الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقدس وخطر انهيار المعنى

سليم سوزه

2009 / 7 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"المقدس" تلك هي المفردة التي تعاملت معها الفلسفات المختلفة عبر تاريخ تكوين البشرية ومراحل تطورها، فكرّست لها جهوداً مضنية من اجل الوصول إلى أعماق هذه الكلمة ودلالاتها اللغوية والنفسية والاجتماعية على المجتمع .. لكنها ظلت بدءاً من الفلسفة الإغريقية وانتهاءاً بعصر ما بعد الحداثة (التفكيك والاختلاف) مروراً بالوجودية والبنيوية تعاني صراعاً شديداً لفهم ماهية هذا الأقنيم لما تمثله من ميكانزم خفي يدفع لكل ما هو غير محسوس، حتى إنها وجدت نفسها لم تقدم شيئاً لتفسير هذه الكلمة سوى نظريات طوباوية طافت على شواطئها دون أعماقها.

فتارة ً العقل هو المقدس، وأخرى الروح أو الله أو الطبيعة أو الكلمة أو الإنسان وهكذا دواليك. كل حقبة تحاول أن تخلق لها مقدساً يُستوحى من واقعها المحسوس والمنظور ومن ثم تُمارس عملية أسطرة قسرية على هذا المعنى، لتحوّله من لا شيء لشيء، ومن منتهي للامنتهي، ومن محسوس للامحسوس, لتتشكل بعدها المنظومة العقائدية للإنسان وتتهيأ الذات لاستقبال كل هذه المعاني دون أدنى اعتراض أو سؤال مَن هم هؤلاء؟ ومَن أعطاهم القدسية؟ وهل فعلاً هم مقدّسون؟ وما هي تركيبة المقدس؟ هل تختلف عنا في شيء؟

أعوذ بالله, لست أنا من يسأل ذلك، بل شيطاني يفعل أو قل غريزتي أو كلماتي أو طبيعتي أو الإنسان عموماً، وهنا انتقلت هذه الأسماء من سنخ التقديس إلى سنخ التدنيس، فلم تعد مقدسة بعد الآن.

فبعد أن كان العقل مقدساً لدى الفلاسفة القدامى، أصبحت الروح كذلك عند الباطنيين، والطبيعة بعدها عند الماديين، ثم الإنسان عند الوجوديين، فالكلمة عند البنيويين، والله عند المؤمنين (اليهود والنصارى والمسلمين)، حتى بنا نصل إلى نظرية لا شيء مقدس عند الحداثويين، وهنا تكمن الخطورة فكل شيء مباح طالما لا يوجد مقدس وكل شيء للإنسان وفي الإنسان وعلى الإنسان ولا غير ذلك.

هذا ما يُسمّى بعملية انحراف المعنى عن الذات، وسبب ذلك التراكمات الأخلاقية والاجتماعية التي أنتجها المقدس في المجتمع أو الفهم الخاطئ لهذا المقدس .. مما جعل بعضهم يحاول تفكيك كل ما هو مقدس ويتجرأ الغور في أسباره لكشف المسكوت عنه أو الغائب عن النص فيه , فمثلاً محاولة المفكر المصري نصر حامد أبو زيد التعامل مع القرآن الكريم على انه نص تاريخي وتراثي فقط، أي حادثة تاريخية في حياة هذه الأمة، تأتي في هذا السياق حيث لا يمكن لأبي زيد أن ينتقد أي فقرة من فقرات القرآن ما لم يتم نزع الهالة القدسية عنه أولا ً ومن ثم جرأة التجريح والتعديل والنقد لأنه لم يعد مقدساً بعد، مثله مثل أي نص شعري تركه لنا شاعر عربي عبر التاريخ ليكون بمقدورنا نقده وتفسيره على ما نريد وكيفما نحب.

ليس فقط أبو زيد وحده في هذا الميدان من المفكرين العرب، بل هناك مَن يشاطره في ذلك كمحمد عابد الجابري ومحمد آرغون وغيرهم ممّن لم يصرحوا علناً بذلك، ودعوا إلى إعادة قراءة النصوص المقدسة بما فيها النصوص الإسلامية وفق المنهج الابستملوجي الحديث الخاضع إلى الجرأة والنقد، إلاّ إن طروحاتهم لم تكن فيها المباشرية، بل كانت خجولة وضبابية خوفاً من الإرهاب الأصولي الذي لا يرحم إطلاقاً حينما تتعلق المسألة بالثالوث الأقدس (الدين, السياسة, الجنس).

لست هنا في معرض الحديث عن الموروث الإسلامي والديني أو عن المقدس بمعنى الخالق عز وجل، بقدر ما أريد أن أسلط الضوء على المقدس كرمز وحقيقة وكيف انزلق معنى الكلمة من بين أصابعنا ليتحوّل من شيء جميل وشيء راقي كان يمثل هدفاً للوجود الإنساني السامي وصورة لتكامله الأمثل كما أجمعت على ذلك كل الفلسفات التي ذكرناها، إلى شيء مخيف ومرعب يسحق كل من خالفه ويدمر كل من لا يرتضي له رأياً أو يسمع له قولاً.

المقدس الموجود في كل زمان ومكان وفي كل الملل والنحل الذي يعرف كل شيء ويفهم كل شيء ويستوعب كل شيء ويُنظّر لكل شيء، ولا يمكن لك أن تخالفه لأنك لامحالة سوف تفقد رأسك بداعي التمرّد والكفر، وسيُبدع وعي المجتمع الجمعي في أيجاد ما هو مناسب من التهم كي يلبسك إياها.

أرأيتم كم خطورة أن ينهار معنى المقدس في المنظور الأخلاقي والاجتماعي وما يسببه من تأثير سلبي على المجتمع برمته.

كيف لهذا المجتمع ان يحترم مقدساً يذبح بيده ويقتل الأبرياء وينهب الأموال وهو المفروض أن يكون أسوة ً لهم.

اما الأخطر من وجهة نظر المجتمع فهو انهيار ذلك المقدس دينياً، حيث ستتزعزع الثقة بكل مقدس بما في ذلك الخالق عز وجل، حينها لا تكون هناك أي قيمة للقدسية نتيجة التصرفات اللامسؤولة التي تنسب إليه عبر مَن نصّبوا أنفسهم اولياءاً له من فقهاء الضلالة وأئمة التكفير الذين ما انفكوا يحاولون تفخيخ العقل العربي بعبوات جهلهم اللامحدود.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لماذا؟
مصرى ( 2009 / 7 / 5 - 22:54 )
اقتباس (اما الأخطر من وجهة نظر المجتمع فهو انهيار ذلك المقدس دينيا) أنتهى الاقتباس
لماذا؟
انا لا ارى أى خطر فى ذلك على المجتمع اطلاقا بل العكس هو الصحيح وهو ات لا محاله


2 - دوله القانون
قاسم الجلبي ( 2009 / 7 / 6 - 10:22 )
الكثير من المجتمعات الراقيه والتي تعتمد مبداء العلمانيه الدين لله والوطن للجميع هذه المجتمعات ابتعدت كل البعد عن هذا الوهم المسمى المقدس لان وجود دوله القانون والذي هو فوق الجميع وحتى فوق المقدس فهنا انتهى دور هذا المقدس ةالى الابد

اخر الافلام

.. روسيا والصين.. تحالف لإقامة -عدالة عالمية- والتصدي لهيمنة ال


.. مجلس النواب الأمريكي يصوت بالأغلبية على مشروع قانون يمنع تجم




.. وصول جندي إسرائيلي مصاب إلى أحد مستشفيات حيفا شمال إسرائيل


.. ماذا تعرف عن صاروخ -إس 5- الروسي الذي أطلقه حزب الله تجاه مس




.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح