الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعترافات آخر متصوفة بغداد* (الحلقة الأولى)

سعدون محسن ضمد

2009 / 5 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كنت نبياً
هل يمكن لأحد أن يترجم تجاربه ذات الطابع الشعوري (الذوقي)، ويضعها بقوالب تعبيرية لا تهتك برائتها ولا تخدش حيائها؟ هل يمكن تحويل المشاعر لكلمات؟ هل يمكن قول ما لا يمكن قوله؟ أن تُحِبَّ إنسان ما، يعني أنك تمر بتجربة وعي لا يمكن التعبير عنها بشكل دقيق، فقولك أنك تُحِبُّه لا يكشف المعانات الشعورية التي تمر بها، ولذلك لا يدرك من يسمع الكلمة التي استخدمتها للتعبير عن تجربتك تلك، أي شيء يتعلق بدفق المشاعر والأحاسيس التي شكَّلت الخلفية الذوقية لها.
هل يمكن لأحد أن يصف الطعم المر مثلاً؟ أو الحلو أو المالح أو الحامض؟ ماذا يمكن أن نقول إذا أردنا أن نصف طعم فاكهة ما لإنسان لم يتذوقها؟
صحيح أن الإجابة على هذه الأسئلة يجب أن تكون نسبية باعتبار أنها تتعلق، من جهة، بمدى رهافة التجربة المراد نقلها وعصيانها بالتالي على الترجمة، وتتعلق، من جهة أخرى، بقدرة الناقل أو المترجم وبراعته بالنقل. لكن تبقى عملية التعبير عن التجارب (الإحساسية) معاقة، مهما كانت الأحاسيس والمشاعر قابلة للوصف أو كان الناقل قادراً على التعبير بشكل دقيق.
تجربة النبوة تجربة من هذا النوع.. هي تجربة ذوقية خاصَّة جداً ولا يمكن سردها، وبالنتيجة لا يمكن أن تَعْرِف معنى أن يكون إنسان ما نبياً، إلا إذا صادف وكنت أنت نبياً.. كل الكتابات والدراسات والبحوث التي حاولت أن تقترب من فكرة النبوة وتوابعها لم تفلح، كل المقاربات النفسية والاجتماعية والانثروبولجية، كانت بعيدة عن سر النبوة ورحمها الخافق بالسحر. النبوة تجربة ذاتية يعجز صاحبها عن الكشف عن كوامنها فكيف بغيره؟ وإذا أراد النبي أن يسرد نبوته فإنه سينتهك برائة هذه النبوة، ذلك أن إعلان سر النبوة بمثابة قتل له في الحقيقة، وليس أدل على ذلك مما أفعله أنا بهذه الاعترافات، فلست أفعل شيئاً أكثر من تعريض تجربة خاصَّة من تجارب النبوة للتهكم والسخرية والاستخفاف.. النبوة سر يجب كتمانه، ليس لأنها شأن يستحق الكتمان، بل لأنها أمر لا سبيل لإعلانه.
القرآن، كما التوراة والأنجيل، كلمات لم تكشف عن سر النبوة.. هذا إذا كانت في حقيقتها معنيَّة بموضوع الكشف. ولذلك لا اليهود يعرفون، ولا المسيحيون ولا المسلمون، معنى النبوة..
لو كان اليهود يعرفون معنى أن النبوة تشرد، لما صلبو يسوع المسيح. ولو عرف المسيحيون أن كون النبوات عضيمة لا يتعارض مع احتوائها على الجريمة، لما أعرضو عن نبوة محمد. ولو عرف المسلمون معنى أن النبوة باب لا يحق لأحد إغلاقه، لما كذَّبو الحلاج ومن ثم صلبوه.
النبوة فوق ذلك فن في الإصغاء، وليس لها ارتباط مهم بالإلقاء. شرط النبي أن يكون سامعاً، فإذا تكلم فإنه سيعلن على لا أحد، وعن لا شيء.. لا شي يمكن قوله مما له علاقة بالنبوة. وكل ما أعلنه الأنبياء وادَّعو أن له علاقة بنبوتهم هو محض افتراء، أو تخف أو وهم. وهذا ما أريد أن أقوله، وما سأسرده منذ الآن..
ما سأتلوه عبر رحلة التدوين هذه، عبارة عن خبرة شخصية، وهي مع أنها تتحدث عن امتلاك ناصية النبوة، إلا أنها حقيقية تماماً.

لكنني لم أَعُد كذلك
لقد كنت نبياً في يوم من الأيام، هذه حقيقة لا أقولها بوصفها كفاءة أو ميّزة، بل اعترف بها كونها خطيئة يجب الاعتراف بها ومن ثم كشفها كما يليق بتجربة إنسانية يجب أن تكشف لتكون بمتناول التراكم المعرفي الإنساني. لكن السؤال المحرج هو: هل يمكن الكشف عن تجربة النبوة، التي هي في النهاية تجربة أحاسيس ومشاعر؟ وهذا السؤال يتضمن سؤالاً آخر، أو هو ينقلب بالأحرى لسؤال آخر يقول: هل يمكن إثبات دعوى النبوة؟ خاصَّة وأنها تجربة ذاتية تبدأ من الذات وتنتهي إليها؟..
لا بالتأكيد. لا يمكن كشف تجربة النبوة، ولا يمكن بالتالي إثباتها...
إذن فما جدوى الاعتراف؟
أعتقد أن الجدوى تكمن بنفس الإدعاء، فادعاء أنني نبي يخولني أن أكون أقدر من غيري على تفسير النبوة، تفسير أحوال الأنبياء وأقوالهم، وتحديد المواطن التي كانو فيها منسجمين مع ذاتهم، وتلك التي كانو فيها منشقين عليها وعلى نبوتها. أو تحديد متى كانوا متوهمين ولماذا كانو مضطرين لأشياء كثيرة، ليس أخطرها الكذب.
بالتأكيد لن تكون تحليلاتي موجهة لتجربة نبوية محددة.. أنا لا أقصد نبياً بعينه، ولا نوعاً محدداً من أنواع النبوات ـ والنبوات متعددة بتعدد الأنبياء ـ وما سأقوله قد يصدق على الحلاج وابن عربي، وعلى محمد والمسيح، وعلى بوذا وزرادشت.. وقد لا يصدق.. ففي النهاية لا يملك الحكم على يقينية الإِخبار عن الحقيقة إلا الحقيقة نفسها.
إذن أنا أدعي بأنني خضت غمار تجربة أن أكون نبياً. مررت بهذه المحطة، زرتها، تمرغت بترابها، واكتشفت شيئاً فشيئاً مقدار ما بها من سحر وجمال وإتقان، وأيضاً مقدار ما بها من وهم، نعم وهم كبير يكمن بالنبوة، بل ويكاد أن يتحول لساحرها الكبير والعظيم. ولا يستطيع النبي أن يفرق بين أوهام إلهامات النبوة وبين حقائقها، إلا بعد أن تفشل محاولات التعالي التي تقوم عليها تجربة النبوة في إيصال النبي لمديات من الإدراك والفعل تتجاوز ما تسمح به بشريته. وهكذا يضطر النبي إلى العودة لبشريته، معترفاً بأخطائه وجهله وكامل نواقصه. ما يُمَكِّنه من أن يدرك، وبعيني خبير، أين كان واهماً وأين كان عالماً.
بعبارة أخرى: النبوة تجربة تقوم على عقيدة تؤمن بقدرة الإنسان على تخطي ممكناته البشرية، ولأنها كذلك يعتقد النبي أن له الحق بأن (يتألهن) خارجاً من قيد الإنسانية إلى إطلاق الإلوهية. وهكذا يسعى بكل جهده لتحقيق هذا (التألهن)، لكن حلم (الألهنة) لا يمكن تحقيقه، الأمر الذي يضطر النبي في النهاية إلى الإقرار بأن طوق البشرية محكم عليه بصورة مطلقة، شأنه شأن بقية البشر، وهكذا ينهار الإله فيه ويبقى الإنسان فقط. النبي يستخدم كلام الرب فقط، لكنه لا يستطيع استخدام سيفه ولا قوته ولا جبروته، هو يسعى لذلك، لكن سرعان ما يكتشف بأن الأمر مقتصر على الكلام، ما يدفعه بعد ذلك للتشكيك حتى بهذا الكلام، وربما الكفر به.
بعبارة ثالثة: أنا لا أقول أن اكتشافي لأوهام النبوات هو الذي دفعني لهتك سرها. لكنَّ خوفي وقلقي من أن أتحول لمحراب آخر من محاريب الوهم ـ التي تعمل على تشتيت تجربة الوعي البشري ـ هو الذي يدفعني دفعاً، للاعتراف بأن دين النبوة، ذلك الدين الساحر والمغامر والفعّال، هو دين بشري من ألفه إلى يائه، ما يعني أنه مريض بكل أمراض الضعف التي تصيب تجارب البشر.
