الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو استشراف مستقبل ثقافتنا

سعد محمد رحيم

2009 / 6 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


( مستقبل الثقافة في العراق ).. هذه الموضوعة الكبيرة لم يجر تناولها وتداولها بجدية، وفي ضوء رؤية علمية ومنهجية، من قبل نخبنا الثقافية، وذلك لغياب المشروع الثقافي الوطني، وقصور المؤسسات الثقافية المعنية ( ومنها الأكاديمية ) في الالتفات إلى هذا الجانب الحيوي الذي يتصل بمستقبلنا الحضاري عموماً. كذلك لم تظهر عندنا شخصية ثقافية نافذة مثل طه حسين الذي نشر كتابه ( مستقبل الثقافة في مصر ) في الثلاثينيات من القرن الماضي، والذي أثار عاصفة من النقاشات بين كبار مثقفي ذلك الجيل والأجيال التي أعقبته. أقول؛ لم تظهر شخصية ثقافية عراقية لها حضورها كطه حسين تتصدى لموضوعة ( مستقبل الثقافة في العراق ) وتجعلها في القلب من دائرة اهتمام النخب والمؤسسات الثقافية العراقية. وربما يرجع السبب في هذا كله إلى عدم استقرار وضع الدولة العراقية الحديثة ( أسست في 1921 ) وهشاشة مشروعها، فضلاً عن التغيرات الدراماتيكية التي شهدتها البلاد منذ ذلك الحين، مع ما ورثتها من أحمال تاريخية ثقيلة.
طرأت تحولات وتغيرات عميقة على بنى الاقتصاد والسياسة والمعارف، وكل ما له صلة بحياة المجتمع والإنسان، طوال القرون الثلاثة المنصرمة، بدءاً من حواضر أوروبا التي نفضت عنها غبار القرون الوسطى ودشنت لعصر التنوير ومن ثم للثورة الصناعية. وتسارعت تلكم التحولات والتغيرات منذ منتصف القرن العشرين لينعكس ذلك على رؤية الإنسان والمجتمع لنفسيهما، وللعالم والعلاقة معه. وشُرعت إذذاك آفاق للثقافة لا تكاد تعرف حدوداً لسعتها. فبعد التنوع الحاصل في اختصاصات العلوم الطبيعية والإنسانية واستحداث مناهج متقدمة ساهمت في إنجاز فتوحات علمية ومعرفية مذهلة، وظهور أشكال ثقافية جديدة، والتطور الذي حصل في مجالات الاتصال والإعلام بات الرهان على العامل الثقافي للإمساك بتلابيب المستقبل أمراً لا مناص منه. فالثقافة ليست إنتاجاً معرفياً وتبادلاً معرفياً فحسب، بل هي فاعلية المعرفة والقيم في السلوك والعمل والاتجاهات.
بات المستقبل، منذ الآن، ميدان صراعات حقيقية. وكل قوة في العالم تسعى اليوم كي تكون مفاتيح المستقبل بيدها. فثمة قوى عديدة تتصارع لتوسيع مجالها الحيوي، والإمساك بمصادر الثروة وتعزيز نفوذها. وأخرى تجاهد ليكون لها موقع أفضل في خريطة الحضارة الحديثة. وثالثة تعاني الأمرّين من سعي الأقوياء للاستحواذ على مقدّراتها. ففي المقدمة، تقف قوة الغرب الرأسمالي التي ترسم وتعمل من أجل أن تفرض ثقافتها ونمطها الحضاري على الآخرين، بحكم أنها تسيطر على مفاصل الاقتصاد والسياسة العالميين. في مقابل قوة الآخرين ( نحن، في سبيل المثال: في العالم الثالث والرابع ) التي تريد أن يكون لها مكان في عالم المستقبل، فيما تكابد، اليوم، للخلاص من ظروفها المزرية، المتخلفة. فنحن، إذن، طرف في ذلك الصراع، وفي القلب منه، وفي مواجهة تحديات معقدة. ولا يمكن أن نكون بمستوى هذا الصراع، وهذه التحديات، ونتحرر من هامشيتنا، من غير أن نصوغ ونطرح أسئلة المستقبل. وتلك هي من أهم إشكاليات الثقافة: أي كيفية صياغة الأسئلة التي من غير طرحها وتقديم إجابات حقيقية وصحيحة عنها، لا يمكننا الرهان على الفوز بأي دور إيجابي وخلاّق، لنا، في المستقبل. فأسئلة المستقبل هي المحفِّز والمولِّد والمحرِّك لثقافة الحاضر وثقافة المستقبل، في الوقت نفسه.
تحيلنا الإشكالية تلك إلى أسئلة لاحقة منها؛ ماهي الشروط التاريخية التي يجب توافرها وخلقها لضمان تدفق الإنتاج والإبداع الثقافيين؟. ومن يقوم بالمهمة وكيف؟ ثم؛ ماهي المحددات والمعيقات والمحرّمات التي تحول دون حرية الإنتاج والإبداع ذاك، وتربك وتكبح نمو الثقافة؟ وكيف نتعاطى معها ونخترقها؟. ماهي المديات الممكنة لهذه الثقافة، وكيف نرتقي بها إلى المستوى الذي نحلم به؟ ماهي العوامل التي ترسّخ أسسها، وكيف نمأسسها؟ هذه اسئلة أولى تتصل، لا شك، بشبكة هائلة من الأسئلة التي تجاورها أو تتولد عنها. وأواليات أسئلة فعالة مستشرفة للغد ستؤمّن حتماً مساحات حرة وواسعة لاشتغال الثقافة وتنميتها.
ليس من اليسير بناء تصورات دقيقة، أو حتى قريبة من الدقة، عن عالم الغد الثقافي. فالتحولات والتطورات في هذا الحقل لا تحدث بمسار خطي يمكن التنبؤ باتجاهه استناداً إلى معطيات وطرق إحصائية. وعلى الرغم من إمكانية وضع مؤشرات كمية لعناصر من هذا الحقل، إلا ان حقائقه الكيفية هي الأقل في قابليتها للتجسد بلغة الأرقام، لأنها من التشابك والتعقيد بنيوياً وحركياً إلى الحد الذي لا يمكننا معه إخضاعها للوسائل الحسابية والإحصائية التقليدية. وبذلك يبقى الاختلاف في التصورات ووجهات النظر حول طبيعة وحركة الحقل الثقافي مستمراً. وهو الحقل الذي لا يمكن الإلمام بعناصره واتجاهاته وتحولاته بمعزل عن إطاره الزماني والمكاني، وأرضيته السياسية والاجتماعية.
ومن سمات هذا الحقل أن التغيرات العميقة والجذرية لا تطرأ عليه بسرعة كما هو الحال في حقول التقنيات والاقتصاد والسياسة، بل أن هناك ثوابت ثقافية ( من قيم ومعتقدات ) تبقى فاعلة لقرون طويلة. قد يضعف تأثيرها أحياناً، لكنها لا يمكن أن تتعرض لعطب كلي، أو أن تموت، لأنها قائمة وعاملة في لا شعور وضمير ووعي وعقل ووجدان شرائح واسعة من المجتمع. فالحقل الثقافي يحافظ على، ويتداخل مع، ويغذي أيضاً المكوّن النفسي للمجتمع.. إن نمطاً اقتصادياً مغايراً وتقنية جديدة، والتبدلات في البرامج والنظم السياسية والاجتماعية لا يمكن أن تقلب، بين ليلة وضحاها، هوية وشخصية جماعة بشرية، رأساً على عقب، وأن تجتث جذورها الثقافية، بيد أنها، لا شك، تُحدث صدمات متلاحقة، وتفرض حالات من التكيف والتغيير، وإنْ بشكل بطيئ نسبياً.
أثبتت التجارب أن معالجة الاضطراب السياسي والخراب الاقتصادي تجري بسهولة أكبر فيما إذا حافظت الجماعة على تماسك وحيوية أرضيتها الثقافية كما حصل مع اليابان وألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية. وهذا لا يعني قطعاً جمود الحقل الثقافي، من حيث أن الثقافة، بحسب التعريف الشهير لتايلور؛ "هي ذلك الكل المركّب من المعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والأعراف وكل القدرات والعادات التي حصل عليها الإنسان عبر عضويته الاجتماعية". والمجتمعات الحية هي تلك التي تطوِّر قيمها الثقافية، وتكيفها مع الضرورات المستجدة. ولأن من العسير إحداث قطيعة كلية، سريعة، في التاريخ الثقافي لمجتمع ما. من هنا، لابد، عند وضع قواعد وإستراتيجيات أي مشروع ثقافي، من النظر العلمي المنهجي إلى تاريخ ثقافة المجتمع. فيما لا يتطلب مثل هذا الأمر عند التعاطي مع قضايا أخرى مثل ترسيم خطة اقتصادية، أو تصميم برنامج سياسي.
