الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هنري غوهييه مؤرخاً للفلسفة أو الفلسفة بين العلم والدين

هاشم صالح

2009 / 6 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الاربعاء 3 أيلول (سبتمبر) 2008

------------------------
من المؤسف والمجحف أن نسمع بأسماء ميشيل فوكو وديلوز ودريدا ولا نسمع باسم هنري غوهيه الذي هو أستاذهم جميعاً. هكذا نجد أن المثقفين العرب، وأنا من بينهم، يركزون على بعض الأسماء في الغرب ويهملون بعضها الآخر. وكثيراً ما نهمل شخصيات مهمة كان لها دورها في تاريخ الفكر. من بين هذه الشخصيات المحترمة هنري غوهييه الذي ولد في باريس عام 1898 ومات قبل أعوام قليلة بعد أن بلغ من العمر عتياً. وكان يعتبر عميد الفلاسفة الفرنسيين بدون منازع. وقد امتاز بالحكمة ورجاحة العقل وعدم إلقاء الكلام على عواهنه. فأسلوبه يتميز دائماً بالدقة والصرامة والوضوح والتقشف في آن معاً. وقد ألّف غوهييه ما لا يقل عن الثلاثين أو الأربعين كتاباً في تاريخ الفلسفة. وكلها تعتبر مراجع موثوقة يستشيرها الطلبة الجامعيون والأساتذة .
ومن المؤسف جداً أنه لم يترجم حتى الآن إلى العربية. ولكن من يسمع به إلا حفنة من المختصين في المشرق والمغرب على حدّ سواء؟ وكل كتب غوهييه تقريباً تتركز على تاريخ الفلسفة من ديكارت وحتى اليوم. فإذا أردت أن تطلع على تاريخ الفلسفة الفرنسية طيلة القرون الثلاثة الماضية فما عليك إلا أن تلجأ إلى مؤلفات هذا العالم الفذّ. فهو يعطيك صورة دقيقة موثوقة عنها. ولا أحد يجاريه من حيث التبحُّر في العلم أو الدقة في الوصف والتحليل. وكان عضواً في الأكاديمية الفرنسية، ثم في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية. وهكذا وصل إلى أعلى المناصب العلمية الفرنسية. من أهمّ كتبه يمكن أن نذكر: الفكر الدينيّ لديكارت، مقالات حول ديكارت، الأفكار الأولى لديكارت، الفكر الميتافيزيقي لديكارت، فلسفة مالبرانش وتجربته الدينية، شباب أوغست كونت وتشكيل الفلسفة الوضعية، أوغست كونت وسان سيمون، حياة أوغست كونت، التأملات الميتافيزيقية لجان جاك روسو، دراسات حول تاريخ الأفكار في فرنسا منذ القرن السابع عشر… هكذا نجد أنّ اللائحة طويلة رغم أني لم أذكر إلا بعض المراجع . وقد طرح عليه أحدهم هذا السؤال: نلاحظ أنّ تاريخ الفلسفة وكذلك العلاقة بين الفلسفة والدين كانا دائماً في مركز اهتماماتك. فلماذا يا ترى؟ فأجاب البروفيسور هنري غوهييه بما يلي:

نعم هذا صحيح. فأوّل مقالة لي كانت بعنوان: الإيمان والعقل لدى ديكارت. ثم غطست بعدئذ في المناخ الدينيّ للقرن السابع عشر. وبعدئذ تعرّفت على ايتيان غيلسون المؤرخ المشهور لتاريخ الفلسفة في القرون الوسطى. وقلت له بأني راغب في تحضير شهادة الدكتوراه على يديه.

وكانت تلك بداية صداقة كبيرة بيننا. وبعدئذ فهمت أنّ الفلسفة لا تجد مصدرها فيها وإنما في شيء خارج عليها. أو قل أنّ لها مصدرين أساسيين في الواقع، الأوّل هو العلم، والثاني هو الدين. فكبار الفلاسفة على مرّ العصور إما أنهم تأثروا بالعلم، وإما أنهم تأثروا بالتجربة الدينية الصوفية ثم انطلقوا في تأملاتهم الفلسفية من هذه أو ذاك. ولكن بما أن العلم يتغير فإن الفلسفة أيضاً تتغير وتشكل في كل مرة رؤيا جديدة عن العالم. هكذا نجد فلسفة ديكارت تقدم رؤيا معينة عن العالم، ثم تجيء بعدها فلسفة كانط كي تقدم رؤيا أخرى، ثم فلسفة هيغل، وهكذا دواليك.. لقد اهتممت بالمذهب الكاثوليكيّ وتأثيره على الفلاسفة لأنه هو الغالب في فرنسا. ولكني اهتممت أيضاً بالدين الطبيعيّ أي العقلانيّ لجان جاك روسو، أو بدين البشرية لأوغست كونت. وهناك فلاسفة يتأثرون بالعلم والدين في آن معاً قبل أن يبلوروا فلسفتهم الخاصة. نذكر من بينهم مالبرانش صاحب الكتاب الشهير: "البحث عن الحقيقة". فالإبداع الفلسفي لدى مالبرانش ناتج عن تحولات العلم التي أحدثها ديكارت في عصره، وعن المنظور الدينيّ المسيحيّ الذي لا علاقة له إطلاقاً بديكارت، ولا بأرسطو ولا بأيّ فيلسوف آخر. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن اوغست كونت. فقد قدم نظرية جديدة عن العلم للبشرية الأوروبية هي الفلسفة الوضعية ثم قدم أيضا نظرية جديدة عن الدين كي تحلّ محلّ المسيحية. ومعلوم انه في ظل الثورة الفرنسية راح الفلاسفة يعتقدون بأن تقدم العلم سوف يقضي على العهد المسيحي وعلى الإيمان والدين. وراحوا يقدمون تقويماً جديداً للشهور والسنوات مختلفاً عن التقويم المسيحيّ . وكان ذلك بمثابة ردّ فعل عنيف على الأصولية المسيحية التي خنقت الروح العلمية طيلة قرون وقرون. والواقع أن المسيحية لم تنته كليا وان كانت قد ضعفت وتهمشت كثيرا. ولكن فهمها تغير فلم يعد أصوليا متعصبا على الأقل في بلدان الغرب المتطورة. ثم جاء بعدهم اوغست كونت بثلاثين أو أربعين سنة وراح يخترع أيضاً ديناً جديداً للبشرية مع تقويم أو روزمانة زمنية خاصة. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن بيرغسون. نحن نعرف أن الفلسفة اتخذت علم الرياضيات كنموذج أعلى لها في القرن السابع عشر أيام ديكارت وغاليليو. ولكنها في القرن التاسع عشر وبداية العشرين راحت تعتبر علم البيولوجيا (أو الأحياء) هو النموذج الأعلى كما برهن على ذلك بيرغسون في مؤلفاته وبخاصة كتابه الشهير: التطور الخلاق. ولكن هذا الفيلسوف يمتلك أيضاً نوعاً من اللهب الداخلي أو الشرارة الأساسية والحدس الاستكشافي المبدع. وهذا ما أتاح له أن يدمج التجربة الصوفية أو الروحية أو الدينية داخل فلسفته العلمية. وإذن فقد تأثر بالمصدرين الأساسيين للفلسفة ولكل فكر بشري: مصدر العلم، ومصدر الدين.

ثم يردف البروفيسور هنري غوهييه قائلا بما معناه:

هكذا رحت أعمّق مشروعي الفكري وأبلوره بشكل منتظم أكثر فأكثر. وقد فكرت في إحدى اللحظات بأن أقدمه تحت عنوان مستلهم من عنوان كتاب لناقد أدبي يدعى بريمون. وقد ألّف كتاباً بعنوان: التاريخ الأدبي للعاطفة الدينية. وفيه درس العاطفة الدينية كما تتجلّى من خلال الأدب الفرنسي على مدار القرون . فالأدب أيضا له علاقة بالدين أو قل يعكس الدين في شعره ونثره. وأما أنا ففكرت في وضع كل أعمالي تحت العنوان العريض التالي: "التاريخ الفلسفي للعاطفة الدينية". ولكني خفت من الخلط بين المشروعين فعدلت عن ذلك.بالطبع فأنا، مثل بريمون، أفعل ذلك كعلماني أولا وأخيرا وأدرس الدين من الخارج كفيلسوف علماني حر لا كمؤمن دوغمائي مقيد بالعقائد والطقوس.


هل يعني ذلك أنه لا يمكن للفكر الفلسفي أن يكون مستقلاً عن الاستلهام الديني؟ على هذا التساؤل يجيب هنري غوهييه قائلاً: أنا لم أقل ذلك. أحياناً يوجد مصدران للفكر الفلسفيّ وأحياناً يوجد مصدر واحد فقط. فمثلاً لا يمكننا القول بأن النظام الفلسفيّ لجان جاك روسو مدين للعلم بشيء كثير. وإنما هو مدين لذلك النوع من التجارب الداخلية والحادة للوعي الذاتي أو الداخلي العاطفي. ولكن بشكل عام نجد المصدرين في آن معاً كما هو عليه الحال لدى مالبرانش كما قلنا. فمالبرانش كان يستلهم العلم والدين في فلسفته لأنه كان هو شخصيا رجل دين وعالما في الوقت نفسه. وهناك حالة خاصة تتمثل في المفكر الشهير باسكال. فقد كان عالماً كبيراً في البداية ثم أصبح متديناً كبيراً في النهاية. وهكذا ماتت الفلسفة عنده بعد أن تحوّل إلى الدين كليا وانصهر فيه.. فهذا المفكر العملاق استقال عقله بعد انطلاقة رائعة للأسف الشديد. لماذا؟ لأنه كان متشائما بالوضع البشري ويرى أن أهمية الفلسفة تكمن في شيء واحد فقط: هو البرهنة على أنها فشلت في نهاية المطاف! ولم يبق إلا الدين في الساحة. أنا لا أنكر أهمية التأويلات الحالية التي يقوم بها بعض الفلاسفة المعاصرين لفكر باسكال محاولين إنقاذ عقلانيته. ولكن ينبغي الاعتراف بان باسكال يهتم بالفلسفة ضمن مقياس واحد فقط: هو أنها لا تستطيع أن تفعل أي شيء… إنها عاجزة عن أن تقول لنا ما الذي سيحدث بعد الموت أو ما هو المصير النهائي للإنسان… وحده الدين قادر على ذلك في رأيه…ولهذا السبب هاجم ديكارت بعنف وقال عنه عبارته الشهيرة: ديكارت غير مجد وغير موثوق، لا تتبعوه! وذلك لان ديكارت كان يؤمن بالعلم وانه سيخلص البشرية من الجهل والفقر والمرض ويجعلنا أسيادا على الطبيعة ومالكين لها. وبالفعل فان مشروعه تحقق في القرون التالية ونتجت عنه كل الحضارة الحديثة. وبالتالي فقد صدقت نبوءة ديكارت المتفائل وفشلت نبوءة باسكال المتشائم.

ثم يردف هنري غوهييه قائلاً: أنا أقوم بكتابة تاريخ شخصيّ بحت للفلسفة، أي من خلال أشخاص أو أفراد يدعون بالفلاسفة: ديكارت، مالبرانش، باسكال، جان جاك روسو، اوغست كونت، الخ…لماذا؟ لأني عشت في فترة انصرف فيها المؤرخون عن التاريخ الحداثي الوقائعي الذي يقوم به الأبطال والقادة العسكريون، والسياسيون، الخ… وكانت هذه هي منهجية مدرسة "الحوليات" الفرنسية كما هو معروف. ولا ريب في أنه كان معها الحق في الانقلاب على المنهجية التقليدية في علم التاريخ. فقد ركزت اهتمامها على دراسة البنى الاقتصادية والاجتماعية بالدرجة الأولى وأهملت دور الفرد أو البطل في صناعة التاريخ. ولكني وجدت نفسي في حالة معاكسة تماماً. فمؤرخو الفلسفة في وقتي، أي قبل خمسين سنة، كانوا يكتبون تاريخ الفلسفة بشكل لا شخصي تماماً. كانوا يكرسون فصلاً صغيرا واحداً فقط للسيرة الذاتية للفيلسوف ثم ينتقلون بعدئذ مباشرة إلى دراسة نظامه الفكري بكل مصطلحاته ومفاهيمه التي تستغرق معظم الكتاب. كانوا يهملون الشخص لصالح النظام الفكري. وقد قمت أنا بردّ فعل ضدّ هذه المنهجية في دراسة تاريخ الفلسفة. ورحت أكتب التاريخ الشخصي والوقائعي أو الحدثي لكل فيلسوف. وقلت بيني وبين نفسي: في البداية كانت هناك حزمة من الأوراق البيضاء، وريشة، ومحبرة. وكان هناك شخص عبقري اهتدى إلى الحقيقة بعد طول حيرة وضياع وبحث وتنقيب يدعى: رينيه ديكارت. وكان يجلس خلف الطاولة. وعن هذا الجلوس نتج ذلك الكتاب الذي يدعى: مقال في المنهج. إنه حدث حقيقي في تاريخ الفلسفة.لقد غير مجرى التاريخ.. وينبغي أن ندرسه كما هو بكل طزاجته وبراءته الأولى. ينبغي أن ننظر إليه بكل قيمته كحدث رهيب، كحدث تدشيني في تاريخ الفكر، كانقلاب كامل على أرسطو وكل فلسفة العصور الوسطى.. ونفس الشيء يمكن أن نقوله عن كتاب سبينوزا: مقالة في اللاهوت السياسي حيث نقد الدينين المسيحي واليهودي نقدا راديكاليا.

وعن هذا النقد نتجت العلمانية والحداثة السياسية لاحقا أو قل تمّ تحرير السياسة من ربقة اللاهوت وطغيان رجال الدين. ويمكن أن نذكر أيضا كتاب كانط: نقد العقل النظري الخالص أي الميتافيزيقي، أو كتاب روسو: العقد الاجتماعي الخ..كل هذه الكتب وسواها تعتبر منارات في تاريخ الفكر البشري. هكذا رحت أؤرخ للفلسفة والفلاسفة، أو قل للفلسفة من خلال الفلاسفة كأشخاص من لحم ودم..فالشخص مهم أيضا وله دور كبير في صناعة التاريخ إذا كان بحجم ديكارت أو سبينوزا أو روسو أو كانط أو هيغل أو نيتشه أو هيدغر أو سواهم من كبار الفلاسفة. هؤلاء "ظهورات" في التاريخ، هؤلاء ليسوا أشخاصا عاديين مثلي ومثلك..هؤلاء لا يجود بهم الزمان إلا قليلا، هؤلاء لا تجود بهم إلا القرون المتطاولة..وفضلهم علينا كبير لأنهم اكتشفوا الحقيقة المخبوءة وأضاؤوا لنا الطريق.. وبهذا المعنى فأنا من مؤيدي كتابة تاريخ الفلسفة على النحو الذي تحتل فيه السيرة الذاتية للفيلسوف أهمية كبرى. فالفيلسوف قبل أن يتوصل إلى الحقيقة كان قد عانى ما عاناه وربما أشرف على الهلاك أو حتى على الجنون كما حصل لديكارت مثلا. انظر قصة الأحلام الثلاثة المرعبة التي رآها في المنام ليلة 10 نوفمبر 1619 وهزته هزا إلى حد انه أخذ يشك بحواسه وجسده وعقله وكل شيء. وقد سبقت مباشرة الكشف الأعظم. وانظر ما حصل لجان جاك روسو وهو سائر على طريق فانسين حيث جاءته اللحظة، لحظة الوحي أو الإلهام الصاعق، فانبطح مباشرة تحت شجرة وغاب عن الوعي تماما ورأى آلاف الأنوار تنهمر عليه من كل حدب وصوب. وعندما استفاق شعر بان قميصه قد تبلل تماما بالدموع التي كان يسفحها دون أن يشعر. لقد اهتدى إلى الحقيقة أخيرا وعرف معنى الكشف والتجلي. بدءا من تلك اللحظة أصبح بالفعل جان جاك روسو لأنه قبل ذلك كان شخصا مجهولا تماما ولا قيمة له. وابتدأ بنشر كتبه التي غيرت وجه العصور الحديثة. وبالتالي فلا يمكن أن نفصل الفلسفات الكبرى عن أصحابها كما يفعل بعض مؤرخي الفلسفة في السوربون عندما يسردون لك تاريخ الفلسفات وراء بعضها البعض بشكل تجريدي وناشف تماما. وأنا إذ أقول هذا الكلام لا أتحدث عن النوادر أو الحكايات الشخصية الصغيرة التي تمتلئ بها حياة كل فيلسوف كأي شخص عادي. وإنما أقصد الأحداث الهامة التي شكلت منعطفات في حياته الشخصية. فعندما نتحدث عن السيرة الذاتية لفيلسوف ما، فإننا نقصد كيفية رؤية هذا الشخص للعالم. وفي منظوري فإن المسائل المنهجية ليست هي التي تفرّق بين مؤرخي الفلسفة، وإنما المسائل التي تخص وجهات النظر. فمن منظور المناهج نلاحظ أن أفضل منهج هو الذي يختصر في طياته جميع المناهج الأخرى. ولكن إذا ما نظرنا إلى الأمور من خلال وجهات النظر، فإننا نستطيع أن نأخذ أو نقبل عدة وجهات نظر وليس فقط وجهة نظر واحدة. وكل فيلسوف كبير يقدم وجهة نظر مختلفة عن العالم.
