الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحرية القرطاجية : بين التفوُّق التجاري والتقني من جهة والضعف العسكري الاستراتيجي من جهة أخرى

العربي عقون

2009 / 5 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إذا كان هناك شبه إجماع على أنّ تأسيس قرطاج كان حوالي 814 ق.م. ، فإنّه ليس هناك بعد ما يدعّم هذا الإجماع من الجانب الأركيولوجي، لأنّ أقدم الآثار المكتشفة بموقع المدينة لا يتعدّى سنة 750 ق.م. .
كانت قرطاج محطّة تجارية لجالية فينيقية من صور، ومنذ القرنين السابع والسادس ق.م. أخذت تنمو حتّى تفوّقت على كلّ المراكز الفينيقية الأخرى في غربي المتوسّط وانتزعت التفوّق من منافستها التقليدية أوتيكا، ومنذ سنة 540 ق.م. أصبحت كلّ المحطّات التجارية على امتداد الساحل الأفريقي والإيبري وفي سواحل الباليار وسردينيا وغربي صقلية مرتبطة بقرطاج.
من الطبيعي أن تكون قرطاج أهمّ ميناء في البحر المتوسّط، بقدر ما كانت أهمّ قوّة بحرية تجارية، وكان ميناؤها أهمّ الموانئ المتوسّطية وأكثرها تطوُّرا، على امتداد القرنين السابع والسادس ق.م. على وجه الخصوص .
لعلّ ظهور بنية تحتية متخصّصة في قرطاج يدلّ على أنّها سبقت غيرها في هذا المجال، وهذا بإنشائها ميناءين أحدهما للسفن التجارية والآخر للسفن الحربية .
01-الميناء التجاري :
لا نعرف بدقّة متى أنشئ هذا الميناء واحتمالا أنّ نواته الأولى تعود إلى تاريخ تأسيس المدينة ذاتها ، ولكن التخصّص سيكون بعد ذلك بكثير ، فقد حُفر الميناء داخل الشاطئ بواسطة أعمال حفر كبيرة،بحيث تمّت إزالة ما مقداره120000م3 من الأتربة والصخور ممّا سمح بتوسيعه.
يقع الميناء التجاري جنوبي الميناء الحربي وكان في البداية ثلاثي الأضلاع ولكن بعد أعمال التوسيع أصبح سداسي الأضلاع ولا تزال آثار هذا الشكل بادية في البحيرة الشاطئية (Lagune) التي يصل قطرها إلى 600 م ، والميناء التجاري هو وحده المتّصل بالبحر ، ويصل بين الميناءين قناة عرضها 20 م ، ويفصل بينهما جدار عال مزدوج يخفي وراءه الميناء الحربي عن الأعيُن، كما يوجد جدار دفاعي آخر شرقي الميناءين لحمايتهما من أيّ عدوان قادم من جهة البحر.
02- الميناء الحربي :
يتّسع لعدد كبير من السفن ، محيطه 325 م تتوسّطه جزيرة دائرية محيطها 120 م والكلّ يساوي أربعة هكتارات ، فقد كانت أغلب قطع الأسطول البوني من القوادس (Galères) التي يصل طولها إلى 40 م. وقد هُيّئ ساحل البحيرة وساحل الجزيرة لرسو السفن وأقيمت فيه سلسلة من الأرصفة المغطّاة كأنها حجرات (Rampes couvertes) يتمّ الصعود إليها عبر طلعة خفيفة ، فقد كان الصنّاع يجرّون السفن عبره إلى اليابسة بزحلقتها على ركائز مرتّبة وهذا لأغراض الصيانة ، وفوق تلك الأرصفة المغطّاة طابق يحتوي على مخازن للمعدّات ولوازم السفن وترسانات تسمح بتجفيف الأشرعة وعدّة السفن بتعليقها على عوارض السقف (Poutres) .
يبلغ عرض مدخل حجرة السفينة 6 أمتار مزيّنة برواق من الأعمدة اليونية المنحوتة من الحجر الرملي (Grés) وبطلاء من الجصّ الأبيض (Stuc blanc) ، وتمّت تهيئة الجزيرة وشُيِّد عليها مبنى مقرّ الأميرالية وبرج مراقبة ، وأحيطت بسور متين .
ينتهي الميناءان بمساحة مستوية أنشئت من الردوم التي استُخرجت أثناء أشغال الحفر ، ولا تزال آثارها بادية مع أنّ المياه غمرتها ، وقد أقيمت عليها أرصفة مخصّصة لتوقّف السفن العابرة لتتمكّن من تفريغ حمولتها التجارية .
لقد كانت البنية القاعدية لهذين الميناءين تامّة وقد تتبّع الأثريون البريطانيون الذين أتمّوا الحفريات الأثرية به ، المعلومات التي سجّلها المؤرّخ الإغريقي أبيان وتمكّنوا من تكوين صورة عن الميناء الحربي أمّا الميناء التجاري فلم يحظ بعناية كبيرة من قبلهم .

البحرية القرطاجية في مواجهة البحرية الرومانية :
كان نمو مصالح قرطاج التجارية سببا في ظهور أطماع في ثرائها تجاوزت منافسيها التقليدي وهم الإغريق إلى منافسين جدد ناشئين هم الرومان، وكان على قرطاج لمواجهة هذا الوضع الخطير أن تنشئ قوّة حربية بحرية من سفن ومعدّات وموانئ ... .
كانت قرطاج قد وجدت في الأترسك خلال القرن السادس ق.م. حليفا استراتيجيا ضدّ الإغريق في شرقي صقلية(1)، وكان لقرطاج حينها أسطول يتكوّن من 60 مركب(Navires) ، و 60 سفينة كبيرة (Escadres) و20 سفينة صغيرة (Vaisseaux) (2). وحسب ديودور فإنّ الحملة البحرية التي قادها هاميلكار ضدّ الإغريق في صقلّية سنة 480 ق.م. كانت تتكوّن من 200 سفينة حربية ، وهو رقم يمثّل احتمالا حجم القوة البحرية القرطاجية ، دون الأخذ في الاعتبار السفن المعدّة للنقل والوحدات الصغيرة ، أمّا أبيان فسجّل أنّ عدد قطع الأسطول الحربي البوني في منتصف القرن الثاني ق.م. (أي خلال الحرب البونية الثالثة) بلغ 220 قطعة(3) .
بزوال الملكية في روما وقيام النظام الجمهوري الأرستقراطي بها ، تغيّرت السياسة وأصبحت روما تتطلّع نحو التوسُّع وطبيعي أن تصطدم بقرطاج ، وحسب رواية لبوليب (4) فإنّ الرومان استولوا سنة 261 ق.م. على سفينة خماسية قرطاجية في مضيق مسينا واتّخذوها نموذجا للسفن التي صنّعوا منها وحداتهم الأولى ، وقد اعتبر بريسون (5)هذه الرواية غير موثوق منها لأنّ الرومان قبل ذلك بنصف قرن كانوا قد استعانوا بخبرة صنّاع تارنت (Tarente) المهرة ولم يكونوا في حاجة إلى تقليد الصناعة القرطاجية،والحال أنّ استنتاج بريسون ضعيف لأنّ الخماسية القرطاجية كما يقول لانصال(6) كانت آنذاك سيّدة البحر وكان الرومان في أمسّ الحاجة إلى تصنيع نماذج منها ، ويجرّنا الحديث عن الخماسية البونية إلى معرفة سرّ تفوُّق تلك السفينة ، فمن حيث الحمولة كانت تتّسع لنقل 300 شخص ، ولها خمسة صفوف من الجذّافين ، أمّا الثلاثية الكلاسيكية فلا يتعدّى طولها 35 م وعرضها 5,50 م. وتحتوي على ثلاث طبقات للتجديف(7).
إنّ ما حدث في مضيق مسينا يمكن أن نسمّيه بلغة العصر جوسسة صناعية وأنّ القرطاجيين ذهبوا ضحية تلك الجوسسة (8) فقد نجحت روما في تقليد الصناعة البونية ثمّ تفوّقت في بضع سنوات في مجال صناعي كان خاصّا بقرطاج ، وما أضافه الرومان هو نقل تاكتيك الحرب البرّية التي برعوا فيها إلى الحرب البحرية وهذا بفضل تزويدهم لسفنهم بأداة للقبض على سفينة معادية ومهاجمتها تسمّى : الغراب (Corbeau) وهي الأداة التي سمحت للقنصل دويليوس بتحقيق النصر في معركة ميلس (Myles) (9) ، وقد وصف بوليب هذه الأداة قائلا أنّها شبيهة برأس غراب تثبَّت في مقدّمة السفينة كالعمود ، وعند الاقتراب من سفينة العدو تسوّى أفقيا بفضل مرونتها وثقل رأسها الحديدي على شكل منقار غراب فتمسك بسفينة العدو من الخلف وتشلّ حركتها وتتحوّل إلى معبر (Passerelle) وحينها يكون مشاة البحرية قد اقتحموا سفينة العدو وهاجموا بحارتها وقضوا عليهم ، وهي الخطّة التي تفوّق بها الرومان فحقّقوا النصر على القرطاجيين في ميلس بمضيق مسينا حوالي 260 أو 261 ق.م. .

هوامش
(1) - Hérodote, I, 166.
(2) - Diodore de Sicile, XIII, 54, I. والملاحظ أنّ رقم 60 يمثّل الوحدة في النظام الستّيني الذي لا يزال معمولا به في تقسيم الساعة كما هو معروف إلى 60 دقيقة والدقيقة إلى 60 ثانية.
(3) Appien, Libyca, 96.
(4) Polybe, I, 20, 15.
(5) Brisson (J. P. ), Carthage ou Rome, éditions Fayard, paris 1973, p. 48.
(6) Lancel (S.), Carthage, Cérès éditions, paris 1999, p. 178.
(7) Aristophane, Grounouilles, V, 1074.
(8) Lancel (S.), op. cit. p. 186.
(9) Polybe, I, 22, 4.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار


.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟




.. يديعوت أحرونوت: إسرائيل ناشدت رئيس الكونغرس وأعضاء بالشيوخ ا


.. آثار قصف الاحتلال على بلدة عيتا الشعب جنوب لبنان




.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض