الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة السادسة)

سعدون محسن ضمد

2009 / 7 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ارتداد الوعي

لا يمكن للصوفي أن يتخيل بأن طريقه الذي هو سائر عليه سيقوده رغماً عنه إلى النبوة. وأن تلك النبوة ستقتل جميع أسئلته الصاخبة. فكما قلت سابقاً؛ الصوفي لا يعرف مغزى النبوة، إلا بعد أن يتوحد مع الحقيقة وينطق باسمها، متدرجاً بأحوال التوحيد الثلاث، توحيد الأفعال، توحيد الصفات، توحيد الذات. وعندها سيؤمن بأن الحقيقة واحدة، وأن ليست هناك مشاهد عدَّة، بل مشهد واحد وفاعل واحد وذات واحدة. هذه المعرفة خطيرة ومتعبة وصادمة بنفس الآن. لذلك لا يسمع الصوفي ومهما تكاثرت من حوله الأصوات إلا صوت الحقيقة التي سيجد بأنها تكلمه من خلال جميع الموجودات، البشر الحيوانات الجمادات.. كلها تتكلم بكلام واحد، كلام الله، الكلام المنطلق من ذات تجاوزت الاختلافات لتقع على سر التشابه الذي يؤدي إلى الوحدة الكاملة.
لكن مع ذلك تبقى النبوة متهمة بقتل روح التساؤل عند الصوفي وذلك لأن التصوف دوامة أسئلة، ومَعْبَر مباشر إلى التيه، أما النبوة فهي بمثابة موت متدرج لكل أنواع التيه، ففيها يقف الإنسان عند أعتاب ممكنات وعيه، ويكتشف حدود المعرفة التي لا يمكن لأي وعي، ومهما كان مغامراً أو فريداً، أن يتعداها.. وعندما يعرف النبي أنه، وعلى الرغم من فرادة وعيه، لا يستطيع أن يدرك تمام الحقيقة، فإنه سينهار حتماً، سيضيع لدرجة لا يمكن تخيلها.
بعبارة أخرى: إن الصوفي وخلال مرحلة النبوة يقف عند حدود الوعي عندما يدرك أن بعض أسئلته لا جواب عليها فيتوقف عن طرحها، لذلك كثيراً ما نجد الأنبياء يجيبون على الأسئلة ولا يطرحونها، بل ويقمعون الأسئلة المشاكسة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}المائدة101.. لكن كثيراً ما تكون إجابات الأنبياء مموهة أو مترهلة ومفعمة بالأباطيل ذلك أنهم يسعون لحماية الناس من الضياع الذي تتسبب به الأسئلة المنفلتة: (أمرنا معاشر الأنبياء أن نُخاطب الناس على قدر عقولهم).
ارتداد الوعي
مشكلة النبوة في أساسها مشكلة وعي، وخلال رحلة البحث عن الحقيقة يحاول وعي النبي أن يتجاوز حدود الممكن البشري من أجل الاقتراب من المطلق والتعرف عليه، ما يجعله يستنفذ ممكناته لدرجة نهائية، وهذا ما يؤدي إلى ما أسميه بـ(ارتداد الوعي) وأقصد أن وعي النبي وخلال توحده مع المطلق يعرض طاقته الإدراكية لامتحان صعب، ويوقف نفسه عند عقدة تؤدي لحالة ارتداد.. هذه العقدة تتمثل بعدم إمكان تحويل الوحدة مع الحقيقة من إطارها المعرفي الإدراكي النظري، إلى إطارها الفعلي الواقعي (العملي). فكل متوحد مع الذات الإلهية، يحاول أن يصل لأعلى درجات هذه الحال، بالخصوص لتلك الدرجة التي يترجمها الحديث القدسي الذي يقول: (عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون).
لكن هذه الدرجة غير ممكنة إطلاقاً. والدليل على عدم امكانها أن كل الأنبياء والصوفية والعرفاء لم يستطيعوا أن يخرقو نواميس الطبيعة لدرجة تؤهلهم ادعاء الوصول إلى درجة (المثلية) التي يُخبر عنها الحديث القدسي في قوله: (تكن مثلي)، وحتى المعاجز بقيت في إطار أحداث أحادية تاريخية لا يمكن التحقق العلمي من حصولها وارتباطها في حال أنها حصلت بدعوى النبوة والاتحاد مع الله.
