الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف نصدق تاريخاً دوّن بهذه الطريقة؟!

جمال الهنداوي

2009 / 7 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تظلّ السيرة النبوية المتداولة حتى اليوم مِثَالاً صارخاً لحالة (الاعتباطية) التي لازمت التاريخ الإسلامي تدويناً وقراءةً ونقداً. وبعد أن (انفضحت) مُشاركةُ ابنِ إسحاقَ في قضيّة انتحال الشعر؛ فإن من البديهي أن تثار الشكوك في نفس الباحث بأن الشخص الذي كان يؤتَى بالشِّعر فيدخِلُهُ في السيرة؛ ليسَ مُنَزَّهَاً عن أن يؤتى بالأخبارِ والحوادث والأقوال والحوارات فيدخلها في سياق مناسبٍ كما كان يفعل بالشعر؛ وهذا ما يظهر جليّاً في روايته للسيرة التي وصلتنا عن طريق ابن هشام أو عن طريق رواياتها المنثورة في مدونات التاريخ الأخرى؛ وهو ما يثبت أنّه لم يكن معنياً بصدق الأخبار التي تصل إليه مطلقاً، في حين بذل جلّ طاقته للخروج من خلال هذه الأخبار ببناء روائي متكامل الأركان الفنية، وقصةٍ مسلسلة بها من الأبطال و(الكمبارس) والحبكة الدرامية ما يخلّد ذِكراه، ويوقع في نفس المتلقي من العامة استحساناً، أو ربما يحظى برضى الملوك الذين كانوا مثار اهتمامه أيضاً؛ وهو الأمر الذي تشفُّ عنه عبارة ابن عَديّ وهو يمدحه: "ولو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلا أنه صرف الملوكَ عن الاشتغال بكتب لا يحصل منها شىء إلى الاشتغال بمغازى رسول الله (ص) ومبعثه ومبتدأ الخلق لكانت هذه فضيلة سبق بها ابنُ إسحاق". (الكامل في الضعفاء 6/112
وكان لِزاماً على ابن إسحاق وهو يهدف إلى بناء دراميٍّ مترابط الأحداث متشعب التفاصيل؛ أن يتخلّى عمّا تعارف عليه المحدّثون المدقِّقون من منهج يقتضي اتصال الأخبار بأصحابها، وعدم شذوذها واعتلالها، فهذا المنهج لن يجدي نفعاً في عمله، ولن تتسق مخرجاته مع أهدافه، وكل ما سيتحصل عليه إذا التزم به، لقطات متناثرة وأحداث متفرقة وعبارات يسيرة، قد يصعب الجمع بينها إلا بتصرّف كبير...
ومن ثم فإنّ ما أنتجه ابن إسحاق كان شيئاً جديداً في بابه؛ ولذا لم يعبأ به المدقّقون الذين يبحثون عن حقيقة تاريخية أو حدثاً صادقاً أو قولاً مُحْكَماً، في الوقت الذي أثار فيه بعمله اهتمام العامة والنساء والأطفال ممن يرغبون في التسلية وقضاء أوقات لطيفة أو سهرات ممتعة مع هذه الحكايات؛ ومن ثمّ فإنّ الخطيئة التي ارتكبتها سيرة ابن إسحاق –بوصفها كتابا متداولاً - كانت اهتمامها بتسلية الغوغاء على حساب تاريخ الإسلام الحقيقي، وسيرة نبيه (ص) التي حذر من العبث بها في قوله: (مَنْ حَدَّثَ عَنِّى حَدِيثاً وَهُوَ يرى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ). (أخرجه أحمد ومسلم؛ من حديث: سَمُرَة
أما ابن إسحاق نفسه فقد كان مختلَفاً عليه كثيراً بين موثّقٍ له ومضعّف، والأقوال في هذا الباب تكثر والجدل يتسع.(انظر ترجمته في: الكامل في الضعفاء، الضعفاء والمتروكين للنسائي، الثقات لابن حبان، تهذيب الكمال للمزي، ضعفاء العقيلي... وغيرها
وقبيل الدخول إلى معركة الفصل بين المتخاصمين حول ضعفه أو قوته، صدقه أو كذبه، فلابد من استيعاب حقيقة بديهية تقرر أن الخلاف الكبير في حدّ ذاته يضع علامة استفهام على الراوي ونتاجه الذي ورَّثه، مما يوجب إعادة قراءة السيرة وما أثير حولها بموضوعية تقتضي عدم تجاهل أيّ دلائل ترتبط بالمقولات الناقدة له والجارحة في روايته؛ فإنْ تَعَاضَدَت القراءة مع أقوال الناقدين؛ تأكدّ الاتهام، وطُرِحَتْ هذه السيرة، وإن سَلِمَ منه؛ نظرنا في كتابه وقبلناه... هذا؛ إذا عثرنا عليه
وما أحسن قول ابن خلدون:" فلا تثقنّ بما يُلْقَى إليك... وتأمّل الأخبار واعرضها على القوانين الصحيحة يقع لك تمحيصُها بأحسنِ وجه". (تاريخ ابن خلدون 1/13 -المقدمة). وهو قانون واجب التطبيق والنفاذ حتى على ابن خلدون نفسه وعلى تاريخه المسهب، وهو ما تستبين لمحةٌ منه لاحقاً!
فإذا أبْصَرَ المتأمّلُ السّيرةَ، وطريقةَ تدوينها، وجدَ تسلسلاً منطقياً في الأحداث، غير أنه قليلاً ما تقع عيناه على خبرٍ مُتصل بِمَنْ شَاهدَ الحدثَ وعاينَه، فهي سيرةٌ على اتساع أطرافها زماناً ومكاناً؛ ثم التقاء هذه الأطراف من خلال سياق درامي متناسب في إحكامه مع نضج الفنّ القصصي آنذاك؛ فإنّها من ناحية الصدق ومدى القدرة على إثباته: ممزقة الأوصال منقطعة السبل!
فكثيراً ما تكتفي السيرةُ بأنْ تقصّ الأخبار والأحداث والأقوال والأشعار على لسان الرّاوي -المتوفى سنة 150 هـ أو بعدها بقليل –على طريقة: (قال ابن إسحاق: كذا... وكذا... )، وكأن ابن إسحاق عاينَ الأحداث ووقف عليها بشخصه، كمّا أنه لا يرتفع بكلامه إلى من عاصرَ وشاهدَ، أو إلى وحيٍ يعلم أخبار الأمم السابقة؛ ولا مانع أن يكون الحديث في أعماق تاريخٍ يسبق الإسلام؛ فيكفي أن يبدأ ابن إسحاق في قص حواديته، حتى تشرئب إليه أعناق الجماهير المتشوقة للحكايات؛ فتصدقه وتعيش مع الأحداث وتندمج عاطفياً مع الأبطال.
ومن أمثلة ذلك قول ابن هشام: "قال ابن إسحاق: وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة، فرأى رؤيا هالته، وفَظِعَ بها، فلم يدع كاهناً، ولا ساحراً، ولا عائِفاً ولا منجماً من أهل مملكته إلا جمعه إليه...". (سيرة ابن هشام 1/15 وما بعدها
. وتستمر فصول القصة الطويلة، ومنها ما جرى مع شقّ وسطيح، وتعبير الرؤيا والتنبؤ بالرسول والرسالة وغيرها، وهي القصة التي لم نقف لها على ما يناظرها طولاً وتسلسلاً عند غير ابن إسحاق، وإن كان لسطيح قصص أخرى في تعبير الرؤيا لا تقل سقوطاً عن هذه القصة، وهي ذات القصة التي نقلها عن ابن إسحاق عددٌ من المؤرخين اللاحقين له والسائرين على دربه مثل ابن كثير! (انظر: السيرة النبوية لابن كثير 1/15، البداية والنهاية له 2/197)، وللأسف فقد أشار إليها ابن خلدون ولم ينتقدها في تاريخه وكأنه اعتمدها حين قال: "وأما ابن إسحاق فذكر في آل نصر ومصيرهم إلى العراق أن ذلك كان بسبب الرؤيا التى رآها ربيعة بن نصر وعبَّرها الكاهنان شق وسطيح". (تاريخ ابن خلدون 2/262
. فابن خلدون هنا لم يتأمل الخبر ولم يعرضه على القوانين، وإن كان قد طَالَبَ غيره بذلكَ!
كذلك لم تخل القصة من أن تتحول إلى المأثور الأدبي والشعبي، أو لعلها كانت هكذا في الأساس وزجّ بها ابن إسحاق في السيرة زجّا، وهذا راجح جداً؛ لأنه لم يخبرنا عن مصدرها، وهي التي قد يقف القاريء لها على مصدر ثان برواية البيهقي في دلائل النبوة؛ لكنها رواية لا تقل تهالكاً عن رواية ابن إسحاق، وقد انتشرت القصة في أقوال بعض الشعراء كابن الرومي (المتوفى سنة 283هـ) الذي قال لبعض أمراء عصره:
لك رأيٌ كأنـه رأي شِقٍّ أو سطيحٍ قَريعَي الكُهان
تستشفُّ الغيوبَ عما يواريـ ـنَ بعينٍ جَليّة الإنسان
ولو شئنا أن نعدد أثر هذه القصة في كتابات الأدباء القدامى وأشعارهم سنقف على أمثلة أخرى كثيرة؛ فهي حكاية متداولة ومشهورة، لكنّ شهرتها لا تشفع لصحتها ولا تقربها من الحقيقة شبراً! وهي مثال على غيرها من الروايات التاريخية وكيفية تلقّيها وآليةِ ذيوعها ومدى انتشارها. أما إعادة طرحها بصيغة الجزم والتحقيق فهو لا يدل إلاّ على حالة (الاعتباطية) التي أشرنا إليها سلفاً.
ونعود للسيرة؛ فإنّه لا تمرّ على القاريء صفحة أو اثنتين أو ثلاث إلا وتقابله عبارة (قال ابن إسحاق:...)، ثم يستمتع بعدها بما تيسر له من الأخبار والحكايات والأشعار والأنساب، وبما تيسر لابن هشام من ذلك كما تيسر لأستاذِ أستاذِه من قبل!
وفي أحيان أخرى يقوم المؤرخ محمد بن إسحاق بإسناد كلامه إلى غيره، فمن أسند فقد أبرأ ذمته... فهل كانت ذمّة ابن إسحاق بريئة وهو يروي عن مجاهيل لا سبيل إلى معرفتهم؟! كأن الذين جاءوا بالسيرة أشباحاً مثل شعراء الجن الذين لم تخل السيرة من بعض أشعارهم !
إن الكتاب مليء بهذا النوع من الرواية عن المجهولين: الذين تصفهم عبارات مثل: (حدثني بعض بني فلان) كقوله: "وقد حدثني بعض بني قريظة". (سيرة ابن هشام 1/564). أو قوله"فأخبرني من لا أتهم". (سيرة ابن هشام 1/607).وهلم جرّا
وابن إسحاق يأتي بالروايات المختلفة بنفس الطريقة، ولا يجد سبيلاً للتوفيق بينها؛ كقوله: " وقد حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله (ص) إنما سمَّى عليّاً أبا تراب، أنه كان إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلمها، ولم يقل لها شيئا تكرهه إلا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه. قال فكان رسول الله (ص) إذا رأى عليه التراب عرف أنه عاتب على فاطمة فيقول ما لك يا أبا تراب ؟ فالله أعلم أي ذلك كان". (سيرة ابن هشام 1/599).
وقد جاء ابن إسحاق قبيل هذه القصة بقصةٍ جاء بها (مُسْنَدَةً) إلى عمار؛ أنه نامَ وعلياً تحت نخلة وأصابهما التراب؛ "قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم المحاربي عن محمد بن كعب القرظي عن محمد بن خيثم أبي يزيد عن عمار بن ياسر، وفيها: وقد تتربنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها فيومئذ قال رسول الله (ص) لعلي بن أبي طالب: ما لك يا أبا تراب؟ لما يرى عليه من التراب".
وجمع الروايتين بهذه الصورة –ومثال ذلك كثير في السيرة- دليلٌ على اضطراب ابن إسحاق في رواياته، وعدم رسوخ علمه فيما يروي، وغياب الدقة في إسناده؛ فيما يظن الظانّ أن إحدى الرواتين مُسْنداً متصلاً، وعدم حرصه على تمييز الصواب من الخطأ؛ حين يقول بعد الروايتين: فالله أعلم أيّ ذلك كان؟! فهو لا يعلم صدق ما يروي من كذبه! ولا يميز الرواية ومضمونها، ولا يعرضها على ما يقابلها من الصحيح! وقد علّق البُخاري على إسناده الأول مبينا سقوطه، فقال تعليقاً على هذا الحديث المتعلق بغزوة (ذات العشيرة): لا يُعرَفُ سماعُ يزيد من محمد، ولا محمد بن كعب من ابن خثيم، ولا ابن خثيم من عمار!! (التاريخ الكبير للبخاري 1/71). أي أن رواياته ظلمات بعضها فوق بعض... فابن إسحاق عندما يُسند كأنّه لا يُسند!!