بالمقابل، أفضي تطور حقول العلم والتقنيات، ومن ثم وسائل الإتصال والمعلوماتية، في راهن حياتنا إلى تراكم وتبادل معرفيين غير مسبوقين، باتا يؤثران على، ويهزان أسس عناصر الترسيمة الثقافية السائدة باتجاه تحويلها وتكييفها مع روح وضرورات عصر جديد؛ ( المفاهيم المتداولة، والقيم، والقناعات، والأفكار، والعلاقات، والسلوك، والرؤية إلى الذات والتاريخ والمجتمع والكون ). وفي هذا الخضم لابد أن يضغط على أذهان نخب عالم الجنوب ( حيث ننتمي ) سؤال مؤداه؛ كيف يمكن توفير شروط ومقومات صناعة ثقافية دينامية، تلاحق التغيرات الفائقة السرعة، العميقة والمربكة، في الحقول المعرفية والتقنية والمؤسساتية، وتتمثلها، وتسمو إلى مستوى تحديات العصر؟. صناعة ثقافية تغدو جزءاً من عملية التنمية الاجتماعية المركّبة. وربما المحرّك الأول لها. وذلك هو الرهان الكبير والصعب الذي يعني الإغفال عنه إعادة إنتاج التخلف والهزائم، مراراً وتكراراً.
لا يُعالج الشأن الثقافي ومستقبله، ، بإجراءات مؤقتة محدودة النطاق والتأثير، أو بإخضاعه للتجريب الاعتباطي، وإنما بوضع إستراتيجية مشروع مستقبلي، مرن وقابل للتطور، تقوم بتحديد تفاصيلها، وتتبناها، النخب والمؤسسات الثقافية والفكرية والعلمية والأكاديمية، وحتى السياسية طالما، أنها ( أي الإستراتيجية ) ستكون جزءاً يتمفصل مع المشروع الحضاري للدولة والمجتمع. وأحسب أن من أولويات تلك الإستراتيجية؛
1ـ بناء قاعدة تحتية، ذات مواصفات عصرية وحضارية للثقافة، وإنتاجها: ( مسارح، متاحف، مدينة إنتاج سينمائي، دور عرض سينمائية، مطابع ودور نشر وتوزيع، مكتبات، قاعات عروض للفنون التشكيلية، مدينة إعلامية، الخ ).
2ـ وضع تشريعات تحمي حرية الرأي والفكر والتعبير، من غير لبس، وتيسر قيام وعمل المؤسسات الثقافية الحرة. وتؤكد على حقوق الملكية الفكرية والثقافية وتصونها. وتوفير ضمان اجتماعي لائق بشريحة المبدعين في حقول الثقافة كافة.
3ـ جعل نشر الثقافة الراقية التي تكرّس حب المعرفة، وتربية الذائقة الجمالية، في مركز اهتمام الدولة ومؤسساتها، ولاسيما التربوية والتعليمية.
4ـ جعل التنمية الثقافية في صميم التنمية الاجتماعية. والمشروع الثقافي جزءاً من مشروع الدولة العراقية ذاتها. وهذا يتطلب، بطبيعة الحال، تخصيص نسبة كافية من الدخل القومي للاستثمار في الجانب الثقافي، وتنميته.
5ـ إقامة مهرجانات سنوية وموسمية، وطنية وإقليمية وعالمية، ذات طابع احترافي، وبالمعايير العالمية المتقدمة، خاصة بالفنون والآداب. فضلاً عن عقد الندوات الفكرية التي تناقش أهم قضايا الفكر والثقافة والسياسة بمشاركة متخصصين عراقيين وأجانب.
6ـ تخصيص جوائز مجزية، تحمل أسماء الرموز الثقافية العراقية، وفي الحقول الأدبية والفكرية والفنية كافة، تُمنح للمبدعين، سواء من العراقيين، أو غيرهم.
7ـ إحياء التراث الثقافي الوطني المتنوع ( ثقافة ألوان الطيف العراقي )، والحفاظ عليه، بالشكل الذي يعمق الروح الوطنية العراقية.
8ـ إحياء حركة الترجمة، ونقل كنوز المعرفة العالمية إلى اللغات الحية المتداولة في العراق ( العربية، الكردية، التركمانية، السريانية، الخ.. ). وبالعكس، لتعريف العالم بإبداعنا الثقافي.
9ـ تكريم الرموز الثقافية العراقية من الأحياء والراحلين، وإطلاق أسمائهم على الشوارع والساحات والقاعات والمكتبات، الخ.
والقائمة تطول...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مين اعترف بالحب قبل.. بيسان أو محمود؟ ????


.. العراق.. اهتمام شعبي لافت بالجرحى الفلسطينيين القادمين من غز




.. الانتخابات الأوروبية: انتكاسة مريرة للخضر بعد معجزة 2019.. م


.. أغذية فاسدة أو ملوثة، سلع مستوردة مجهولة المصدر.. كيف نضمن ج




.. هنا تم احتجازهم وهكذا تم تحريرهم.. مراسل سكاي نيوز عربية من