والواقع أن تاريخ الفلسفة بالنسبة لي يعني كتابة تاريخ رؤى العالم التي شكلها الفلاسفة المتعاقبون على مرّ العصور. ولا أقصد رؤيا العالم بالمعنى الهيغلي أو الماركسي، وإنما رؤيا العالم بالمعنى الحرفي: أي كيف يرى الفيلسوف العالم. لا ريب في أن كل فيلسوف كبير يشكل رؤيا جديدة عن العالم. يحصل ذلك إلى درجة أننا عندما نطلع على فلسفته نشعر وكأننا نرى العالم لأول مرة! ولكن هناك معنى آخر لرؤيا العالم، معنى حرفي إذا جاز التعبير. لكي نوضح ذلك لنأخذ مثلاً مصطلح المحيط أو الوسط الذي يحيط بالمفكر. فالمحيط الاجتماعي قبل أن يكون حول الفيلسوف موجود في داخله، في الواقع، او قل مستبطن من قبله. وهو يرى العالم من الداخل وبعيون جديدة. ولذلك فإني أتموضع داخل مالبرانش مثلاً لكي أفهم كيف كان يرى العالم في وقته، أو كيف يستوعب ديكارت وكيف يستخدمه من أجل بلورة فلسفته الخاصة به. وفيما يخص اوغست كونت الذي كان يتأمل في أحداث عصره، أي في الثورة الفرنسية والثورة الصناعية على وجه الخصوص، فقد حاولت بالطبع أن أدرس بشكل موضوعي أحداث فترته والنصوص التي كان يقرؤها ويتأثر بها. ولكني حاولت أيضاً أن أدرسها من خلاله لكي أعرف كيف كان يرى تلك الأحداث، وكيف كان يفهم تلك النصوص. بمعنى آخر فاني كنت اضع نفسي مكانه وأتموضع في عصره وبيئته ناسيا إني أعيش في عصري وبيئتي: أي في القرن العشرين. باختصار فإن الفرق بيني وبين مؤرخي الفلسفة الآخرين "كمارسيل غيرو" مثلا هو أني أقوم بكتابة تاريخ تاريخي للفلسفة، في حين أنهم هم يكتبون تاريخاً فلسفياً للفلسفة. يضاف إلى ذلك أني لا أكتب تاريخ الفلسفة المعاصرة. لماذا؟ لأننا لا نعرف من الذي سيبقى، ومن الذي سيزول… ينبغي أن ننتظر وقتاً طويلاً قبل أن نكتب تاريخ الفلسفة المعاصرة لنا. فقد كان هناك فلاسفة كثيرون في القرن السابع عشر. ولكن لم يبق في النهاية إلا اسم ديكارت وباسكال ومالبرانش وسبينوزا ولايبنتز. كل الآخرين زالوا ومحت أسماؤهم من تاريخ الفلسفة وكأنهم لم يوجدوا. فمن سيبقى من الفلاسفة المعاصرين يا ترى؟ سارتر؟أم فوكو؟أم ريكور؟ لا أحد يعرف بشكل مسبق.ينبغي ان ننتظر خمسين سنة أو أكثر لكي نعرف.. فكثيرا ما يشغلنا مفكر ما ويطفو على السطح ونعتقد انه نابغة عصره ثم سرعان ما يزول بعد موته وكأنه فقاعة صابون. وكثيرا ما يتجاهل العصر فيلسوفا عظيما ويهمله أناس زمانه تماما ثم سرعان ما تنفجر شهرته كالقنبلة الموقوتة بعد موته. ونكتشف عندئذ انه ضخم ومهم جدا. واكبر مثال على ذلك نيتشه..









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فاتح مايو 2024 في أفق الحروب الأهلية


.. السداسية العربية تصيغ ورقة لخريطة طريق تشمل 4 مراحل أولها عو




.. آخرهم ترامب.. كل حلفائك باعوك يا نتنياهو


.. -شريكة في الفظائع-.. السودان يتهم بريطانيا بعد ما حدث لـ-جلس




.. -اعتبارات سياسية داخلية-.. لماذا يصر نتنياهو على اجتياح رفح؟