النبوة اتصال ذاتي بين بشرية الإنسان وبين ألوهيته، وهي وفق هذه الرؤية تجربة حوارية داخلية شخصية يحاور من خلالها النبي ذاته ويسمع صدى تأملاته، وكلما كانت هذه الذات قابلة للتضخم، كان النبي قادراً على تصديق (التألهن) وتحقيقه، لكن الغريب بالأمر أن (الألهنة) حالة لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، إلا إذا كان (المتألهن) مجنوناً تماماً، والسبب هو أن إدعاء (الألهنة) سيطرح، عاجلاً أم آجلاً، على النبي إمكان تحقيق ألوهيته على الأرض. وسيطالبه هذا الإدعاء بأن يخرج من قدر الإنسان إلى قدر الإله، لكن هل يمكن ذلك؟ هذا ما يحاول النبي جاهداً أن يجيب عليه، خلال رحلة النبوة، فيسعى جاهداً للتغلب على مصاعب بشريته بقوة ألوهيته، لكنه يتفاجأ المرة تلو الأخرى بأن الشعور بالألوهية والإحساس بها شيء، وتحقيقها على الأرض شيء آخر. أما كيف يرضخ النبي لهذه الحقائق وكم يستغرق هذا الرضوخ، فهذا ما ستتكفل بإيضاحه سلسلة الاعترافات هذه.
إذن الجدوى من ادعاء النبوة تكمن بنفس الادعاء. فهو لوحده إنجاز يكشف عن ثقة عالية بالتجربة المدَّعاة، من جهة، ومن جهة أهم، يساعد، إذا بقي خالياً من أي غاية، في الكشف عن بعض الظواهر المحيطة بالنبوة، واؤكد، المحيطة بالنبوة، وليس نفس النبوة، فالنبوة كما قلت لا سبيل إلى الكشف عن حقيقتها.. فقط لأنها تجربة أحاسيس ومشاعر.
ليست النبوة نعمة، وهذا لا يعني بأنها نقمة بأي حال من الأحوال، لكن من الضروري الالتفات إلى أنها دوامة وعي يغرق بها فكر الإنسان وقد لا يخرج منها إلا مُعاقاً.
النبوة تجربة وعي، هذه حقيقة يجب عدَّها نقطة دلالة مهمة نرجع إليها كلما احتجنا إلى ذلك خلال رحلة الاعتراف التي نحن بصددها الآن. (النبوة تجربة وعي ذاتي).. حسناً، لنجعل من هذه الجملة القصيرة خطوتنا الأولى للإبحار ببحر النبوة الساحر والمكتظ بالضياع.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
* ليست هذه الحلقات رواية بالتأكيد، مع أن فيها الكثير من السرد، وعذري أن الذي اعترف بهذه الاعترافات، اشترط علي أن اسردها كما قالها هو، ما أمكن؛ يقول: لأن تجربة النبوة حساسة لدرجة تحتم علينا التعامل مع اعترافاتها بحساسية كافية.. إذن فهذه الكلمات هي ما استطعت الاحتفاظ به، وما أحاول إيصاله، من سرديات خاصَّة توثق اعترافات، آخر متصوفة بغداد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - محاولة رائعة
المتابع ( 2009 / 5 / 16 - 19:15 )
مدخل حواري رائع يسرنا قراءة باقي الحلقات نحن بالانتظار وشكرا

اخر الافلام

.. القضية الفلسطينية ليست منسية.. حركات طلابية في أمريكا وفرنسا


.. غزة: إسرائيل توافق على عبور شاحنات المساعدات من معبر إيريز




.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كاليفورنيا لفض اعتصام مؤيد


.. الشرطة تقتحم.. وطلبة جامعة كاليفورنيا يرفضون فض الاعتصام الد




.. الملابس الذكية.. ماهي؟ وكيف تنقذ حياتنا؟| #الصباح