الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإكمال الثقافي في فكر أرنولد توينبي

محمد سمير عبد السلام

2009 / 7 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


التفاعل المنتج بين المبادئ الثقافية المختلفة ، و من ثم نمو المسارات الروحية ، و الفكرية في الوعي الإنساني العالمي ، و تشكيل الهوية الثقافية ، و تجددها ، من أهم الأفكار في دراسات أرنولد توينبي التاريخية ، و الحضارية ؛ فهو يناقش نشوء الحضارة انطلاقا من عملية اتصال إبداعية بين الأنا ، و الآخر ، و كذلك من لحظات التجدد الكامنة في العنصر الثقافي السائد نفسه .
و أرى أن عملية تداخل العناصر الثقافية – عند توينبي – بما تحمل من دلالات الصراع ، و الاختلاف ، و الإكمال ، تتميز بأمرين :
الأول : الامتداد في الزمان ، و المكان ؛ فالعنصر الثقافي يتميز بالتحول الداخلي في بنيته ، و يظل طيفا في الآخر المختلف ، و من ثم فهو يقاوم الحدود ، و البنى الثابتة من خلال عملية تفاعل معقدة بين الظروف السياسية ، و علاقة الوعي الإنساني بالقوى الروحية ، و التراث الثقافي الأدبي ، و الفني ، و أرى أن مثل هذه العلاقات – في شكولها اللامركزية – تنتج صورا بالغة النسبية من الأعمال الفنية ، و الممارسات الثقافية المعاصرة ، كما تمتد في الأبحاث الحضارية ، و الثقافية ؛ فإيهاب حسن يؤسس للعالمية الجديدة في سياق التسامح ، و تجدد الروابط بين النصوص ، و الأنساق الثقافية المختلفة ، و المتعارضة ، أما بودريار فيعيد قراءة الظواهر الحضارية انطلاقا من الجانب الإبداعي التمثيلي .
إن مثل هذه القراءات المحتملة لتحولات العنصر الثقافي الزمكانية تؤسس للتجدد البنيوي من جهة ، و إحداث الطفرات الإبداعية ذات الطابع الإنساني في إشارات الاختلاف التي يكتسبها العنصر في سياقه الجديد من جهة أخرى في فكر توينبي .
الثاني : الجانب الإبداعي المضاف للعنصر الثقافي ، و يتجلى في الكيفية التي تؤول بها الثقافة الطليعية تراثها الإنساني السابق ، و كذلك تأويل المؤرخ للتفاعل الخفي بين الثقافات ، و تبدو النزعة الأخيرة واضحة في أعمال توينبي ، و قراءاته للتفاعلات بين تراث البرابرة ، و الثقافة الهيلينية ، ثم الرومانية ، و العصور الوسطى .
إن الروابط التأويلية تسهم في عملية الإكمال ، و التجدد ، و الإضافة للعناصر الثقافية ، و تعكس أهمية الوعي المبدع في إنتاج الحضارة ؛ إذ إن تكراره يدل على تجدد التجربة التاريخية ، و فكرة النشوء الاجتماعي ، و الفني .
و قد قدم الفن تأويلات عديدة للعالم منذ النقوش الجدارية للطواطم ، و التمثيل المبدع للعناصر الروحية ، حتى اتجه للنسبية ، و تعقيد المنظور ، و إعادة تشكيل العالم الداخلي في اللون ، ثم تفجير المجاز في الواقع فيما بعد الحداثة ، و هي رؤى تتمتع ببكارة النشوء المتجدد للفكر الإنساني ، و كذلك قدرة العناصر الثقافية على التجاور المبدع بعيدا عن ثنائية السائد ، و الهامشي .
و هكذا أسهم تأويل توينبي للحضارة الهيلينية في الكشف عن التأويل المتجدد للعناصر التي أعاد الوعي إنتاجها ، أو أبدعها ، و أكسبها بعدا إنسانية في سياقات مختلفة .
يرى توينبي أن الحضارة الهيلينية كان عليها أن تبدأ حياتها ، بأن تعيش على تراثين خلفهما البرابرة ؛ هما ملاحم هومر ، و مجموعة الآلهة التي صنعت على صورة الإنسان البربري الذي يتميز بالقوة ، و سوء السمعة ، و قد تجاوزت تقلبات الطبيعة القديمة ( راجع / أرنولد توينبي / تاريخ الحضارة الهيلينية / ترجمة رمزي جرجس / هيئة الكتاب المصرية 2003 ص 34 ) .
يرصد توينبي النشوء الإبداعي للمبدأ الثقافي الإنساني ، و الذي يتخذ مظهر القوة الروحية الجديدة في وعي ، و لا وعي الإغريقي ، و ذلك من خلال أمرين :
الأول : ولادة النزعة الإنسانية من القوى الغائمة المختلطة ؛ إذ يرصد صيرورة هذه القوى في بعدي القوة الخارقة ، و الانفعالات الإنسانية المتطرفة في آن .
إن هيمنة القوى الغريزية على الوعي البشري كانت في طور التحول لحدود الأنا الإنساني دون أن تفقد الهيمنة المجردة الكامنة في تاريخها القديم ، و من ثم الثقافات ، و الفنون الأخرى ؛ فنظرة توينبي للعنصر الإنساني لا يمكن عزلها عن الثقافات القديمة جميعها ، و بخاصة تراث البرابرة .
الثاني : امتزاج الفن بالقوى الروحية ، و الثقافة بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر ، و كأن العنصر الخيالي الإبداعي كان من أهم أدوات تشكيل الوعي البشري ، و تطوره دائما حتى صارت الأحداث السياسية ، و السير الشخصية ، و علامات الحياة اليومية ممزوجة بالسرد ، و التأويل ، و التحويل المجازي الكامن في نسيجها نفسه الآن .
و إن قراءة الإلياذة ، و الأوديسا تكشف عن الأدوار الديناميكية للقوى الروحية الإبداعية في وعي الإغريقي في مسار معركة طروادة ، و ما بعدها ؛ مثل زيوس ، و أبولو ، و أثينا ، و بوسيدون ، و غيرها . و لكن تلك القوى كانت منقسمة بين الجانب الفني ، و القوة المتوارثة من الثقافات الأخرى ، و درجات حضورها النسبي في الذات الإنسانية الوليدة .
و أرى أن النزعة الإنسانية قد ولدت – طبقا لتوينبي – مختلطة بقوة جمالية كبيرة ، تمتص الفن داخل بنيتها الغامضة ، بينما يتجه الإبداع الآن لتفتيت العناصر الثقافية فيما وراء البنية نفسها ؛ إذ صار مجموعة من التكوينات اللامركزية .
و ينتقل توينبي إلى وصف نظام المدينة الدولة عند الإغريق ، و من أهم سماته تقديس القوة الجماعية الإنسانية ، و إبراز المواهب الخلاقة ، و ارتباط المكان بعلامة روحية خاصة ؛ مثل أفروديت عند الكورنثيين ، و بوسيدون عند الكورنثيين الجوابين للبحار ، ثم يقوم بنقد ، و تفكيك منطق المدينة الدولة من الداخل ؛ إذ إن وجوده في صيغة الجمع يحمل بين ثناياه عنصر الحرب ، كما أن الفئة التي تتمتع بالخافز على العمل هي الذكور ، دون النساء ، و العبيد .
و يجمع توينبي هنا بين المكان ، و النزعة الإبداعية ، و الميتافيزيقا في وعي الإغريقي ، و كأن الإشارات الثقافية كانت تمثيلا إبداعيا للمجموعات الفريدة من البشر في امتزاجها بالمكان . لم يكن – إذا – النظام السياسي عند توينبي معزولا عن الإبداع ، و دوره في تشكيل الإنسان في صوره المختلطة بالقوى البربرية الملتبسة ، أو في نشوء الخصوصية الثقافية للمجموع الجزئي ؛ فالوعي بالوجود في العالم أسهم في تكوين طبيعة النظام السياسي ، و من ثم الانتماء إلى إشارات ثقافية ، و جغرافية بعينها .
و قد فكك توينبي المركزيات المتنوعة عن طريق الصراع الداخلي في بنية المجموع ، و كذلك في المركزية البنيوية نفسها للمجموعات الجزئية ، و كأنه يستشرف نوعا آخر من الفردية يقوم على تجاوز البنى الصلبة عن طريق الإكمال ، أو الإبداع المستمر للآخر .
و يقرأ توينبي نشأة الدراما الإغريقية انطلاقا من اتساع المبدأ الإبداعي الكامن في طقوس ديونسيوس ، و مدى تفاعلها مع الثقافات الأخرى ؛ إذ يرصد بدايات المسرح في طقوس زواج ، و موت ديونسيوس ، و الاستعراضات الجماعية التي تشبه مسرح النو الياباني ، و ما فيها من امتزاج الشهوة بالتقديس ، ثم تطور التراجيديا عند إيسخيلوس ، و سوفوكليس ؛ فقد استخدما أساطير متنوعة ، و عددا أكبر من الممثلين .
و نلاحظ نقطتين في حديث توينبي عن نشوء الدراما :
الأولى : اختلاط الممارسات الثقافية ، و التمثيلية بغرائز الحياة ، و الموت ، طبقا لفرويد ، و لكن دون أن تتبلور في العالم الداخلي للفرد ، أو تتميز في عمل فني مستقل . إنها تعيد تشكيل اللاوعي الإنساني في صور ، و علامات عديدة بين الثقافات المختلفة ، و من ثم قارن توينبي بين ممارسات الرقص عند الإغريق ، و مسرح النو فيما يخص الغرائز الجماعية ، و البدايات الثقافية الغامضة للعمل الفني .
لقد امتزجت الممارسات الثقافية هنا – على نحو أصلي – بالنزعة التمثيلية الإبداعية التي تجلت بوضوح في علامة القناع ، و ما يحمله من خصوصية مفككة ؛ إذ تجمع بين عواطف الجنس البشري ، و الجانب الدرامي الفني معا ، و كذلك تحمل دلالة الاستعراض التمثيلي داخل الممارسة الثقافية نفسها .
الثانية : تأكيد مبدأ الإبداع المضاعف ؛ أي اتساع النزعة التمثيلية تدريجيا داخل الطقوس ، و مظاهر الحياة ؛ فاللحظة الإبداعية تتكاثر أفقيا ، و رأسيا من داخل تطرف الغرائز ، و الممارسات الثقافية ؛ إذ تتداخل مع أزمنة ، و ثقافات أخرى ، و كذلك تتوسع بالجانب التمثيلي في الثقافة الإغريقية على نحو خاص ، حيث تتكاثر الأساطير ، و أدوار الممثلين ؛ لتبدو الدراما في صورة فريدة ، و متغيرة ، و أكثر قربا من النزعة الإنسانية .
و تشير الأقنعة في هذا السياق إلى الجدل القديم بين الذات ، و الوظيفة ؛ إذ تشير إلى القوة الجمعية اللاواعية ، ثم التفرد التمثيلي الدرامي ، بينما تنتشر الوظائف في التفكيك المعاصر ؛ لتتجاوز البنية ، و تاريخها في الفن ، و إن جاء هذا التجاوز من تاريخ الذات الإبداعية ، و خصوصيتها المفرطة طوال مراحل الحداثة .
و يرصد توينبي مبدأ المدينة الدولة ، و اتساعه بشكل مختلف عند الرومان ، فيما يشبه الإكمال الثقافي ؛ فقد مثلت الهوية الرومانية عنصرا مضافا عند بعض الشعوب ، فأحدثت ازدواجية في الهوية .
إن اتساع الهوية في فكر توينبي يدل على امتداد العنصر الثقافي الهيليني كمكمل مختلف لا يمكن تكراره ، أو نفيه ، و إنما يظل في مسافة طيفية بين الثقافات ، و الأزمنة المختلفة ، مثلما يمثل التسامح الحضاري عنصرا مولدا من تكاثر المكملات الثقافية التي رصدها توينبي ، و ديورانت ، و إيهاب حسن ، و غيرهم .
و قد لاحظ فريدريك نيتشه أن الفيلسوف وجد عند الإغريق بشكل شرعي ، و غير مذنب ، و كذلك ابتكارهم للعناصر الوافدة بصورة أكثر نقاء ( راجع / نيتشه / الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي / ترجمة سهيل القش / المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر ببيروت 1983 ص 41 ) .
و تصب أفكار نيتشه في مبدأ إعادة الإنتاج ، و قبول الثقافة السائدة للمبدأ الإبداعي في الفكر ، و الثقافة ، و الأدب .
إن عملية التحول تكمن في الأبنية الكبرى للوعي ، و الحياة عند نيتشه ، و هو يقوم على إعادة قراءة لعنصر ثقافي داخل البنية ، أو خارجها ، مثلما أسس توينبي الحوارية الحضارية المختلطة بلحظة اختلاف أصيلة لا يمكن عزلها عن المبادئ الثقافية الأولى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إسقاط مسيرة إسرائيلية بعد استهدافها في أجواء جنوبي لبنا


.. كيف ستتعامل أمريكا مع إسرائيل حال رفضها مقترح وقف إطلاق النا




.. الشرطة تجر داعمات فلسطين من شعرهن وملابسهن باحتجاجات في ا?مر


.. مظاهرة في العاصمة الفرنسية باريس تطالب بوقف فوري لإطلاق النا




.. مظاهرات في أكثر من 20 مدينة بريطانية تطالب بوقف الحرب الإسرا