الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما يصبح الفكر -زبالة-: دفاعاً عن عقل القمني

هوشنك بروكا

2009 / 7 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هكذا بجرة قلم، أو بشطحة فتوى، أصبح سيد القمني، الباحث الأكاديمي الرصين، والكاتب العلماني المعروف، بقدرة شيخ فتوَجي،"كاتباً في شئون الزبالة"، وأصبح كل ما أنتجه من فكر، ودراسات، وكتب في نقد الفكر الديني والتراث، وما حواليه من توّرمات وتراكمات سلفية، التي عفى عنها الزمن، مجرد "زبالة"، كما أفتى فيه جماعة من الإسلامويين السلفيين، الذين ركبوا الدين وما فيه من مقدسات، للعبور إلى "دنيا ما قبل 1400 عام"، وثقافة السلف، وأساليب معيشته، وأخذه ورده مع الماحول من دنيا وبشر وشجر وحجر!

ظاهرة "تكفير التفكير"، و"أخصاء العقل" وبالتالي الإفتاء ب"قتل المفكرين" الخارجين على "الجوقة السلفية"، و"العقل المنقول"، المقفل بألف قفلٍ وقفل، ليست بجديدة في العالم الإسلامي، المحكوم ب"الدين القدر"، و"السماء القدر"، و"العقل القدر"، و"الثقافة القدر"، و"الجهاد القدر"، و"الحكم القدر"، و"السياسة القدر"...إلخ، لا سيما في مصر أم الدنيا، والتي أصبحت على مرّ التاريخ عربياً، "أماً" للتفكير والتكفير معاً!

فمثلما كانت مصر على مرّ تاريخها الإسلامي، أمّاً ل"الأزهر المغلق"(الذي تأسس بعد الفتح الفاطمي لمصر بعام واحد سنة 972 م) وأما للأزهريين، كذا كانت مصر أماً ل"الفكر المفتوح"(من الفراعنة إلى العرب)، وأماً ل"الليبرالية العربية"، وأماً لمفكرين دينيين، ومفكرين علمانيين ولادينيين، "مكفّرين" كبار.

وربما بسبب دور مصر الرائد هذا في النهضة العربية، وتمركز العقل العربي فيها، لفتراتٍ طويلةٍ من الزمن، سماها البعض ب"أم العرب" و"حاضنتهم" أيضاً.

والجدير بالذكر في ظاهرة "مصر الأم" هذه، خلال القرن الماضي، هو أنها كانت على الدوام، أماً مزدوجة: "أما مفكّرة" تركض إلى الأمام، و"أما مكفّرة" تهرب إلى الوراء في آن.

عليه، يمكن القول، بأنّ ازدواجية التكفير والتفكير، مصرياً، كظاهرة جديرة بالقراءة والبحث والدراسة، قد بلغت أوجها مع محاكمة الشيخ الأزهري والقاضي الشرعي المعروف علي عبدالرزاق، وذلك إثر صدور كتابه "القنبلة"، آنذاك، "الإسلام وأصول الحكم" سنة 1925، والذي بحث على مداره في "أصول الخلافة والإمامة"، و"لا أصالتهما" و"لاشرعيتهما" إسلامياً، مؤكداً بالحجة والبرهان، وبتاريخ الإسلام نفسه، براءة الإسلام الحقيقي منهما، بقوله: "إن نظام الخلافة والإمامة غريب عن الإسلام، ولا أساس له في المصادر والأصول المعتمدة للدين عند المسلمين من كتاب أو سنة أو إجماع".

الكتاب، أثار في حينه جدلاً فكرياً وسياسياً ودينياً كبيراً بين أنصار التفكير، أمثال الشيخ عبدالرزاق والعقاد وطه حسين من جهة، و"أنصار التكفير" في المؤسسة الدينية(الأزهر) والسياسية(القصر الملكي)، من جهةٍ أخرى.

ففي الوقت الذي دافع فيه المفكرون عن الدين الإسلامي(مثل أي دين آخر)، كرابطة روحية محضة بين البشر والله، ولا علاقة له، لا من قريب ولا من بعيد، بالحكم في أمور الدنيا، وأصرّوا على "فصل الدين عن السياسة" و"فصل حكم الله عن حكم البشر" ليبقى ما لقيصر لقيصر وما لله لله،، أصرّ "المكفّرون"، في الجبهة الأخرى، على تسييس الدين وخربطته مع الدنيا، وعلى الإسلام في كونه "ديناً ودنيا"، وساووا بين "حكم الله" و"حكم البشر"، بإعتبار أنّ "حكام الدين" هم ظلال الله على الأرض، وحجته، وملكهم في الأرض، هو من ملك الله في السماء!

هكذا بدأت المعركة بين "مصر المفكّرة" و"مصر المكفّرة"؛ مصر العلمانية المدنية ومصر الإلهية الدينية؛ مصر الفكر الحر الطليق ومصر الفكر الديني المغلق؛ مصر فرح أنطون(1874ـ1922)، وسلامة موسى(1887ـ1958)، وأحمد لطفي السيد(1872ـ1963)، وعباس محمود العقاد(1889ـ1964)، وعلي عبدالرزاق(1888ـ1966)، وطه حسين(1889ـ1973) من جهة، وبين مصر الأزهريين النصوصيين، والإخوان المسلمين، والإخوان التكفيريين، والإخوان السلفيين، والإخوان الجاهليين، من جهةٍ أخرى.

والقارئ لتاريخ هذا الصراع الطويل بين أهل التفكير وأهل التكفير في مصر، الذي لا يزال صراعاً حاضراً قائماً على قدمٍ وساق، سيرى أنّ أعلاماً ومفكرين مصريين كثيرين قد دفعوا الكثير من حريتهم الشخصية، ثمناً لآرائهم وحرية أفكارهم، في وقتٍ كان الفتوَجيون يرمونهم بالتهم التكفيرية الجاهزة، لمجرد تفكيرهم في الدين وما حوله من "مصنوعات مقدسة"، ويحكمون عليهم بالردة والكفر والزندقة وإنكار الله، وسوى ذلك من التهم الباطلات.

البعض من هؤلاء المفكرين دفع حياته ثمناً لتفكيره في الحرية، وحريته في التفكير، كفرج فودة الذي اغتيل على يد إثنين من الجهلة الأمييّن الجاهليين، أثناء خروجه من مكتبه، في أحدى ضواحي القاهرة سنة 1992.

اليوم، لا يزال التاريخ هو هو، ولا تزال مصر هي هي، حيث لا مكان للعقل والتفكير وسط شيوخ النقل والتكفير، ولا فوق فوق "فوق الدين"؛ الدين السلف، والسماء السلف، والعقل السلف، والحكم السلف، أما كل ما عداه، فهو ليس إلا "تحتٌ مدين".

اليوم، كما في الأمس، مصر تعيد نفسها، وظاهرة "منع العقل" وحظره، وتكفيره، تعيد نفسها، تماماً مثلما "فودة العقل القتيل" يكاد يعيد نفسه.

بالأمس، اغتيل العقل في فودة ونجيب محفوظ وآخرين، واليوم يريد أهل النقل السلف في العقل السلف، ذواتهم، أن يعيدوا ذات الإغتيال، لذات العقل في سيد القمني، الذي يريد أن يفكّر بحرية، وفي الحرية، ولأجل الحرية،، ويترك الآخرين يفكرون.

بالأمس قُتِل فودة، لأن قتل المرتد، وفقاً لشريعة النصوصيين الجاهليين، "حلال"، واليوم يفتي السلفيون أنفسهم، بذات الفتوى على القمني، ويعلنونه "كافراً مرتداً"، "يستوجب الدين قتله"!

في بيانهم السلفي الأخير المكفّر لفكر القمني، لا يفتي علماء الأزهر ب"تكفير" عقل القمني فحسب، وإنما يفتون أيضاً ب"تكفير شرفه"، إذ جاء في البيان: "لقد خرج سيد القمنى عن كل معالم الشرف والدين، ولقد تأكدت ردته"!
هكذا، بحسب شيوخ "العقل المفتي"، لم يخرج القمني من "معالم الدين" وحدوده المرسومة سلفياً فحسب، وأنما خرج من "حدود الشرف" ومعالمه أيضاً.

والغريب كل الغرابة، هو أنّ هؤلاء الشيوخ المكفّرين للقمني وفكره وعقله، وسواه من أهل العقل، لا يحاججون الحجة بالحجة، ولا العقل بالعقل، وإنما يحاججون العقل بماورائه، و"عقل الأرض" ب"عقل السماء"، أو "عقل الإنسان" ب"عقل الله"، ويتبجحون ب"تكفيراتهم" هذه، مدّعين أنها من "صنع الله" و"مشيئته وإرادته"، وأن "الله الأصل" قد كفرهم(القمني وأمثاله) قبل أن يكفّروهم، هم "ظلال الله وأولياء أموره على الأرض".
وفوق كل هذا وذاك، يتفاخر هؤلاء المدججين بالفتوى على مدار مناظراتهم السلفية التحريضية، ب"ركلهم" للعقل(كل العقل خلا عقلهم)، ويترفعون عن قراءة العقل في كتابات القمني وأمثاله، لأنها مجرد "زبالة" بحسب تصريحاتهم الجاهلية.

ما قاله الشيخ الفتوَجي، من كلامٍ قل فيه العقل، ذكّرني بقاتل فرج فودة أثناء محاكمته. فسُئل: "لماذا اغتلت فرج فودة؟" فأجاب: "لأنه كافر". فسئل مرةً ثانية: "ومن أيٍّ من كتبه عرفت أنه كافر؟"، فأجاب: "أنا لم أقرأ كتبه"، فسئل للمرة الثالثة: كيف؟ فأجاب القاتل: "أنا لا أقرأ ولا أكتب!".

هكذا يقرأ المتربصون بعقل "أمة إقرأ" العقل بالنقل، والعقل باللاعقل!
هكذا يقفل الراكبون على عقل "أمة إقرأ" الفكر بأقفال الكفر!
هكذا يمسخ العقل ب"قدرة" الفتوى إلى لاشيء!
وهكذا يؤول الفكر، بشقفة فتوى، عند أهل التكفير، الذين يتفاخرون ليل نهار، بأنهم "أهل الله ورسله وكتبه"، إلى مجرد "زبالة"، مصيره "حاويات" الأمة، ومزابلها، التي يعلم الله كم من عقولٍ كبيرةٍ رُميت ورفست واغتيلت هناك؟

منذ حوالي قرنٍ من الزمان، أعلن الفيلسوف والشاعر الألماني الشهير فريدريك نيتشه(1844ـ1900)، عن "موت الإله"، بقوله: "لقد مات الإله ونحن الذين قتلناه".
بغض النظر عن صحة مقولة نيتشه أو خطئها، ولكن المهم في هذا المقام، هو اشتغال الإنسان المفكر على الدين وملحقاته، ك"عقل فاعل" بحرية، بدلاً من سقوطه "كمكفّر" في الدينيات والماورائيات فضلاً عن التخريفات، بإعتباره "عقلاً مفعولاً به".
المهم ههنا، هو اشتغال العقل على الماحول بكل موجوداته، من "الموجود الأول"(الله) إلى آخر موجودِ، في هذا الوجود.
ثم ما الحكمة من "اللاتفكير" بدينٍ وما حوله من موجودات، بدأ الأول من وجوده، ونزل الأول من كتابه ب"إقرأ"؟!

فإلى متى سيبقى الشرق "ديناً نقلاً وكفى"، من دون "إقرأ"؟
إلى متى سيبقى العقل(كل العقل، من عقل الأرض إلى عقل السماء) في الشرق(كل الشرق بكل سمواته المغلقة) حافظةً أو حاوية للنقل وكفى؟
إلى متى سيبقى عقل الشرق، مجرد "مصلى" ل"تأليه" السلف، أو "حائط" لزخرفة الدين في السلف، أو غيتو لسجن كل الحاضر في الماضي السلف؟

"لكم دينكم وللعقل دين"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - القمني قيمة مصرية شامخة
ناجي الأمير ( 2009 / 7 / 19 - 04:04 )
سيدي الكريم،
انتقد الدكتور القمني اليهودية والمسيحية انتقادات صارمة في معظم كتبه أذكر منها -قصة الخلق.. منابع سفر التكوين- و-ميثولوجيا توراتية- و-اسرائيل: التوراة.. التاريخ.. التضليل- و-الأسطورة والتراث- الذي أفرد فيه بابا كاملا لإثبات أن المسيح نسخة مكررة من ميثهرا الإله الهندوسي، و-النبى موسى وآخر أيام تل العمارنة- و-النبي ابراهيم والتاريخ المجهول- وغيرها الكثير ولم يهدر اليهود او المسيحيين دمه كما فعل الإسلاميون بمجرد ظهور كتابه -الحزب الهاشمي- وهي قراءة تاريخية تقع ضمن علم -فقه التاريخ- ولم يجبر القمني أحدا على اعتناق فكره، فهو شخص لا يعشق سوى مصر والحرية، ولهذا فقط هم يريدون تصفيته. سؤال لا أعرف إجابته فكتب سيد القمني تملآ الأسواق منذ ريع قرن وحايا العديد من مواقع الانترنت ، لماذا شنت هذه الحملة الضارية عليه بمجرد حصوله على جائزة الدولة التقديرية (عائدها المادي 200 ألف جنيه) هل لآن الجائزة أفشلت مخططهم في تجويعه و(تمويته صبرا)؟
ولك كل مودة واحترام


2 - شكرا للكاتب
توت عنخ آمنون ( 2009 / 7 / 19 - 04:41 )
مقال ممتاز
شكرا للكاتب الفاضل


3 - تعليق
سيمون خوري ( 2009 / 7 / 19 - 06:33 )
الكاتب الكريم هناك فارق بين عقل يرتدي النقاب ؟ وعقل يرتدي ضوء الشمس. المعركة كانت دائما بين الظلام والنور بين قوى الشر الظلامية وبين قوى الخير المنيرة .فلا يحزنك موقفهم بعد كل ظلام كان يشع ضوء النهار ويستيقظ الانسان سعياً وراء حاجاتة .


4 - شكرا للكاتب
الجوكر ( 2009 / 7 / 19 - 08:48 )
مقال رائع


5 - الطيور على اشكالها
ابواسامة ( 2009 / 7 / 19 - 11:07 )
يعني غوته يعلن موت الهه هو الرب يسوع اما نحن المسلمين فنعتقد ان الله حي لا يموت يبدو ان حكاية القمني قد اتخذت للثأر من الاسلام والمسلمين عقيدة وشريعة ؟!! بصراحة القمني لا يرقى شغله الاكاديمي الى ما اسبغ عليه الكاتب من قداسة ؟!! بضاعة القمني من الدين صفر والغريب انه تصدى للاسلام ولشيءمن اليهودية ولم ينطق بحرف باتجاه المسيحية مع انها دين يعني من يريد ان يمزق الاديان تشريحا عليه ان يفعل ذلك مع الجميع اشمعنى استثنى المسيحية ؟!! نفاقا او خشية من سكاكين مواطنيه المسيحيين نحن مع حق الانسان في ان يعتنق مايشاء اولا يعتنق لكن عليه ان يحترم عقائد الاغلبية في وطنه هل رأيت الى شخص يدخل الى سرادق عزاء ويحمل معه مسجل ويدير اغنية راقصة رعناء ماذا يمكن ان يحصل له هذا ما فعله فرج فوده مع ان اصدقائه الماركسيين دعوه الى ان يهدي اللعب فرد عليهم انا معايا الحكومة ولم تنفعه الحكومة اخي الكريم لقد كشرت عن انيابك واخرجت ضغائن صدرك هل استرحت الان اعلم اخي ان الاسلام جبل لا تهزه الريح ولا نطح الماعز الجبلي ولا حتى البلدي وحياتك كل الذين ناهضوا الاسلام بالعداوة تحت التراب الان ذهبوا وبقي الاسلام عجيب هذا الحلف الكنسي الالحادي ضد الاسلام ؟!!


6 - العنوان بعيد عن المضمون
ياسمين ح. جاسم ( 2009 / 7 / 19 - 13:32 )
اخي الكاتب انا متابعة لكتاباتك واعرفك جريء في الطرح لكنك هنا هنا حاولت التموية في مسالة السيد القمني كيف؟انك ربطت فتاوى تكفير التفكير وحصرتها بالسيد القمني واتخذته عنوانا . يمكن لك الحق في ذلك اذا كان هذا مدخل لموضوع التكفير لكنك لن تستخدم العنوان بشكل مضبوطوهذا هو سبب التمويه . اما المقاله فلا غبار عليه. الا ما اتحفظ بشان موت الاله الذي اعلنه نيتشه. لك كل التحية اخي الكريم


7 - العنوان بعيد عن المضمون
ياسمين ح. جاسم ( 2009 / 7 / 19 - 13:32 )
اخي الكاتب انا متابعة لكتاباتك واعرفك جريء في الطرح لكنك هنا هنا حاولت التموية في مسالة السيد القمني كيف؟انك ربطت فتاوى تكفير التفكير وحصرتها بالسيد القمني واتخذته عنوانا . يمكن لك الحق في ذلك اذا كان هذا مدخل لموضوع التكفير لكنك لن تستخدم العنوان بشكل مضبوطوهذا هو سبب التمويه . اما المقاله فلا غبار عليه. الا ما اتحفظ بشان موت الاله الذي اعلنه نيتشه. لك كل التحية اخي الكريم


8 - مقال رائع
رشا ممتاز ( 2009 / 7 / 19 - 15:52 )
مقال رائع من أوله لآخره شكرا لكاتبه
متى تعود مصرنا إلى طريق العقل
أنتهز الفرصه لآحى الدكتور سيد القمنى.

اخر الافلام

.. ما سبب الاختلاف بين الطوائف المسيحية في الاحتفال بعيد الفصح؟


.. نشطاء يهود يهتفون ضد إسرائيل خلال مظاهرة بنيويورك في أمريكا




.. قبل الاحتفال بعيد القيامة المجيد.. تعرف على تاريخ الطائفة ال


.. رئيس الطائفة الإنجيلية يوضح إيجابيات قانون بناء الكنائس في ن




.. مراسلة الجزيرة ترصد توافد الفلسطينيين المسيحيين إلى كنيسة ال