الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عودة إلى موضوع الدين والعلمانية

نضال الصالح

2009 / 6 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لاحقا لمقالي السابق تحت عنوان "ما الهدف من نقد الفكر الديني" أود أن أعيد التأكيد على حقيقة وهي أن الدين سمة متأصلة في النفس الإنسانية وليس مرحلة وقتية منقضية من تاريخ الإنسانية. أما المؤسسة الدينية فهي كيان مصصطنع مفروض على الحياة الدينية،وأن ظهور هذه المؤسسة وتطورها كان مرهونا بظروف تعقد الحياة الإجتماعية، ولم تكن في يوم من الأيام عنصرا لا غنى عنه للدين. المؤسسة الدينية هي ظاهرة جديدة مرتبطة بحضارة المدينة وبمدى تطور البنى والمؤسسات الإجتماعية والسياسية في مجتمع المدينة.
ونقصد بالدين هنا الأحاسيس والخبرات التي تعرض للأفراد في عزلتهم، وما تقود إليه من تصرفات. وتتعلق هذه الأحاسيس والخبرات بنوع من العلاقة، يشعر الفرد بها بينه وبين ما يعتبره مقدسا وإلهيا. لكن الدين المعبر عن الأحاسيس والخبرات الروحية تحول على أيدي المؤسسة الدينية إلى مؤسسة صارمة التعاليم فأفقدت الدين قدرته عن التعبير عن الأحاسيس والخبرات الروحية للأفراد. وكما يقول رودولف أوتو، وهو لاهوتي ألماني ومن رواد الباحثين في تاريخ وفيمنولوجيا الدين في كتابه "المقدس، أن القدسي قد فقد معناه الأولي وتحول إلى جملة من التشريعات الأخلاقية والسلوكية. أما الحالة الأصلية للوعي بالقدسي فتجربة انفعالية غير عقلية هي أساس الدين. وتنطوي هذه التجربة على مجابهة مع قوى لا تنتمي إلى هذا العالم، تعطي إحساسا مزدوجا بالخوف والإنجذاب معا. وإن الإنقياد إيجابيا إلى هذه التجربة فكرا وعملا هو الذي يكون الدين. ويطلق أوتو عل الإحساس بهذا الآخر المختلف كليا تعبير " الإحساس النيوميني" المشتقة من كلمة نيومن والتي تعني تجلي الألوهية." ثم يقول، أن الدين جزء لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية، وبينما تكون التعبيرات الظاهرية عن الدين عرضة للتغير والتبدل مع الزمن،فإن التكوين السيكولوجي الذي يجعل الدين ممكنا عند الإنسان ثابت لا يتغير."
إذن الدين بهذه الصفة هو سمة متأصلة في النفس الإنسانية وليس بالضرورة أن يتحول إلى مؤسسة دينية أيا كان نوعها وليس أيضا بالضرورة أن تظهر التجربة الدينية الإنفعالية الروحانية حصرا عند المتدينين المنتمين لأي مؤسسة دينية مهما كانت. كما ثبت أنها سمة متأصلة حتى عند من يدعون أنفسهم بالملحدين. الملحدون كما أعرفهم، على الأقل من تجربتي مع الملحدين السلوفاك وهم مثقفون وأكاديميون وفنانون وغيرهم وجلهم واسع الثقافة والمعرفة ولهم تنظيمهم الخاص ومجلتهم الناطقة باسمهم، لا يؤمنون بالله، القوة المستقلة والخارجة عن الكون و الخالقة والمحركة لكل شيء في هذا الكون. كما لا يؤمنون بالرسل والأنبياء المرسلين من الله ولا بالعقاب والثواب في عالم الآخرة ولا مجال هنا لشرح كامل رؤيتهم للكون ووجوده، ولكنهم ليسوا محصنين ضد التجربة الدينية الإنفعالية الروحانية التي تنتج عن كثير من المؤثرات ولا مجال للخوض في التفاصيل. وهذا الفكر ليس بعيدا جدا عن الفكر الصيني وخاصة التاوي. فمفهوم الله الذي نعرفه من الأديان الشرق أوسطية والسماوية التي نبعت وتأسست في الجو الديني الشرق أوسطي لا ينطبق على المعتقدات الدينية الصينية. فمفهوم الإله الخالق للعالم والمتحكم به من خارجه، والمتربع على عرش مملكته، كما في الأديان السماوية لا ينطبق على المفهوم الصيني للإله.
الإله في المفهوم الديني الصيني هو القوة أو الطاقة الفاعلة في الكون من داخله والتي تدفع حركة وتنسيق المظاهر الطبيعية. الكون في مفهوم المعتقدات الصينية، ليس نتاجا لعمل إله سماوي خارج عنه وإنما وحدة حية تعتمد وظائفه على بعضها البعض وفق طاقة تلقائية مغروسة في صميم تركيبه. الكون لم يخلق نتيجة فعل خارجي أو إرادة خارجة عنه، وإنما نتيجة خلق غير إرادي من داخله، لأنه لو كان العالم قد خلق نتيجة إرادة خارجية عنه، فمن الضرورة حينئذ وجود خالق صنع نفسه. لم يعتبر أي من كونفوشيوس أو لاو تسو نفسه رسولا من قبل السماء، يحمل رسالة إلهية للبشر، بل انسانا يعمل على التلاؤم مع النظام الكوني، واعتبر كلاهما أن الإنسان ليس كائنا مستقلا عن الكون، وكلما سلك الإنسان سلوكا متلائما ومتفقا مع النظام الكوني كلما عاش حياة أكثر سعادة.
لقد صيغت الكونفوشية والتاوية بطريقة حكموية،بعيدة كل البعد عن الطابع الديني للرسالات السماوية المعروفة. وبخلاف الكونفوشية التي تركز على القانون الأخلاقي في المجتمع باعتباره صورة عن النظام الكوني، فإن التاوية لا تأبه للأخلاق المفروضة على الإنسان من الخارج، بل ترى أن السلوك التلقائي للإنسان إذا ترك على سجيته فإنه سينحو منحا أخلاقيا. إن تعاليم الاستقامة وأفعال الخير لا ضرورة لها عندما يعيش الناس وفق طبيعتهم الأصلية ، وإن المفكرين الذين يعملون على صلاح المجتمع لا حاجة إليهم عندما يسود التناغم علاقات الأفراد والجماعات . ومهما بالغنا في فرض اللوائح الأخلاقية من الخارج ، فإن هذه اللوائح تبقى مصطنعة وبدون فاعلية إذا لم تكن المرجعية الأخلاقية هي ذاته ونابعة من داخله.
مفهوم الأقطاب في الفكر الصيني بمختلف تياراته،يختلف عن مفهوم الأضداد في الأديان الشرق أوسطية أو المسماة سماوية، أي اليهودية والمسيحية والاسلام . في مفهوم الأديان السماوية المذكورة، هناك صراع أبدي بين الأضداد، فالخير يصارع الشر، والحياة ضد الموت، والظلام ضد النور وهكذا صراع على السيادة بين كل نقيض ونقيضه. أما في مفهوم الفكر الصيني فإن الأقطاب لا تتصارع ولكنها في حركة تعاونية، وتوازن الكون هو نتيجة لتعاون هذا الأقطاب على كل صعيد . الأقطاب في الفكر الصيني لا تتصارع على السيادة وعلى إلغاء الآخر،لأن كل ضد يأخذ معناه ووجوده من ضده، فلا نور بدون ظلام ولا معنى للخير بدون وجود الشر ولا للحياة بدون الموت وهكذا.
هذا الفكر يحمله مئات الملايين من الناس ولا نستطيع أن نقول بأنهم أقل سعادة أو أخلاقا من حملة الديانات التي تسمي نفسها سماوية، بل على العكس ومن تجربتي الخاصة لم أجد أكثر تواضعا وبساطة وراحة نفس من حملة الفكر التاوي الذين لا يطمعون لا بثواب من السماء ولا يخافون منها عقابا.
أنا علماني ولست تابعا إلى أي مؤسسة دينية مهما كان اسمها وتجربتي الدينية شيء خاص بي ولا لأحد أي كان له علاقة بها، وعندما اقول أنني مسلم، يعني أنني ولدت وترعرعت كفرد في المجتمع الإسلامي وأنتمي للثقافة التي أنتجها إبن رشد وإبن خلدون وإبن عربي وإبن سينا والجاحظ وغيرهم وأرفض الإنتماء إلى فكر الحنبلي والمدارس الأربعة والأشعري والغزالي وابن تيمية والمودودي وقطب وغيرهم، وموقفي من الدين كعلماني موقف حيادي ولكنني كعلماني أيضا أنتقد بعنف الخطاب الديني ومؤسساته لأنهم يغتصبون العقل وحرية الفكر. فهل في هذا تناقض؟ لا أعتقد ذلك، فما انكف العلمانيون العرب بمختلف أطيافهم عن إعادة القول بأن العلمانية هي علاقة حياد إيجابي تجاه جميع الأديان والإيديولوجيات ولا تعني على الاطلاق إلحادًا ولا شكًّا ولا ابتعادًا تجاه الأديان والإيدولوجيات، بل اعتبار أن لكلِّ جهة كيانَها وقيمتَها من دون رفض الآخر أو استيعابه. وهي تؤكد على قيمة كلِّ إنسان وعلى حق المواطنة الكامل له من دون الرجوع إلى معتقده الديني. وأن العلمانية لا تهدف إلى سلب إيمان أحد، فلكل فرد في المجتمع كامل الحق في اختيار دينه والقيام بشعائره على شرط أن لا يفرض معتقده على الاخر وأن لا يسعى لإلغاء الآخر. كما للفرد الحق في أن يغير دينه أو أن يكون ملحدا دون التعرض للأذى الفكري والجسدي من أي جهة كانت . المبارزة بالنصوص الدينية وأيهما أفضل ديني أم دينك هي مبارزة عبثية دارت بين الأديان وخاصة بين الإسلام والمسيحية، طوال مئات السنين ولم تؤدي إلى إي نتيجة ولا علاقة لها بالبراهين العقلية، فإما أن تؤمن أو لا تؤمن ولا علاقة لها بالعقل والفكر العقلاني.
لقد أكد العلمانيون العرب على أن الدولة التي تعادي الدين وتعادي الفكر والرأي الآخر مهما كانت صفتها، ليست بدولة علمانية وإن ادعت ذلك. العلمانية الحقيقة لا يمكن أن تكون ديكتاتورية، لأن الأساس الذي تقوم عليه العلمانيه هو الإعتراف بالغير وقبوله مهما كان دينه ورأيه بعكس الدكتاتورية فهي ترفض الغير وتلغيه.
كلنا يعرف ويعي مدى صعوبة تحقيق هذه الأهداف ولكنها أهداف سامية ولا غنى عنها من أجل تحرر الفكر والمجتمع العربي واللحاق بركب الحضارة العالمية. ولكن كيف نزرع هذا الفكر في العقل العربي وكيف ننمي العقلانية والتنويرية فيه والعقل العربي يعيش تحت سلطة خطباء الجوامع وخطباء الشاشات التلفزيونية الممولة بالبترودولار؟ المساجد وخطباءها منتشرون في كل حارة وكل قرية وكل خربة. قريتنا التي لا يتجاوز عدد سكانها الستمائة نفر فيها أربع مساجد ومدرسة واحدة إبتدائية، وقس على ذلك. المحطات التلفزيونية البترودولارية تبث فكرها المتحجر طوال الليل والنهار وبدون توقف وتدخل على المواطن العربي حتى في غرفة نومة وطعامه وجلوسه. لقد أصبح خطباء شاشات التلفزيون هذه أشهر من المغنين والممثلين ولا أقول من المفكرين لأن المفكرين في بلادنا آخر من يفكر بهم. الكتب الدينية الأصولية تملأ الأرصفة، والفكر التنويري لا يجد من ينشره والكتب التنويرية إن ظهرت للوجود فإنها تبيع في الوطن العربي ذي المئتي مليون نسمة أو يزيد بعض مئات من النسخ أو بضع آلاف إن حصلت على الدعم الإعلامي.
كيف نزرع الفكر التنويري في العقل العربي وقوى السلطة في البلدان العربية وحتى تلك التي تدعي الديموقراطية ومحاربة الأصولية الدينية وإرهابها، تحجر على الفكر التنويري وتسعى لنيل رضى المؤسسة الدينية ومشروع قانون الأحوال الشخصية في سوريا دليل على ذلك.
لا شك أن هذا السؤال ينخر في عقل كل مفكر تنويري وعلماني ويبحث جاهدا عن جواب له. الحقيقة الواضحة أنه لا يوجد جواب قطعي على هذه المسألة المعقدة ومن يقول أنه يملك عصاة سحرية لحلها فهو يخدع نفسه قبل أن يخدع الاخرين. ولكن ما أستطيع قوله بدون تردد أن تنوير الفكر في عالمنا العربي معركة طويلة الأمد تبدأ بالكلمة، والكلمة النيرة كالشمعة وحين تتكائر الشموع المضيئة يعم النور في هذا النفق المظلم. إنها عملية فكرية معقدة طويلة الأمد ويحتاج ذلك إلى جهد ضخم من كل التنويريين بمختلف أطيافهم وعقائدهم وعلى رأسهم العلمانيون بمختلف اتجاهاتهم الفكرية وأصولهم الدينية.
د. نضال الصالح











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - السلام عليكم
طلعت خيري ( 2009 / 6 / 25 - 20:05 )
سيادة الدكتور شكراعلى الرد على تعليق السابق

هذا يعني سيطرة الفكر الديني اقوى من التغير العلماني ولا سيما هناك جماعات تكفيريه تامر بتكفير العلمانين حتى يبقى الفكر الديني فوق كل شي

لاكن انا متاكد لو ان العلمانين احتاجوا القاعده الدينيه كقاعده جماهيريه للدعم السياسي لستغلوا تلك القاعده الدينه لذلك الدعم
المهم ان التغير لابد ان يكون دينيا ... سيبقى الاسلام السياسي حكرا بيد المرجعيات الدينيه ولا يمكن للاسلامين او العلمانين التغير


2 - الين
محمد ( 2012 / 6 / 22 - 19:34 )
عيز اجلمج عن الين

اخر الافلام

.. الرئيس #السيسي يستقبل سلطان البهرة ويشيد بدور الطائفة في ترم


.. 116-Al-Baqarah




.. 112-Al-Baqarah


.. سي إن إن تكشف عن فظائع مروعة بحق فلسطينيين في سجن إسرائيلي غ




.. نائب فرنسي: -الإخوان- قامت بتمويل الدعاية ضدنا في أفريقيا