الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية البرنامج الوطني: الهدف.. أم الوسائل؟

محمد السهلي

2009 / 6 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



لأسباب كثيرة ذاتية وموضوعية، تمكنت الحركة الصهيونية من إقامة دولة إسرائيل. وكان تشريد الشعب الفلسطيني من وطنه فلسطين هو الآلية العملية لتنفيذ هذا الهدف من خلال ارتكاب المجازر وترويع الفلسطينيين.
وإلى جانب التجليات المأساوية للنكبة على صعيد الشعب الفلسطيني الذي أصبح معظمه لاجئا، نشأ وضع معقد ومتناقض على المستوى السياسي الفلسطيني تمثل في وهن الحركة السياسية وتبعثرها، مقابل نهوض مهام كبرى كاستحقاق وطني فرضه وقوع النكبة وتداعياتها. وهذا هو السبب الجوهري لتأخر اندلاع الثورة الفلسطينية المعاصرة، إلى أن استطاعت قوى فلسطينية ناشئة استجماع طاقاتها وترتيب صفوفها وإطلاق الثورة في العام 1965 وتم تبني الكفاح المسلح كأحد وسائل النضال الوطني من أجل النهوض باستحقاقات النكبة وفي المقدمة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها، وهذا يعني حكما شد قوس المواجهة مع الحركة الصهيونية وتجسيدها العملي إسرائيل إلى أوسع مداياته.
لكن بعد أقل من عامين وقعت الهزيمة في حزيران (يونيو) 1967. ومابين النكبة والهزيمة كانت الضفة الفلسطينية قد ضمت إلى الأردن ووضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، وبعد الهزيمة تزايد حضور قوى الثورة الفلسطينية وفصائلها في بلدان المحيط العربي (الطوق) التي احتل قسم من أراضيها لتضيف إدارات هذه البلدان إلى شعار «تحرير فلسطين» شعار تحرير (أو استعادة) أراضيها ذاتها.
هنا أيضا، نشأ وضع معقد أضاف (مبدئيا) استحقاقات هزيمة الـ 67 إلى استحقاقات النكبة التي كانت فصائل الثورة تسعى لمراكمة قواها من أجل النهوض بها.
ما بعد النكبة، كان الاتجاه السائد في صفوف القوى التي أطلقت الثورة الفلسطينية هو التركيز على هدف عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها، ومن اختلف مع هذا الطرح (إن وجد) كان خارج إطار الثورة وصفوفها في الميدان والسياسة. لكن الأمر اختلف بعد هزيمة الـ 67. فبرزت دعوات (بغض النظر عن حجمها ووضع مطلقيها) إلى إيجاد فصل بين استحقاقي الـ 48 والـ 67. وبنظر هؤلاء فإن عودة اللاجئين لم تعد منظورة في ظل نتائج العدوان الجديد، وأن التركيز يجب أن ينصب على «إزالة آثار العدوان» أي تطبيق القرار 242 بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية والعربية التي تم احتلالها عام 1967 وعودة النازحين، ولم يكن وقتها مطروحا في الأروقة الدولية والرسمية العربية أي بحث في المستقبل الوطني للأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها.
ولعل أبرز ما جاء به البرنامج الوطني المرحلي هو ربط الاستحقاقين معا، فدعا إلى تجسيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحقه في بناء دولة فلسطينية مستقلة كإجابة وطنية حاسمة على سؤال مستقبل الأراضي المحتلة عام 67. وأكد في الوقت نفسه على ضمان حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها في العام 1948. ونظر البرنامج إلى ترابط الأهداف الوطنية انطلاقا من ترابط حقوق الشعب الفلسطيني بعناوينها الأساسية، واعتبر أيضا أن العمل الوطني الفلسطيني في سياق السعي لتحقيق هذه الأهداف يجب أن يشكل بالضرورة سلسلة متتالية ومترابطة من المحطات لا ينبغي فصل أية حلقة منها (كهدف قيام الدولة) عن سائر الحلقات الأخرى وفي الأساس عن استحقاقات النكبة بضمان حق عودة اللاجئين وغير ذلك مما يوجبه تحقيق هذا الهدف الوطني الكبير.
وإذا كان الوضع الفلسطيني على المستويين السياسي والشعبي في تلك الفترة منع تمدد دعوات الفصل بين الاستحقاقين الكبيرين، إلا أن أصحاب هذه الدعوات وجدوا في أسس الدخول الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد خريف العام 1991 وما نتج عن هذا الأمر لاحقا، وجدوا فيها مناخا سياسيا مساعدا لتجديد هذا الطرح الذي تجسد عمليا في آليات نقاش القضية الفلسطينية في الأطر التي ولدّها اتفاق أوسلو، ففصلت القضايا الأساسية عن بعضها البعض لتحال قضية اللاجئين إلى لجنة خاصة وكأنها مسار تفاوضي مستقل ليس له علاقة بما يجري في إطار المفاوضات حول مستقبل الضفة الفلسطينية والقطاع، وبالنتيجة جمدت قضية اللاجئين الفلسطينيين بالصورة التي تجسد الحق الفلسطيني السياسي والتاريخي، بينما فتح الباب واسعا أمام استيلاد سيناريوهات بديلة تدعو مباشرة إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين في مواقع لجوئهم وتشريد من استعصى توطينه إلى المنافي والمهاجر.
وبواقعية، يمكن للباحث في الشأن الفلسطيني أن يتلمس خطا «مستقيما» مباشرا بين «ترسيم» دعوات الفصل بين استحقاقي 48 و67 وبين الصورة الحاضرة اليوم بما يخص ليس فقط مستقبل قضية اللاجئين الفلسطينيين، بل وأيضا مستقبل الأراضي الفلسطينية في الضفة والقطاع ذاتها، التي حاول أصحاب هذه الدعوات تسويغ «رؤيتهم» بأنها تخدم هدف إقامة الدولة المستقلة وتقطع الطريق على مواصلة الاستيطان. وأضافوا حينذاك بأن ربط هدف قيام الدولة الفلسطينية بضمان حق عودة اللاجئين إنما يلغي تحقيق الهدفين معا. على كلٍ، من ينظر اليوم إلى خريطة الاستيطان في الضفة ومشاريع التهويد في القدس، والخطاب السياسي لحكومة نتنياهو يتأكد من عدم صلاحية الطرح المذكور، وأن الذي يمكن أن يؤدي إلى شطب الاستحقاقين معا هو عزل أحدهما عن الآخر، لسبب بسيط معروف وهو أن اسقاط وتجاهل حق عودة اللاجئين يعني إزاحة أصحاب المصلحة في تحقيقه (وهم ثلثا الشعب الفلسطيني) عن ساحة المواجهة، أي أن أصحاب هذه الدعوة يفرغون العمل الوطني الفلسطيني من حامله الاجتماعي والسياسي.. الشعب.
الاستحقاقات الوطنية التي ولدّتها هزيمة الـ 67 على الجبهة الفلسطينية معروفة، وأقرت في هيئات دولية ورسمية عربية، تنطلق من إقرار مبدأ حق تقرير المصير وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا يفترض انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلت بما فيها القدس الشرقية وتفكيك الاستيطان وترحيل المستوطنين ربطا بمبدأ عدم جواز تغيير معالم الأراضي التي يتم احتلالها من قبل قوة أجنبية، وعودة النازحين الفلسطينيين بموجب القرار الدولي 237 الذين هم أيضا ـ مثل اللاجئين ـ شكلت لهم (حسب أوسلو) لجنة خاصة اجتمعت مرات عدة دون أن تخرج بما يشير إلى إمكانية تنفيذ القرار المذكور.
مع مجيء إدارة بوش الابن ورئاسة أريئيل شارون للحكومة الإسرائيلية مطلع العام 2001، تماهى إلى حد كبير الخطابان الإسرائيلي والأميركي بما يخص حدود «الدولة» الفلسطينية ومستقبل الاستيطان وقضية القدس. وفي العام 2002 وخلال عدوان «السور الواقي» وما بعده تم زرع الحواجز العسكرية الإسرائيلية في أنحاء الضفة واتخذت إجراءات احتلالية خلقت واقعا من التقسيم والتجزئة بين التجمعات الفلسطينية، ويجري اليوم وبسرعة توسعة المستوطنات المحيطة بالقدس وربطها معا لتفصل ما بين جنوب الضفة الفلسطينية وشمالها.
وتترافق هذه الإجراءات مع حملات نشطة تغطيها الحكومة الإسرائيلية وتدعمها من أجل تهويد مدينة القدس عبر خطين متكاملين، الأول يتعلق بتوسعة الاستيطان واستقدام مستوطنين إلى المدينة، والثاني بهدم بيوت الفلسطينيين في أحياء فلسطينية مختلفة، وإلى جانب كل ذلك القرارات الاحتلالية التي يؤدي تنفيذها إلى سحب الهويات المقدسية من يد أعداد متزايدة من أهل القدس.
ومنذ اثنتين وأربعين سنة، وحتى اليوم، يلاحظ أن النشاط الإسرائيلي المحموم في تغيير معالم الضفة الفلسطينية بما فيها القدس إنما يتصاعد في المحطات التي يتم فيها الحديث عن مشاريع وآليات تبحث في مستقبل الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967. ونذكر منها مفاوضات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل أواخر سبعينيات القرن الماضي، ومؤتمر مدريد (1991) والمفاوضات السرية التي أوصلت إلى اتفاق أوسلو (1993) وتكرر الأمر مع إطلاق المفاوضات الفلسطينية مجددا في خريف العام 2007 عبر مؤتمر أنابوليس.
في ظل هذا كله، يبدو المشهد مختلفا بشكل كبير عما كان عليه الأمر بعيد هزيمة العام 1967. فماذا عن الاستحقاقات التي ولدتها هذه الهزيمة. وماذا عن البرنامج الوطني الذي يكفل النهوض بالمهام الوطنية المطروحة على هذا الصعيد؟
اللافت أننا نشهد أحيانا دعوات تسعى بشكل غير مباشر إلى القفز عن استحقاقات الهزيمة مثلما دعت أصوات قبلها إلى تجاوز استحقاقات النكبة، لكن أصحاب الدعوات الجديدة يحاولون أن يبدو الأمر كقفزة نحو الأمام من خلال طرح شعار الدولة الواحدة.
ومثلما طرح «السابقون» أن عودة اللاجئين غير مرئية أيضا، فإن أصحاب الدعوات الجديدة للقفز عن استحقاقات الهزيمة ينطلقون من رأي يقول بأن الدولة الفلسطينية غير مرئية بفعل الإجراءات الإسرائيلية والوضعين الدولي والإقليمي.
هذا القول يقود إلى طرح التساؤل الآتي: إذا كان قيام الدولة الفلسطينية يحوز على تأييد سياسي دولي وعربي وإجماع فلسطيني ومع ذلك فهو غير ممكن التحقيق، فما الذي يجعل من هدف الدولة الواحدة أمرا ممكنا، ومن الذي يؤيده؟ في ظل تصاعد اليمين في إسرائيل على الصعيدين الاجتماعي والسياسي وفي ظل وجود كنيست معظمه من اليمين المتطرف، ويزداد منسوب العنصرية تجاه فلسطينيي الـ 48 الذين وجهت لهم تهديدات علنية بالطرد من بلادهم. فمن هو هذا الساحر الذي سيضع هذا المجتمع وأحزابه الصهيونية في صورة الشريك الإيجابي في إطار مواطنة واحدة لسكان ما بين النهر والبحر؟.
برأينا، يتفق أصحاب الدعوتين القديمة والحديثة (مع اختلاف الشعار) من زاوية هروبهم جميعا من المأزق الذي تعيشه الحالة الفلسطينية ومن ثمة إحالته إلى مأزق الهدف بديلا عن المأزق السياسي القائم وسبل حله برنامجيا وسياسيا.
فالسعي إلى ضمان حق عودة اللاجئين الفلسطينيين لم يأخذ مداه الممكن ربطا بمرور أكثر من ستين عاما على وقوع النكبة، وما تزال حركة اللاجئين الفلسطينيين تعيش حالة من التجاور بين مكوناتها في تقليد كارثي للحالة السياسية الحزبية الفلسطينية، وما يزال عمل معظمها يتسم بالنخبوية وسلوك «الوجاهات».
ولم يخدم كما يجب هدف إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فلم توظف الامكانات المتاحة (وكانت كبيرة) ولم يدقق في بنى الثورة ومؤسساتها بما يحقق فعالية تفترضها طبيعة المعركة مع الاحتلال وحلفائه، وجاءت المناورات السياسية والرهان على الوعود الغربية على حساب القواسم البرنامجية الوطنية.. وأخيرا أطلت علينا السياسات الفئوية والحزبية الضيقة لتوصل الوضع الفلسطيني إلى الانفجار.
على ذلك، يمكن القول إن تغيير الشعار أسهل على الكثيرين من بحث الأسباب الذاتية والموضوعية التي أدت وتؤدي إلى نشوء عقد كبرى في طريق تحقيق المشروع الوطني في مرحلته الراهنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -