الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلطة المنطق التوحيدي وقانون التدافع

عبد الرحمن كاظم زيارة

2009 / 6 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن وعي البديهيات واعمام هذا الوعي عالميا ، وأمميا لايتحقق بسهولة ، بل هوامر محال بدليل ان الرسالات السماوية نفسها التي تجتمع فيها القوة الالهية الى جانب القوة البشرية لم تستطع في جعل دين سماوي واحد بقادر على جمع البشر كلهم على نظام بديهي واحد. بل ان بديهية واحدة كبديهية وحدانية الخالق لم تصبح بديهية عالمية بعد. زد على ذلك ان كل الايديولوجيات والعقائد الوضعية ليست افضل حظا من الاديان السماوية في الانتشار الاممي .. وكل يدعو الى نفسه .. وكل يدعي ان نهجه هو نهج الحقيقة وان المؤمنين بدعوته هم الفرقة الناجية وسواهم الى جهنم وبئس المصير . ويبدو ان انعدام ظاهرة الانتشار الاممي على كامل الارض حتى من قبل آخر الاديان ، وبرغم ما توفرله من " ارادة الهية " آمرة بالدعوة المستمرة ، ودولة مترامية الاطراف غنية باجناسها البشرية المتنوعة، وغنية بمواردها ، ومرنة في تشكيلاتها الادارية والتنظيمية ، وتوافرها على مقومات وموارد للقوة عظيمة بمعانيها العقائدية والاقتصادية والتنظيمية والسياسية والاجتماعية ..ومع كل ذلك بقي جزءا كبيرا من الارض لم ير نور الاسلام ، بل ان جماعات وطنية واثنية وحتى قومية كونت لنفسها اسلاما يختلف عن اسلام جماعات أخرى حتى وصلت العلاقة فيما بينها حدا دمويا من الصراعات ، وسجالات تاريخية معمدة بوقائع الحروب والدسائس .
ويتضح ان تدافع الناس ، بمعنى اختلافهم وتنوعهم هو احد القوانين الكونية التي تغذي اسباب استمرار الحياة الانسانية. وأيضا لربما ان هذا التدافع الذي يقره القران الكريم نفسه هو العنصر المضاد لانشاء سلطة أممية تبدأ من الانسان وتنعكس في دولة واحدة موحدة . ولو كان ثمة صلة بين سكان كوكبنا وسكان كوكب آخر لانتقل التدافع الى مجالات الصلة بين الكوكبين .
ورد في الذكرالحكيم :
(1){فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }البقرة251.
(2){الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحج40.
(3){ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ }المؤمنون 96 .
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }فصلت 34 .
(4){وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }آل عمران167.
هذه بعض الحقائق التي تمهد الى القول بانعدام وعي انساني بالبديهيات الانسانية ،بمعنى ذلك الوعي المشترك الذي يؤسس سلطة لاتتجسد بتنظيم أو مؤسسة او دولة او حزب أو امة .. لأن هذه التشكيلات متمايزة وكل تمايز ينطوي على شئ من المحكات الخارجية مدعمة بمحكات داخلية يسوسها الانتماء الذي هو غالبا متوارث .. حتى يمكن القول ان تمايز هذه التشكيلات اساسه بيئي ، أما الوراثي فهومتضمن في ذلك البيئي . نولد وتلتصق بنا هويتنا التي تدمج هوياتنا الجزئية : دينية هي بالحتم طائفية ومذهبية ، قومية ، طبقية .. وكل شئ في الهويات الجزئية ينطق بالبيئة ويولد عنها ويتنفس من خلالها . حتى ان الافكار الشمولية بالمعنى الفلسفي ـ وليس بالمعنى الذي وضعه الليبراليون ـ تأخذ مداها في دورة تاريخية لابد انها واصلة الى ذروتها فترتد الى محلية تنتسب الى بيئة ما ،وتضحى سمة ثقافية تطبع البيئة المحلية بطابعها ، وتخلق نوعا من الالتزام ببعد تعصبي ازاء الآخر. هذه التحولات عبر حلقات التاريخ القديم والمعاصر مثلت على الدوام نسفا للبديهيات التوحيدية او على الاقل للبديهيات التي تدعي انها توحيدية على مستوى الفرد والامة والمجتمع الانساني . اما محاولات فرض البديهيات عبر تنظيمات كمنظمة الامم المتحدة مثلا ،فهي اسخف من السخف نفسه .وهي اشبه بقفازات مخملية تخفي اياد ظلت على الدوام آثمة .
فاذن ما الذي يوحد الجنس البشري ؟ اذا كانت الاديان والعقائد والايديولوجيات ليست بقادرةعلى ذلك ؟ والذي نسأل عنه ليس فكرة اورؤية فهذه احلام ادنى مستوى في فاعليتها من احلام العصافير ولاينبغي حتى لمراهق مهوس باحلام اليقظة ان يفكر بها . انما سؤالنا يتجه الى الوقائع ليستنطقها ، وليفتش عن بناء لم يولد عن فكرة إنسانية ولا عن تنظيم من وضع الانسان ولاتفسره الاديان بحيث تقنع الجميع بها لأن الجميع منقسم على اديان والاديان منقسمة على طوائف والطوائف منقسمة على اشخاص هم رموز الطائفة وكل رمز حامل لمفاتيح الجنة يوزعها على الاحباب والاتباع دون الاعداء والخصوم ، الخصوم بمن فيهم من عثربساق عنزة الرمز فكسرها في يوم مطير، فهذا وامثاله كفار خالدين في النار ، بأدلة" مقدسة" تنط من جراب يدعي القدسية وربما العصمة .
