الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات جمالية في الأنا الأعلى

محمد سمير عبد السلام

2009 / 6 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


للأنا الأعلى Super – Ego علاقة وثيقة بالأدب ، و الفن بشكوله المختلفة ؛ فهو من الدوال التي تنتمي إلى مجالات متداخلة من المعرفة الإنسانية ؛ مثل الأدب ، و علم النفس ، و الفلسفة ، و الدراسات الحضارية ، و غيرها . و يعد أوديب أهم الشخصيات الأدبية التي ساهمت في تطور المصطلح عند مبدعه سيجموند فرويد ، ثم تواترت الشخصيات الأدبية ، و الفنية ، و الدينية التي ارتبطت جماليا بالأنا الأعلى ، في سياقات نسبية إبداعية مختلفة ؛ فالأنا الأعلى يقع بالفعل في مسافة غير مرئية بين الذات ، و المجتمع ، و المخيلة ، و من ثم قد نراه يطارد الهوية ، أو يتحد بها ، أو يدمرها ، أو يتجلى خارج الذات في صورة شبح ، أو لعنة ، أو عقاب . إنه مثالي بلا مركز ، أو صورة واحدة ، مما يعزز وجوده الإبداعي المتغير ، و اللانهائي .
يشير فرويد إلى أن الأنا الأعلى هو وريث عقدة أوديب ، و أن قسوته المفرطة لا تحاكي أصلا واقعيا ، و هي تحاسب الفرد على أفعاله ، و كذلك خواطره ، و مقاصده التي لم تنفذ ( راجع / فرويد / الموجز في التحليل النفسي / ترجمة سامي محمود علي / هيئة الكتاب المصرية سنة 2000 ص 116 ) .
يتحد الأنا الأعلى – إذا – بلحظة عقاب أصلية في الوعي البشري تحاكي محاكمة أوديب لنفسه بالعمى عقب اكتشافه ذنب قتل الأب ، و زواجه من أمه ، بل إن الأنا الأعلى طبقا لفرويد قد ينقل الذات إلى سياق الجرائم الوهمية ، مما يؤكد حضوره الذاتي بنسب مختلفة .
إنه يكمن في الوعي الجمعي ، و في شخصيات الأدب ، و الفن ، و لكنه يتضخم في حالات إنسانية فريدة تتميز بالتمرد ، و الاختلاف ، أو يرتبط ارتباطا وثيقا بحالات المرض ، و فقدان القوة الجسدية ، و الجوع ، و نقص المال ، حتى يصل إلى محو الذات بشكل عبثي آلي كما هو في رواية مستعمرة العقوبات لكافكا ؛ فآلة العقاب في النص كانت صوتا ماديا قويا للأنا الأعلى .
و نستطيع في هذا السياق التأملي الجمالي للأنا الأعلى أن نكشف عن شكوله ، و درجات حضوره في بعض شخصيات الأدب ، و الفن ؛ مثل مكبث عند شكسبير ، و راسكولينكوف في الجريمة ، و العقاب لفيدور دوستوفسكي ، و أمارنتا أورسولا ، و أورليانو في مائة عام من العزلة لماركيز ، و الابن الضال في لوحة لرامبرانت . و تجمع هذه الشخصيات بين الاختلاف ، و التحول العميق الذي أحدثه الأنا الأعلى في بنيتها .
أولا : مكبث :
عقب قتل مكبث للملك دنكان سمع صوتا يذكره بالجريمة ، و يبشره بقدوم العقاب ، يقول مكبث :
" ثم استمر ذلك الصوت الذي ملأ البيت بأصدائه يصيح بي .. لن تنام يا قاتل الرقاد . جلاميس . كودور . مكبث .. لن تنام " ( راجع / شكسبير / مكبث / ترجمة خليل مطران / دار المعارف 1993 ص 50 ) .
ما الصوت ؟
إنه صعود الأنا الأعلى خارج الذات ، و قد بدأ يؤدي دور الممثل المبدع لقتل دونكان ، و لكن في داخل مكبث ؛ فهو يستعيد الجريمة ، و يكررها إلى ما لا نهاية ، و يتوحد بها ؛ لكي ينفيها في الوقت نفسه ، و يستحضرها في مجالات تشبيهية جديدة لينجز العقاب ، و يحدث الجريمة مرة أخرى في سياق إبداعي مختلف .
إن الأعلى يقاوم التجسد داخل مكبث ، و خارجه ؛ فهو أقوى من فكرة الصوت نفسها ، و من المتكلم أيضا ، و كأنه عقاب دائري مكرر ، و مختلف ذاتيا بحيث لا يمكن تمييزه أبدا .