إذن عندما يصل وعي النبي إلى مرحلة من العجز عن المضي في مرحلة الفناء والتوحيد إلى أبعد من مداها البشري المتاح. يأخذ بالبحث والتساؤل عن الحدود التي تفصل الحقيقة البشرية عن الحقيقة الإلهية. ويسأل نفسه عند هذا الحد سؤالا بسيطاً هو:
إذا كنت أنا الله فلماذا لا تتحق الأشياء التي أريدها؟ ثم ألا يعني عدم تجسد إرادتي بأن هناك إرادتين تحركان الوجود، إرادة مطلقة تتحق وإرادة عاجزة لا تتحقق؟ وإذا كانت هناك إرادتان ألا يعني هذا بأن هنالك فعلين ومن ثم ذاتين أو أكثر من ذات واحدة؟ هذه التساؤلات تهدم الفناء وقد ترجمها الحلاج عندما قال:
أنا أنت بلا شك فسبحانك سبحاني.. وتقديسك تقديسي وعصيانك عصياني.. فَلِم أُجلد يا رب إذا قيل هو الزاني؟
إذن هنا وعند هذه الحد ينقلب وعي النبي وينتقل من استخدام آليات العرفان إلى آليات البرهان.. بمعنى أن الرؤية النقدية تبدأ بالانبثاق عنده وتسعى للتحقق من نفس دعوى الوحدة والفناء التي ادَّعاها سابقاً. فيسأل نفسه: هل هو الله فعلاً، وإذا كان هو الله فلماذا لا يستطيع أن يفعل أي شيء؟ أو يسأل عن السر الذي يجعل الأحداث لا تنضبط لإرادته، مع أن إرادته وإرادة المطلق واحدة. إن التعارض الذي يحصل بين ما يريده النبي ويسعى إليه وبين ما يتحقق على أرض الواقع من أحداث وتطورات ينبئه بمقدار الوهم الذي جعله يدَّعي الألوهية. ليس هناك من يستطيع أن يقول وبفم جازم أن المسيح كان يسعى لتحقيق عملية الصلب. على الأقل لأن في هذا السعي تغرير بالناس من أجل ارتكاب الجريمة. إذن كان المسيح يريد الاستمرار بدعوته لكن إرادته، ومن ثم أهدافه، قوطعت بفعل الصلب، ومشهد الصليب كان مفاجأة بالنسبة لعيسى. مفاجأة واجهها بتساؤل مخيف عندما قال: (إلهي لماذا صلبتني؟!!). وهذه الصدمة عبر عنها الحلاج عندما قال:
(نديمي غير منسوب إلى شيء من الحيف.. سقاني مثلما يشرب فعل الضيف بالضيف.. فلما دارت الكأس دعا بالنطع والسيف.. كذا من يشرب الراح مع التنين في الصيف) .
عندما يبدأ النبي بالتساؤل بهذا الشكل فأن منظومته الإدراكية ستتحول من بنية تستلم المعرفة الإشراقية الإلهامية من ذاتها وبشكل سلبي إلى بنية نقدية تقاطع الاستلام السلبي وتنقده بشكل صارم وتصاعدي.
هذا الارتداد في الوعي هو الذي يعتبره الصوفية أو يسمونه بمرحلة البقاء بعد الفناء ويقصدون بذلك العودة إلى الإنسانية والخروج من الإلهية. وهذا الخروج لا يمكن له أن يكون خياراً بل اضطراراً، فليس هناك متحقق بحال الوحدة مع الله ويختار حال الانفصال عنه بديلاً عنه. ولكنه يجد أن هذه الوحدة أقرب ما تكون إلى الوهم منها إلى الحقيقة، وربما أنها أميل لأن تكون كذبة إدراكية ناتجة عن ركوب ملكة الخيال لأبعد مما يجوز في التعاطي مع الحقيقة تعاطياً إشراقياً إلهامياً.
التأمل مادته الوهم ووسيلته الخيال ومع ذلك يوصل الإنسان إلى معارف حقيقية. لكن على أن لا يذهب الإنسان بالتأمل بعيداً. هناك مديات من الإدراك لا يمكن بلوغها دون استثمار طاقة الخيال. لكن هذه الطاقة إذا استخدمت بشكل مبالغ به، فأنها تنتج أكاذيب هائلة ومنها أكذوبة التوحد مع الذات التي قال بها معضم الصوفية. لكنهم سرعان ما أنكروها بعد حين معترفين بأن نفي الوحدة وتكذيبها لا يجانب الصواب أكثر من القول باثباتها.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah