الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة السابعة)

سعدون محسن ضمد

2009 / 7 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شك الصوفية

بقدر ما يكون الصوفي جاداً وصادقاً، تكون تجربته مكلفة ومخيفة.. وأكثر ما يخيف فيها؛ هو المرور بمحطات التوحيد الثلاثة: توحيد الأفعال ثم الصفات ثم الذات.. بالتأكيد يمكن أن تكون المخاوف مختلفة ومتباينة بحسب الشخصيات.. أقصد أن ما يخيف شخصاً قد لا يخيف غيره. وبالتالي فكلٌ يخاف من أشياء تختلف عن تلك التي يخاف منها غيره. وشخصيا أكثر ما أخافني في التوحيد هو ما ترتب على محطاته الثلاث، ففي كل محطة منها كان ثمة انهدام يؤدي بالضرورة لنوع من أنواع الرعب.

الخطأ أو الشرك
يصل الصوفي لفناء الأفعال ـ أو توحيد الأفعال ـ بسبب مروره بمقام التوكل إذ يتعلم من خلال هذا المقام كيف يتأمل طبيعة ارتباط الوجود بالمطلق. فمعنى التوكل هو أن يتخلى الصوفي عن إرادته سعياً وراء اختبار الحقيقة التي تقول أن الإرادة التي تحكم الكون هي إرادة الله وحده، التي تدير الوجود بحكمة مطلقة، وبالتي يُطالَب الصوفي من قبل أستاذه أن ينسجم مع هذه الحقيقة من خلال ترك إرادة تحكمه بالأحداث والقبول بتحكم الله بها. وهكذا يتعلم كيف يترك الخيارات لله، ويوطن نفسه على الرضى بهذه الخيارات ومهما كانت مكلفة. وهكذا يصدق شيئاً فشيئاً بأن الحياة يمكن لها أن تسير دون تدخل منه. ما يجعله يؤمن وبشكل تصاعدي بحقيقة: أن الله هو الفاعل الأوحد، وما بقية الفاعلين إلا ممرات مختلفة لتمرير فعله هو.
عندما يترك المريد التصرف بحياته على هذا الشكل فانه يدخل بمرحلة سكون تدريجية يتعلم فيها كيف يكون مراقباً خاملاً تتحكم به أحداث حياته كيفما اتفق.. وبالنسبة لي فهنا بدأت أولى مخاوفي، فبعد أن اقتنعت بأن أحداث حياتي يمكن أن تسير من دون تدخل مني، أخذت انسجم مع الحقيقة ـ التي يبدو لي الآن بأنها كأنت معدة لي سلفاً ـ التي تقول بوحدة الفاعل، وهذه القناعة قادتني لأخرى أهم وأخطر تقول بأن الشك بوجود فاعل غير الله هو شرك به ونفي لوحدته المطلقة.. ثم قناعة تتأسس على القناعتين السابقتين هي: أن اختياراتي وافعالي ما هي إلا تجسد لأفعال وخيارات الله.. وبالتالي فلا بد أن تكون إرادتي منسجمة ـ اضطراراً وليس اختياراً ـ مع الإرادة الإلهية بل هي تعبير مباشر عنها. وهنا واجهت الخوف من أن توصلني هذه الحقائق لاقتراف الأخطاء. باعتبار أن إرادة فعل هذه الأخطاء هي إرادة إلهية وممارستها هي تجسيد لممارسات المطلق!!
لقد كنت بمواجهة سؤال محرج هو: إذا كانت الإرادة التي تحكم الوجود واحدة فمن أين يأتي الخطأ والذنب؟ ثم إذا كانت مجريات حياتي تتم بإرادة المريد الأوحد فيكيف أجروء أنا على مقاطعة هذا الإرادة كلما وقفت بمواجهة الخطيئة؟..
لقد أشرت سابقاً لأهمية الصدق في رحلة السير إلى الحقيقة، وصدق الصوفي يعني بأنه حدي في تحقيقه لمقتضات رحلة وضرورياتها، وبالتالي هو لا يستطيع أن يغادر محطة وهو يشك أدنى شك بمدى تحقيقه لشروطها، وعند العقدة التي يشتبك خلالها فعل الله وفعل الإنسان يقف الصوفي على واحدة من أهم اختبارات قدرته على أن يكون صادقاً. وقد عرفت من خلال تجربتي كم أن هذا الاختبار صعب ومريع. فكيف يمكن لي أن أجرب ممارسة الخطيئة وأنا أسير على طريق يقوم أساساً على الأخلاق وحسن السلوك، خاصة بعد رحلة التطهير التي تُبت من خلالها عن العودة لممارسة كل أشكال الذنوب.. إذن بالنسبة لي كانت الخطيئة والذنب أشياء مروعة، لكن من جهة أخرى بدأت أجد بأن امتناعي عن ممارسة بعض الأفعال هو شك محرج بفعالية الله قد يؤدي لنحو من أنحاء الشرك الذي يبعدني عن الوصول لغايات الكمال التي كنت استهدفها..
الله هو الفاعل الأوحد في الوجود هذه حقيقة آمنت بها ـ خلال تلك المرحلة ـ بشكل لا يقبل الشك، وكان هناك سؤال يعارض هذه الحقيقة ويقاطع إيماني بها وهو نفسه السؤال الذي عبر عنه الحلاج بأبياته التي يقول فيها: (أنا أنت بلا شك فسبحانك سبحاني.. وتقديسك تقديسي وعصيانك عصياني.. فَلِم أجلد يا رب إذا قيل هو الجاني؟) الحلاج هنا يعبر عن قلق هذه المرحلة وهو يسأل: لماذا يُحاسِب الله الإنسان على الأفعال التي لا ذنب له بارتكابها باعتبار أنها تجسيد لإفعاله هو؟
لكن الوقوف عند هذا التساؤل ما كان له أن يطول بي لأن كل رحلة التصوف تدفعني اتجاه تجاوز كل عقبات الشرك بالله والعبور لمشاهدة وحدته الحقيقية، إذن كان اختيار ممارسة الخطأ أو حتى الخطيئة اختياراً لا بد منه بالنسبة لي، وهذا الاختيار اجباري ولا بد أن يكون قد اختاره أي صوفي حقق فناء الأفعال، فطريق هذا الفناء يمر عبر الخطيئة وهو مشروط بها.
الكلام عن ممارسة الخطيئة لا يشمل بالضرورة الذنوب الكبرى، بل أي خطيئة أو ذنب، المهم أن ممارسة هذه الخطيئة تتم تحت قناعة أن المطلق هو الذي يمارسها.. شخصياً كانت عملية ممارسة الكذب أول ما أرعبني خاصَّة وأنني تركت الكذب بجميع أشكاله خلال رياضات التطهير والتوبة، وفعلاً استطعت أن أحقق درجة قصوى من هذا الامتناع، وكان ذلك بالنسبة لي إنجاز يصعب التخلي عنه، لكن في مرتبة توحيد الأفعال صار الامتناع عن الكذب بمثابة شرك بالله.. بعبارة أخرى: (تخيل) أنني وجدت نفسي في يوم ما، مخيراً بين أن أكذب أو لا أكذب، فاخترت يومها أن لا أكذب، وبعدها سألت نفسي عن سبب امتناعي عن الكذب؟ وإن كان امتناعي قد لوث إيماني بحقيقة تحكم الله بأفعالي؟ هذا الحدث عندما يتكرر يتحول لمصدر خوف من انهيار التجربة بتمامها. ولك أن تتخيل كيف يمكن للأمر أن يترجم التعامل مع أي ذنب، وسواء أكان صغيراً أم كبيراً فالفكرة واحدة، أنك تفعله أو لا، وعندما تختار أن لا تفعله تسألك نفسك إن كان هذا الخيار صادر من بقايا شكوكك بالتوحيد أم أنه صادر من الذات الواحدة غير المشروخة بالشكوك والضنون البشرية الناقصة..
إن اختيار فعل الخطأ يؤدي بشكل حتمي لنهاية الجدل المحتدم داخل نفس الصوفي حول جواز ممارسته، وبالتالي يوصله لحافة من حواف الانهيار الخلقي والسلوكي، ذلك انه وبشكل مفاجئ يجد نفسه حراً في فعل أي شيء يريده، بل يجد بأن كل الأشياء التي حرم نفسه منها خلال رياضات التطهر والتوبة أصبحت متاحة وبمتناول يديه. وشخصياً وعند تلك النقطة الجوهرية انطلق في داخلي رعب لا يمكن وصفه، وذلك عندما خفت أن يقودني مثل هذا الإيمان لممارسة أخطأ كبرى، سألت نفسي: ماذا لو اضطررت لاختيار السرقة من عدمها (مثلاً) وليس الكذب من عدمه؟ ماذا إن استمر مسلسل ممارسة الأخطاء إلى ما لا نهاية؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مشروع علم وتاريخ الحضارات للدكتور خزعل الماجدي : حوار معه كم


.. مبارك شعبى مصر.. بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس عيد دخو




.. 70-Ali-Imran


.. 71-Ali-Imran




.. 72-Ali-Imran