الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفرق بين المجاملة والابتذال

صالح سليمان عبدالعظيم

2009 / 7 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



تتسم العلاقات الاجتماعية اليومية بقدر ما من المجاملات، وبدون هذا القدر لا يمكن للحياة أن تستمر، وللتواصل أن يتراكم. وتختلف طبيعة وحجم المجاملات الاجتماعية من سياق لآخر ومن ثقافة لأخرى. ففي الثقافة العربية تسمح التعاملات اليومية بقدر متسع ومطاط من المجاملات، وهو الأمر الذي ينتقل من العلاقات غير الرسمية إلى العلاقات الرسمية حيث يسود فضاء المحسوبية وخرق اللوائح والنظم والقوانين. وكما تختلف المجاملة من سياق لآخر فإنها تختلف أيضا حسب السن والنوع والمكانة الاجتماعية، وحسب صرامة القوانين والجزاءات المرتبطة بالتعدي عليها واختراقها. فمجاملات النساء تختلف عن مجاملات الرجال، كما أن مجاملات الصغار تختلف عن الكبار، وبالطبع تختلف المجاملات حسب المكانة الاجتماعية والوضع الطبقي للأفراد.
كيف تبدأ المجاملة بممارسة اجتماعية عادية لتنتهي إلى ممارسة ذات أهداف واعية، ومصالح مستهدفة. وما هو الفرق بين المجاملة البريئة العابرة وتلك التي تتجاوز العلاقات الإنسانية التلقائية لترتمي في أحضان الابتذال والفساد والإفساد. الواقع أن هناك بعض الأفراد رجالا ونساء مجاملين بطبيعتهم، وربما يمكن أن نضيف بمناسبة وغير مناسبة. هناك بعض المجاملين الظرفاء الذين يحبهم الجميع في علاقاتهم، وربما لا يختلف عليهم أحد. هم مجاملون وطيبون في الوقت نفسه، مجاملون بالفطرة، توجههم رغبة شاملة تتعلق بإسعاد الآخرين وإبهاجهم.
وهناك نوع آخر يدعي المجاملة، ويمارسها حسب أهوائه ومصالحه الشخصية. هؤلاء تختلف مجاملاتهم وشخصياتهم من سياق لآخر ومن منفعة لأخرى، وغالبا ما ينكشفون سريعا سواء من خلال المحيطين بهم، أو من خلال تناقضات مواقفهم وسلوكياتهم. تحول هذه النوعية المجاملة الإنسانية الرقيقة إلى سياق من الابتذال والسخف الذي يصب في إطار مصالحهم الذاتية الضيقة. وتخلق هذه النوعية من المجاملين سياقا جديدا من العلاقات أقرب للطابع الاحتفالي الشعبي المتسم بفوضى العلاقات الاجتماعية المبتذلة. وهؤلاء ينجحون في علاقاتهم واختراقاتهم في ظل سياق اجتماعي لا يحدد أطرا واضحة للفرق بين العام والخاص، الرسمي وغير الرسمي، الفردي والجماعي. لكنهم ينجحون بدرجة أو بأخرى في فرض أساليبهم المجاملة المبتذلة بسبب أنهم يُوقعون من لا يمارس أساليبهم في حرج العلاقات الاجتماعية بوصفهم متشددين وغير متساهلين.
تبدو هذه الممارسات في معظم جوانب حياتنا اليومية سواء في المحيط القرابي أو محيط الصداقات والعلاقات غير الرسمية أو محيط العمل وارتباطاته الرسمية. وما قد يتساهل المرء تجاهه في علاقات القرابة والصداقة لا يمكن أن يتساهل تجاهه في علاقات العمل ومتطلباته المختلفة. فالعمل محكوم باللوائح والقوانين والنظم، وحينما تستشري علاقات المجاملة في مؤسسات العمل المختلفة، ويستشري هذا النوع من أصحاب الألسن الناعمة المحلاة، وحينما تتعامل المؤسسات بسهولة ويسر وأريحية مع هذه النوعية من البشر، يتسابق الجميع من أجل اكتساب مهارات التواصل بالمجاملة المبتذلة مع الآخرين. وتطالعنا في كل مكان أنماط كثيرة تنتشر كالجراد ليس لها من ملكات سوى معسول الكلام والقدرة على التربيط وبناء العلاقات من خلال هذه النوعية من المجاملات التي قد تنفع لبعض الوقت لكنها لا تنفع كل الوقت.
ومن أبرز الأنماط المضحكة من هذه النوعية من المجاملين ما نشاهده في مؤسساتنا التعليمية سواء في المدارس أو في الجامعات. فالتلاميذ والطلاب على السواء يحبون المعلم أو الدكتور الناعم صاحب اللسان المجامل حتى لو كان لا يفقه في العلم شيئا. تكمن كل صناعته أنه مجامل لتلامذته وطلابه يشيد بهم بمناسبة وغير مناسبة، ويمنحهم أعلى الدرجات سواء استحقوا ذلك أم لم يستحقوا. وتظهر هذه النوعية على وجه الخصوص بين السيدات حيث تنتشر علاقات الاحتفال المختلفة والتجمعات الخاصة بالتلاميذ والطلاب في شكل أقرب للوضع الأسري الذي تنتفي فيه قواعد التعليم وانضباطه.
الملاحظ هنا أن ممارسة المجاملات أقرب ما تكون للطابع الاحتفالي، وهو ما يميز المجاملون بصفتين هامتين أولهما ارتباطهم بثقافة الشلة؛ فلا مجاملة بدون شلة تقبل هذا الطابع الاحتفالي وتتماهي مع شخص المجامل، تستفيد منه أو تفيده على السواء، وثانيهما طابعهم الفوضوي؛ فمن سمات المجامل خلق مناخ للفوضى تضيع من خلاله القواعد واللوائح، الأمر الذي يؤدي بمجاملته لتحقيق أهدافها المرتبطة بالمصالح الذاتية الضيقة.
رغم أن المجتمعات والثقافات الأخرى تمتلئ بقدر كبير من الطابع الاحتفالي المرتبط بالمجاملات إلا أننا في عالمنا العربي أحلنا هذا القدر من المجاملات إلى شكل احتفالي خالي من المضمون يستفيد منه البعض دون البعض الآخر. ولعل ذلك يفسر تلك الاجتماعات واللقاءات المختلفة التي تتم في عالم السياسة وتتبادل فيها الكلمات والأحضان والقبلات بدون أن تؤدي إلى تحقيق شيئ يذكر. محكوم عالمنا العربي سياسيا واجتماعيا بذلك المستوى الهائل والمتضخم من المجاملة المبتذلة التي تقود إلى كل الكبائر الأخرى، وتؤسس لها، اللهم قنا شر المجاملين المبتذلين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان: أين الضغط من أجل وقف الحرب ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مؤثرة موضة تعرض الجانب الغريب لأكبر حدث للأزياء في دبي




.. علي بن تميم يوضح لشبكتنا الدور الذي يمكن للذكاء الاصطناعي أن


.. بوتين يعزز أسطوله النووي.. أم الغواصات وطوربيد_القيامة في ال




.. حمّى الاحتجاجات الطلابية هل أنزلت أميركا عن عرش الحريات والد