الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مهازل الخلط بين العلم و الدين

أحمد عصيد

2009 / 6 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مناسبة هذا المقال هو التصريح الهام جدا للعالم المصري الكبير أحمد زويل الفائز بجائزة نوبل للكيمياء، و الذي مفاده أنّ على فقهاء الدين أن يتوقفوا عن "الإفتاء" بآرائهم في القضايا العلمية، مسوغا دعوته بأن " تدخل الفقهاء في القضايا العلمية يعرقل تقدم العلم". فما معنى ذلك ؟ .
عندما دعا الفيلسوف أبو الوليد ابن رشد قبل ثمانمائة عام مسلمي عصره إلى الفصل بين "الحكمة" و "الشريعة" ، بين العلوم الشرعية و العلوم العقلية فصلا منهجيا، و إلى عدم الخلط بينهما بسبب اختلافهما في المنطلقات و أسلوب النظر و التفكير و في المبادئ و المفاهيم، معتبرا أن ذلك يؤدّي إلى الإضرار بالعلم و بالدين معا، كان هدفه إيقاف الهجوم الشرس الذي شنه فقهاء الدين على الفلسفة و العلوم العقلية التي اعتبروها مادية دنيوية عديمة القيمة و ذات ضرر على العقيدة، إذ كانوا ينطلقون من الدين و ثوابته الإيمانية للطعن في الفلسفة و علومها العقلية التي تقوم على نسق فكري برهاني مغاير كليا، و هو ما يعني عند ابن رشد الحكم على نسق فكري من خلال نسق آخر مختلف، الشيء الذي لا يجوز في نظره، حيث يقوم الدين على الإيمان و التصديق بالحقائق الغيبية عبر التسليم بها تسليما عاطفيا كما هو الأمر عند "العامة"، بينما تقوم علوم الحكمة على البرهان العقلي الذي ينطلق من مقدمات و ينتهي إلى نتائج تتطابق معها منطقيا، و هو ضرب من النظر خاص بالحكماء و أهل البرهان من "الخاصة". و قد رفض الفقهاء أطروحة ابن رشد من أساسها لأنها تنتهي إلى الإقرار بوجود مرجعية أخرى في التفكير و العمل غير المرجعية الشرعية الدينية، و هي المرجعية العقلانية و العلمية، مما يمثل منافسة للدين و خطرا عليه، و دعوا إلى القضاء على المرجعيات الأخرى لصالح المرجعية الدينية السنية الأشعرية التي تبنتها الخلافة و أجمع عليها أهل الحل العقد في بلاط السلطان. و قد حاول ابن رشد أن يثبت بأن الأساس هو وحدة الحقيقة بين الدين و الفلسفة، حيث يؤديان معا إلى معرفة الحق الذي هو الوجود الإلهي إما معرفة قلبية بالتصديق العفوي بوجود الله كما هو الأمر في الدين و كما يحتاج إليه بسطاء الناس و عامتهم، أو بالبرهان و الإستدلال العقلي عبر التفكير و البحث في " بدائع الخلق" أي في الظواهر الطبيعية و الكونية و الإنتهاء إلى معرفة "علة العلل" أو "المحرك الأول" كما هو الأمر عند الحكماء.
غير أنّ النقاش انتهى بمحنة ابن رشد و بعزله عن منصب قاضي القضاة و إحراق كتبه في الأندلس و مراكش، و كانت تلك آخر محاولة لتنبيه المسلمين إلى ضرورة استقلال العقل و إلى أهمية العلوم المادية التي اعتبروها أقل قيمة من علوم الآخرة. و قد انغمس المسلمون بعد ابن رشد في مستنقع التدين السطحي و التصوف اللاعقلاني و زيارة الأضرحة و عبادة الأوراد و العمائم و اللحى، و انحدروا في مدارج الحضارة إلى حضيضها، بينما اعتمد الأوروبيون تفاسير ابن رشد لأرسطو أربعة قرون بعد وفاته، و استطاعوا الإنتصار للعقل و للعلم ضد غلواء الكنيسة و إرهابها، و نجحوا في تأسيس الجامعات المستقلة عن سلطة الكهنوت، و أفلحوا في الرحلات الجغرافية الكبرى و التي غيرت مفهوم الإنسان و صورة العالم، كما نجحوا في ثورة الإصلاح الديني و الثورات العلمية التي توالت مظفرة و مذهلة من كوبرنيك Copernic عبر كبلر Kepler إلى كاليلي Galilei ثم نيوتن Newton الذي اكتمل معه النسق الفيزيائي الكلاسيكي، و الذي تزامن في القرن الثامن عشر مع اكتمال عناصر النسق السياسي ـ الإجتماعي للثورات العلمانية الكبرى، التي حسمت الأمر لصالح سلطة القانون العليا و كرامة الإنسان المواطن و قيم المساواة و الحرية و العقل، و أدت في قرنين اثنين إلى تحقيق ما لم تحققه البشرية في خمسة آلاف سنة.
كل هذا حدث و المسلمون نيام في عسل التدين و التصوف و الأوراد و العمائم، محافظين على نسق سياسي كرس الظلم في أكلح مظاهره، و على نسق اجتماعي عبودي حريمي تحت وصاية الفقه الذكوري المقلد، و انتشرت بين ظهرانيهم الخرافة و الدجل و انتظار الخوارق، ليأتي الإستعمار بجيوشه النظامية و آلياته المتطورة و ينوء بكلكله على شعوب مقهورة أوهنها الإستبداد، و يحدث هزات قوية في بركة الإسلام الآسنة منذ ألف عام.
و استيقظ المسلمون في النهاية ليعترفوا بتخلفهم مع بداية القرن العشرين و يطرحوا السؤال: لماذا تخلف المسلمون و تقدم غيرهم ؟ و انقسموا في الإجابة على هذا السؤال إلى فريقين، أحدهما قال إن السبب هو في عدم الأخذ بأسباب التقدم التي تتمثل في العلم و المعرفة و العقل و العقلانية و الحرية و العدل كما بلغها الغرب و أرساها، و الثاني قال إن السبب إنما يكمن في أن المسلمين تخلوا عن دينهم (كذا!) و لم " يطبقوه على حقيقته"، مما يستوجب "العودة" إلى منابع الدين الصافية عند السلف و عهد النبوة ـ أي العودة 14 قرنا إلى الوراء ـ و الإنطلاق بعد ذلك من جديد نحو آفاق التقدم الرحبة، حيث يتضمن الدين كل أسباب الرقي التي لدى الغرب، كما يتضمن كل الحقائق التي اهتدى إليها الغرب بمجهوده العقلي.
و ما حدث بعد ذلك طوال قرن من الزمان كان باعثا على الضحك و البكاء المرّ، فالذين دعوا إلى الأخذ بأسباب التقدم كما هي لدى الآخر الأقوى اعتبروا "متغربين" و خونة للأمة و تحولوا إلى نخبة منعزلة، و الذين دعوا إلى "العودة" المظفرة إلى منابع الدين الصافية اعتبروا "علماء مجتهدين"، غير أنّ العودة التي تصوروها حافزا على التقدم تحولت إلى عودة إلى التراث للبقاء فيه، حيث لم يستطع أحد من الذين عادوا إلى تلك المنابع أن يعود منها سالما إلى العصر الذي نحن فيه، مما وسّع الهوة بين المسلمين و السياق الحضاري الحالي، و جعلهم يقتاتون من فتات الحضارة المعاصرة عوض أن يلتحقوا بالشعوب المنتجة و الخلاقة.
بعد هذا الإحباط الحضاري الخطير لم يبق على العقل الإسلامي إلا استعمال آليات التعويض و التبرير النفسيتين: فكل ما وصل إليه الغربيون موجود في الدين الإسلامي أصلا و منذ البداية، و إنما تقاعس المسلمون عن اكتشافه، حيث يتضمن الدين كل أسباب الرقي التي لدى الغرب، كما يتضمن كل الحقائق التي اهتدى إليها بمجهوده العقلي، و منها المعارف العلمية و الإكتشافات الجديدة، و هكذا انطلق الوعظ الهذياني في مسيرة طويلة من الثرثرة الباعثة على السخرية، عبر التأويل المتعسف للآيات القرآنية لتتطابق مع كشوفات علمية معاصرة اهتدى إليها العلماء بعد سنوات طويلة من البحث و بميزانيات باهظة، لتجد المسلمين لها بالمرصاد، يتصيدونها ليلووا عنقها و يتملكوها بعملية تخمين بسيطة، و يساهموا بالتالي ـ و هذا هو الأخطر ـ في عرقلة استيعاب المعرفة العلمية الحقة في المجتمعات الإسلامية بأسسها المنطقية و العقلانية الكونية.
يعكس هذا السلوك إصرارا غريبا على التمسك بأسباب التخلف، و مقاومة عجيبة لمنطق الفكر العلمي، و محاربة للعلم عبر تحريفه و استعماله لأغراض دينية و سياسية ظرفية و محدودة، مما أدّى إلى شيوع الخرافة من جديد عوض الفكر العلمي بأسسه الكونية و العقلانية، كما أدّى إلى وضع القرآن في وضع حرج، حيث انكب الكثيرون على نقد مضامينه مما أبرز بوضوح عدم صحة الكثير من المعلومات التاريخية و الحسابية و الطبيعية التي وردت فيه، و هو ما كان المسلمون في غنى عنه، و ما نبه إليه ابن رشد قبل ثمانمائة عام، و ندّد به أحمد زويل قبل أيام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال رائع
همسات ( 2009 / 6 / 9 - 23:48 )
أحسنت حقا لقد كان مقالك مركزا دسما خفيفا تاريخيا وو اقعيا فى آن واحد أتمنى المزيد
وشكرا لك


2 - مقال من ذهب
سارة ( 2009 / 6 / 10 - 04:51 )
هذا المقال يساوي ثقله ذهبا شكرا للكاتب


3 - مهازل الخلط
محمد الخليفه ( 2009 / 6 / 10 - 10:15 )
هذا هو التفسير الصحيح لواقع الحال ، أرى أن يقرأ هذا المقال الدكتور عمرو اسماعيل مع التحية


4 - مقال ممتاز
مختار ( 2009 / 6 / 10 - 12:13 )
شكرا على هذا المقال الممتاز.
فقط أريد أن أقول هنا بأن الحوار مع رجال الدين غير مثمر أبدا، وقد أثبتت كل المحاولات استحالة ذلك.
الحل يكمن في انتشار الفكر العلمي والعقلانية وخاصة سيادة العلمانية في إدارة شؤون الدول والمجتمعات وبها فقط سيكون بوسعنا عزل رجال الدين وأعادتهم إلى جحورها ووقف الأضرار التي يسببها فكرها المتخلف.
هذا لن يكون في واقعنا ما دام الناس في غيبوبة فكرية وما دام بوسع رجال الدين سوقهم كالأنعام ضد مصالحهم الحقيقية، ومن هنا تأتي أهمية مثل هذه المقالات الممتازة.
تحياتي


5 - أحيي كاتب المقال
عمرو اسماعيل ( 2009 / 6 / 10 - 14:28 )
فهو مقال ممتاز فعلا .. والي أخي محمد خليفه ...سدقني لم أقل الا نفس الكلام مع الاعتراف أن الكاتب الكريم قاله بطريقة أفضل ..
الايمان هو شيء ميافيزيقي قد نحتاج اليه نفسيا .. أما العلم فهو العقل ولا يجب الخلط بين الاثنين


6 - التخلف سببه الاسلام وليس بمسلمين
جميل ( 2009 / 6 / 10 - 17:13 )
تحية وتقدير لكاتب المقال
أعتقد أن المسلمين معذورون فى التخلف الذى أصابهم
فشخص يؤمن بــ -حبة البركة والتداوى ببول الابل والبعير والتطهر ببول الرسول- ماذا تنتظر منه
لن يفلحوا إلا إذا ألقوا بالاسلام خلف ظهورهم
انها لمأساة
تحية للجميع

اخر الافلام

.. فوق السلطة 395 - دولة إسلامية تمنع الحجاب؟


.. صلاة الغائب على أرواح الشهداء بغزة في المسجد الأقصى




.. -فرنسا، نحبها ولكننا نغادرها- - لماذا يترك فرنسيون مسلمون مت


.. 143-An-Nisa




.. المئات من اليهود المتشددين يغلقون طريقا سريعا في وسط إسرائيل