و في موضع آخر يتجلى لمكبث في صورة شبح القائد بنكو عقب قتله أيضا ، و في هذا السياق يحاول مكبث أن يثبت للشبح أنه ميت ، و لا يستطيع الحركة ، أو الكلام ، و لكن ضفائر الدم ، و نظرة الشبح له ، و دائريته تؤكد إغواء الموت السحري الكامن بين بنكو الميت المستعاد ، و مكبث الذي أصبح شبيها بأشباح الموتى .
يخاطب مكبث شبح بنكو :
" دمك بارد . لا حياة في العينين الزجاجيتين اللتين ترميني بهما " ( راجع / شكسبير / السابق ص 78 ) .
إنه يقصي الحياة عن الشبح ، ثم يضاعفها في اعترافه بأن الشبح يرميه بعينيه ، لقد طارت حياة بنكو خارج الجسد ، و توحدت بقوة الأنا الأعلى التي تجمع الجريمة ، و العقاب معا دون نهاية ، هل احتل بنكو مخيلة مكبث ، و صار جزءا من مضادا من هويته ، و صوته ؟
التمثال الملطخ بالدماء يستعيد العقاب الذاتي داخل مكبث ؛ و لهذا يشعر بالدونية ، و ينفي الجريمة ، و لكن التمثال يسخر منه ؛ ليؤكد أن العقاب قادم ، و الموت متواتر ، و يشبه الحياة في الانتشار ، و الوفرة .
إن مخاوف مكبث من الانهيار الذاتي ، تحولت إلى احتلال الأنا الأعلى للصوت ، و المخيلة حتى تحركت نحوه الأشجار ، و اتحد الواقع بإغواء الموت .
ثانيا : راسكولينكوف :
يعد راسكولينكوف – بطل الجريمة ، و العقاب لدوستوفسكي – من أهم الشخصيات التي ارتبطت صيرورتها بالأنا الأعلى ، بعد الملك أوديب . و من اللافت أن راسكولينكوف يجمع بداخله تناقضات النبل ، و الدونية ، و التمرد ، و التدهور الاجتماعي ، و الرغبة في الاختفاء معا .
إن علاقة راسكولينكوف بالأنا الأعلى معقدة جدا ، و تمر على طول الرواية بدرجات مختلفة من الصراع ، و الحضور ، و الغياب ، و الهروب ، و الاستسلام دون حسم كامل ، و لكن يظل الأنا الأعلى بتجلياته الإبداعية مصاحبا لوعي ، و لا وعي البطل حتى في سجنه ، حينما رأى في نومه صراعات الجنس البشري ، و احتمالات الخلاص ، و الفناء معا .
إن الأنا الأعلى يحاول دائما استبدال صوت راسكولينكوف ؛ ليجعله مجرما مجردا من أي دوافع عقلانية ، حتى تبلغ عقدة الذنب ذروتها ، و تنتصر المشاعر الدونية انتصارا كاملا على الشخصية .و لننظر إلى هذا الجزء من حوار راسكولينكوف مع صونيا ، و قد بدأت دوافعه تنهار تماما أمام الحضور الذاتي الخفي للأنا الأعلى بداخله ، و قد أتم عملية الاستبدال ، ثم تأويل الشخصية ، و ذاكرتها .
يقول راسكولينكوف :
" لا يا صونيا .. ليس هذا هو الأمر ، ليس هو هذا .. و إنما عليك أن تفترضي ( نعم افترضي هذا ؛ فهو أصح ) أنني إنسان شديد التأذي ، حسود ، منحط ، شرير ، حقود ، يحب الانتقام ، مهيأ للجنون ... كنت أكره ذلك المسكن الحقير ، و مع ذلك كنت لا أريد أن أتركه . كنت أقضي فيه أياما بكاملها ، لا أريد أن أعمل ، بل و لا أريد أن آكل " ( راجع / دوستوفسكي / الجريمة و العقاب / ترجمة د سامي الدروبي / ضمن أعمال دوستوفسكي الكاملة / مجلد 9 / دار ابن رشد بالقاهرة ص 250 و 251 ) .
إن الأنا الأعلى ينتصر في هذا المقطع على وعي البطل ، و يعيد تشكيل تاريخه انطلاقا من حالة إغواء أصلية في شخصه تجذبه نحو العقاب ، و التدمير ؛ فكلما تحرك الصوت ليدفعه نحو تدعيم الذات ، نجد الأنا الأعلى يحقق الانتقام بتأكيده للجوع ، و نوازع الجريمة التي تستوجب المحو الدائري للأنا دون نهاية .
إن الخطابات المختلطة لراسكولينكوف في الرواية ، و التي تجمع بين الرغبة في التعالي ، و الانهيار ، و التبرير ، و الهروب تدل على التفكك الذي يحدثه الأنا الأعلى بصور مختلفة في الصوت نفسه .
ثالثا : أمارانتا أورسولا ، و أورليانو :
يتجلى الأنا الأنا الأعلى في تطور الكتابة نفسها عند ماركيز في روايته " مائة عام من العزلة " ؛ فنشعر بحضوره في عمليات التفكك ، و الانهيار ، و اللعنة التي اقترنت بالحب المحرم بين أورليانو ، و أمارنتا أورسولا .
و لا يمكننا التمييز في النص بين اندفاع الشهوة ، و تكاثر علامات العقاب التي تتطور من خلال الأولى ، و تحاكيها ؛ فيختلط الحب بالمحو في بنية الشخصيات .
إن الأنا الأعلى يتخذ مظهر النمل ، و ذيل الخنزير ، و تدفق دم أمارنتا عقب الولادة ، و يستعيد فكرة العقاب في الوعي الجمعي البشري ، و اقترانها بالوجود نفسه ، أو الحب ، أو الكتابة التي تنتقم من مركزية المدلول الأول للجنس .
و نلاحظ أن كتابة ماركيز تنتج الرعب كتشبيه يقع في ذروة الممارسة الجنسية بين أورليانو ، و أمارنتا أورسولا .
يقول :
" لقد كان غراما مجنونا ، مطلق السراح بلا مفاصل ، حتى أنه يجعل عظام فرناندا في قبرها ترتعد من الرعب ، و يحفظها في إثارة خالدة ... و في هذيان العاطفة رأت النمل يجتاح الحديقة مشبعا جوعه الذي يعود إلى ما قبل التاريخ من خشب البيت " ( راجع / ماركيز / مائة عام من العزلة / ترجمة د سليمان العطار / هيئة الكتاب المصرية 2004 ص 354 ) .
إن الجنس هنا مفتتح لتغيرات شخصية ، و كونية مختلطة ؛ فمدلوله ملتبس بالخوف ، و التكاثر المجرد للجوع ، و الالتهام ، و القتل ، و التوحد معا دون انفصال ؛ فبداية التوحد حدثت عندما امتص أورليانو بعض الدم من جرح أمارنتا ، ثم اختلطت المقاومة ، بالحب حتى انبعث التدمير من أقصى حالات الجنس اللاواعي .
لقد استسلمت أمارنتا للجنس ، و الألم ، و العقاب معا ، و مثلت نهاية الذات أمام قوة الأنا الأعلى الحضارية ، و الغريزية ، و تجلت هذه القوة في مقاومتها ، ثم موتها بالنزيف عقب ولادة ذكر ضخم له ذيل خنزير ، ثم التهام النمل للمولود ، و تجفيفه ليبلغ أقصى درجات الدونية مثل الحشرة عقب حضوره الطوطمي .
إن الدم هو دال التجدد ، و التفكك ، و المحو الكامل للإنسان في الرواية ، و هو يجسد التناقض الذي يشبه الكتابة - بين الموت ، و الحياة ، و التدمير ، و اللذة .
إن الأنا الأعلى هنا غير شخصي ، و يقع بين الكتابة ، و صيرورة الجنس البشري في لقائها الغامض بالقوى الغريزية في الكون .
رابعا : الابن الضال عند رامبرانت :
استلهم رامبرانت لوحته " عودة الابن الضال " أو The Return of the Prodigal Son – من مثال قاله المسيح في إنجيل لوقا ، يتعلق بإسراف هذا الابن في إنفاق ماله من أبيه على اللذات ، ثم تحدث الأزمة التي ارتبطت بنقص المال ، ثم عودته لأبيه ، و طلبه أن يكون ضمن خدمه .
و اللوحة منشورة بشكل جيد في موقع أي بي سي جاليري على الرابط :
http://www.abcgallery.com/R/rembrandt/rembrandt139.html
ما يهمنا هنا هو تصوير رامبرنت للحظة الانهيار التي تجلى فيها الأنا الأعلى في شخصية الابن الضال .
و نستطيع رصد آثاره في ثلاث نقاط :
الأولى : اتخذ رامبرنت زاوية الرؤية للابن الضال من الخلف ، و كأنه يريد أن يمحو وجهه من المشهد ؛ و هنا تتجلى عمليات الاختفاء ، و الدونية ، و المحو ، و قد احتلت الشخصية ، و كأن الأخيرة أثر لها .
الثانية : يتخلى الابن عن هويته ، و يحاكي الخدم ، نتيجة استبدال الأنا الأعلى لصورته الأولى ، و يبدو هذا واضحا في إبراز رامبرنت لاقتراب الابن من الأرض في ركوعه ، و ملابسه المهلهلة ، و كذلك قدمه العارية .
الثالثة : استعادة أوديب مرة أخرى ، و لكن من خلال العودة للأب ، و تأكيد سلطته ، مما يؤكد تحقيق الأنا الأعلى لهدفه ، و إنجازه للعقاب في التكوين الجديد للابن .
للأنا الأعلى – إذا – مسار جمالي ينبع من وعي الشخصية ، أو يعيد تكوينها في براءة إبداعية ، و مأساوية في الوقت نفسه .
محمد سمير عبد السلام – مصر












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع