا القبطي
شامل عبد العزيز ( 2009 / 5 / 9 - 15:43 )
لا علاقة للتحصيل العلمي وهذا مؤكد في الفهم فالاختصاص العلمي شيء وفهم ما يجري وما جرى شيء أخر . فأنت تجد الكثيرين ممن يحملون الشهادات العليا في تخصصهم ولكنهم لا يعرفون كيف يتحدثون مع المرأة أو كيف قراءة التاريخ أو ما هو الفرق بين الماضي والحاضر على وفق المعطيات وهكذا

اخر الافلام

.. رئيس التيار الوطني الحر في لبنان: إسرائيل عاجزة عن دخول حرب


.. مراسلتنا: مقتل قائد -وحدة عزيز- في حزب الله باستهداف سيارته




.. حرب غزة حاضرة في مشهد الانتخابات العامة البريطانية


.. سرايا القدس: استهداف آلية عسكرية إسرائيلية في مدينة رفح جنوب




.. الجيش الإسرائيلي يعلن مسؤوليته عن اغتيال القائد العسكري في ح