فشخصنة العقيدة تطيح تاليا بكل ما هو بديهي قامت عليه العقيدة . والشخصنة بعد ذلك انقلاب على سلطة البديهيات التوحيدية والموحدة .. والامثلة في هذا كثيرة واكثر من ان تحصى .. والابرز منها فترة صدر الاسلام فلقد كان جميع المؤمنين معنيون به وبنشره ، ثم وبعد ان دارت الدورة التاريخية للدعوة الاسلامية ،حدث الانقلاب على سلطة ما هو بديهي على الناس وللناس فاصبحت الدعوة شأنا للحاكم .. تارة ، وشأنا للفقيه تارة أخرى ..ومازالت هكذا. وفي الاتحاد السوفيتي تكرر الامر وبرغم فسولة الطروحات الماركسية واعتلالها المنطقي في تفسير التاريخ وتؤيلاتها القاصرة للصراعات في المجتمع الانساني وتقيدها بصراع طبقي محض .. فأن المؤمنين بثورة اكتوبر اتخذوا لينين "رمزا مقدسا " ليس لأنه يجسد صورة الامل فيهم بل لان شخصه كما بدا لهم قد اقترن بتلك البديهيات والتي بدت بدورها كما لوكانت ملبية لمبررات خلق الانسان في العيش بسلام وسعادة وحرية .. فماذا حصل بعد ذلك؟ . ان الذي حصل هو أن الديكتاتورية البروليتارية تقلصت الى ديكتاتورية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي.. ثم تقلصت الى ديكاتورية امينها العام. واقترنت تلك "البديهيات" باسماء اشخاص بدوا كما لو كانوا مخلـّصين للعالم من عذاباته المريرة فكانت : الماركسية ـ اللينية ، ثم الستالينية .. ومن ثم اصبحت الصفعة التي يوجهها "الرفيق" بريجنيف لمواطن سوفيتي بلشفي، تكريم ووسام يتقلده .. وضربه لمواطن اسفل ظهره بقدمه هي دفعة نحو الامام وعمل تقدمي .. ورغبات "الرفيق الامين العام " هي أوامر يستنتج منها الحكم والمواعظ والفلتات العبقرية .وكل قرار يتخذه قرار تاريخي وحكيم وكل نقض لقرار اتخذه هو قرار تاريخي وحكيم! إنه داء الشخصنة بأمتياز.
عودة الى السؤال : ما الذي يجمع الناس اليوم من بديهيات ونظم بديهية ؟
والاجابة هي : لاشئ ! .
عدا الاعتبارات الغريزية فهي لاتصح كعوامل توحيد الا على مستوى الجنس الحيواني .والاتجاه الرأسمالي يقوم على غريزة التملك ، اذا صح لنا وصف الرغبة في التملك هي غريزة فوق (حيوانية ـ لا انسانية) . والعلم على ما فيه من حقائق تقوم على بديهيات لاشك فيها تجمع فئات علمية ولايجتمع اليها المجتمع البشري في قناعاته الدينية والقيمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية المتضاربة . وثمة محاولات اتجهت الى تصنيع لغة عالمية كالسبرانو مثلا كمقدمة لبناء وعي يقوم على بديهية توحيدية محمولة في اعتياد الكلام بهذه اللغة .هذه محاولات وغيرها، كلها لم تلغي حقيقة " التدافع " ولولا هذا التدافع لم بقيت الحياة اصلا .
ما يجمع الناس من رؤية لم توجد بعد ، ووجودها مناقض لطبيعة الحياة البشرية ، فهي لن توجد لا في المستقبل المنظور ولا في المستقبل البعيد .
فالبحث عن سلطة توحيدية حقيقية غير قابلة للشخصنة هي :
ـ سلطة ليست عقائدية ولا ايديولوجية ولا ثقافية ولا سياسية فكل هذه الاشياء تحمل في ثناياها قانون التدافع وبما يدل على وجود محكات متمايزة.
ـ سلطة غير قابلة للتمثيل التنظيمي أيضا .لأن التنظيم المؤسسي مقدمة حتمية للشخصنة ، ويصح هذا الاعتقاد حتى في الانظمة الليبرالية فلا وجود لدولة مؤسسات بالمعنى النقي .
ـ سلطة تطلق الحريات ، الحريات غير المسؤولة امام تنظيم او رمز قابلين للشخصنة بل حرية تضمن حريات الآخرين كخيار داخلي .
لم يحصل هذا الا في فترةمحدودة في صدر الاسلام وفي مجتمع محدود هو الآخر. فلقد تحول الانسان من شخص منقاد الى قبيلته في كل خيرها وشرها فاضحى منقادا الى الله يخافه وحده ولايخاف سواه .. ومخافة الله هي مركز تتكاثف فيه كل الصفات الجميلة التي يتمناها كل انسان وهنا مكمن الحرية الحقة .
ـ سلطة يختارها الانسان عبر وعيه المستمر بالبديهيات الموحدة والتي تعطي لحياته معنى .
مرة أخرى ، سلطة بهذه المواصفات تنأى عن مرْكـَزة التوجيه والالزام والقانون الجزائي، لهي شكل من اشكال اليوتيبيا .ودائما تظل القيم المرغوبة مقترنة بالعسف وهذا دليل كاف على نقص البداهة والحاجة الى سلطة المنطق التوحيدي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استعدادات إسرائيلية ومؤشرات على تصعيد محتمل مع حزب الله | #غ


.. سائق بن غفير يتجاوز إشارة حمراء ما تسبب بحادث أدى إلى إصابة




.. قراءة عسكرية.. المنطقة الوسطى من قطاع غزة تتعرض لأحزمة نارية


.. السيارات الكهربائية تفجر حربا جديدة بين الصين والغرب




.. طلاب أميركيون للعربية: نحن هنا لدعم فلسطين وغزة