وفي شكل آخر من أشكال التجميع، نرى ابن إسحاق يجمع الروايات أحياناً مع بعضها دون تمييز لها، ويقوم بذكر الأسانيد جملةً واحدة بما فيها من ضعفاء ومجاهيل، ثم يقوم بتأليفِ قصته الفنية من خلال دمجها جميعا وتزويقها بالشعر وربما بعض الـ (أكشن)، فلا تستطيع تمييز الروايات، والصواب من الخطأ، المهم أن تقرأ رواية متكاملة للحدث؛ مثال ذلك ما ذكره عن غزة بدر؛ حيث يقول "حدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن ابن عباس، كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر، قالوا:...". (سيرة ابن هشام 1/606
ثمّ يستمر ابن إسحاق لحوالي 150 صفحة من السيرة يتحدث عن تفاصيل غزوة بدر. دون أن يحدّد للقاريء هويةَ صاحب الرواية، ودون أن يكشف اللثام عن علمائه الذين حدثوه عن ابن عباس؟!
وعن غزوة أحد يقول: "وكان من حديث أحد، كما حدثني محمد بن مسلم الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا، كلّهم قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من هذا الحديث عن يوم أحد؛ قالوا، أو من قاله منهم". ثم يستمر في روايته لأكثر من مائة صفحة. (انظر: سيرة ابن هشام 2/60-168.
أو قوله في غزوة الخندق: "حدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير بن عروة بن الزبير، ومن لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد اجتمع حديثه في الحديث عن الخندق، وبعضهم يحدث ما لا يحدث به بعض؛ قالوا: ". ثم يستمر في حكايته عن غزوة أحد إلى أن يصل إلى غزوة بني قريظة (انظر: سيرة ابن هشام 2/214 -232
وفي بني قريظة يستمر على نفس المنوال... وهكذا كانت السيرة من أولها إلى آخرها...
إن فعلاً أقل من هذا الأفعال التي مارسها ابن إسحاق في السيرة (كيفاً وكماً) يسمّى من الناحية العلمية تدليساً، وهو كفيلٌ بردّ رواية ابن إسحاق للسيرة، على الأقل لأنه لم يصرح بسماعه من أحد في مجملها - وهو الذي اعتاد التدليس في غيرها، وأقر ذلك واعترف به غير واحد، فقد أكثر عن الضعفاء ودلّس على الناس روايات هؤلاء الضعفاء، وأسندها فظنّها الغافلون متصلة، وليست بذاك. حتى قيل عنه: "مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شرٍّ منهم". (انظر: التبيين لأسماء المدلسين للطرابلسي ص171، وتعريف اهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس، لابن حجرص51.
ولا أظن أن شعبة بن الحجاج هذا المحدّث المدقّق حين نُقِلَ عنه القولُ بأن ابن إسحاق: "أمير المؤمنين في الحديث". (الكامل في الضعفاء لابن عدي 6/107)، قد وقف على روايات ابن إسحاق للسيرة وتدليسه وعبثه المشار إليه، وإلاّ لكان له فيه قولٌ آخر، وهو القائل – أي شعبة -: " لان أزني أحب إليّ من أن أدلس. (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/173). فقد كان التدليس خصلة تصل من دناءتها في نفس شعبة إلى أنها أحطّ ذنباً وأخسّ قدراً من الزنا!
ولا أظن –كذلك- أن واحداً مثل ابن عدي قد وقعت له السيرة بالصورة التي وقعت لنا، حتى يتساهل في أمر ابن إسحاق، فكتابه (الكامل في الضعفاء) -وهو يعد من العلامات المضيئة المعدودة في التفكير العلمي المنظم في تاريخ الفكر الإسلامي- يشهدُ لمنهجٍ علمي واضح يقوم على تتبع روايات الراوي واعتبارها ومقارنتها بروايات غيره، حتى يتبين له وفق منهج استقرائي مدى نكارة رواياته أو صدقها، ومقدار انحرافه عن الضبط ومدى الخلل والزلل الذي يمكن أن يتمكن من حديثه، وقد فعل ذلك بما أتيح له مع ابن إسحاق، وذكر ما تيسر أمامه من روايات قارنها بروايات غيره له، وحصر جملة من الأخطاء الهيّنة، وخرج من بحثه قائلاً: " وقد فتشت أحاديثه الكثيرة، فلم أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يُقطع عليه بالضعف وربما أخطأ أو وهم في الشئ بعد الشئ كما يخطئ غيره". (الكامل في الضعفاء 6/112). وهي نتيجة لا يمكن الخروج بها وفق طريقة ابن عدي في العمل، وطريقة ابن إسحاق في الرواية. إذا كان بالفعل فتش أحاديثه الكثيرة ومن بينها أحاديث السيرة! وإلاّ لكانت سقطة منهجية لابن عديّ، وجلّ من لا يخطيء!
وقد تنبه غير واحد ممن تحدث عن ابن إسحاق لهذا العبث الذي فعله بالسيرة؛ فتناقلت جميع الكتب تقريباً ما يمكن أن يكون مِصْدَاقاً لهذا الاستهتار الذي مارسه في تحمل الأخبار التاريخية؛ كقول ابن حبان – وهو من المتعاطفين مع ابن إسحاق والذائدين عنه -: (إنَّما كان يُنْكَرُ تتبعه غزوات النبى (ص) من أولاد اليهود الذين أسلموا...).(الثقات لابن حبان 7/380).
أو قول: الذّهبي – وهو أيضاً من المتعاطفين معه والذائدين عنه-:"محمد بن إسحاق... ما له عندي ذنب إلا ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنكرة المنقطعة والأشعار المكذوبة ". ميزان الاعتدال للذهبي 1/469..ذَنْبٌ صَغيرٌ... أليسَ كذلك؟
والملاحظ أن الذّهبي (المتوفي سنة 748 هـ) لم يستطع الدفاع المطلق عنه فقد خَرَجَ على الرغم من كونه أسيراً لشهرة ابن إسحاق وسيرته– مثل عموم أهل عصره - بنتيجة تشرحها العبارة الآتية في آخر ترجمته: " فالذي يظهر لى أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإنَّ في حفظه شيئاً، وقد احتج به أئمة، فالله أعلم".
والموضوعية في الحكم و الغَرَض كلاهما يلتقيان مع قول الذهبي: "وما انفرد به ففيه نكارة". لأن ما لم ينفرد به يمكن أن نتحصل عليه من طريق غيره، وكفانا الله شر البحث عن طريقة تدوينه للسيرة أو عدالته في نفسه، وهذا يعني أنه لم يقدم شيئاً ذا بال يستحق إن نلتفت إليه إذا انفرد به!
لقد بات واضحاً أن ابن إسحاق كان مدلساً في حديثه، ومضلّلاً من خلال تدوينه السيرة حين يدخل روايات الثقات في روايات الضعفاء والمجهولين، وعابثاً عندما كان يروي الغرائب والمناكير والأشعار المنحولة ويدمجها في أحداث سيرته... وهي النتيجة التي تئول إلى أن ابن إسحاق كان قصاصاً فناناً مهتماً بالجمع والتفصيل والتطريز دون النظر إلى صدق الأخبار أو كذبها... وهو ما يعني أن سيرته تصبح أمام الحقيقة التاريخية والقيمة العلمية في مهب الريح.
هذا على الرغم من عدم التعرض بعد لما أثير حول ابن إسحاق من ادعاء الإمام مالك وهشام ابن عروة بأنه كان دجالاً أو كذاباً!! فالمشكلة – إذا أخذ هذا الادعاء على محمل الجدّ- لن تتعلق فحسب بالطريقة التي ارتسمها ابن إسحاق لنفسه في جمع السيرة، بل تتعلق بأمانته الشخصية، وحديثه عموماً.
أما ابن هشام الذي روى السيرة عن البكائي عن ابن إسحاق، فلم يكن هو الآخر منزهاً عن هذه الاستهتار في توثيق الأخبار من خلال إضافاته للسيرة وفق ذات المنهج الاعتباطي في التدوين؛ ففي السيرة على سبيل المثال: "قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحيّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق - وهم ولد عملاق. ويقال عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح - رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، و نستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنما، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه ؟ فأعطوه صنما يقال له: هبل. فقدم به مكة، فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه ". (سيرة ابن هشام 1/77) وتابعه في نقل ذلك ابن كثير(البداية والنهاية 2/273). ومثل هذه الأخبار تناقلتها كتب التاريخ عبر القرون وأثبتتها حتى يظن الجاهل تواترها. ويستسلم الباحثُ لشُهرتها، على الرغم من أنها (حفش وسوء كيل)!
هكذا كانت السيرة النبوية لابن إسحاق: سوء حفظ... تدليس... روايات مرسلة ومنقطعة... إسراف في الرواية عن مجاهيل وضعفاء... إدخال الروايات بعضها في بعض وتأليف قصص من خلالها، مع عدم استبعاد ما يستلزم ذلك من (ترتيب) و(تربيط) و(تظبيط)... إسراف في نقل الأخبار المنحولة والأشعار المكذوبة على ألسنة العرب والعجم والإنس والجن... اتهام بالكذب... تصرف من ابن هشام بالنص الأصلي حذفاً وإضافة... وأشياء أخرى!!
وهي مواصفات تتناسب مع قول أبي تمام:

مَساوٍ لَو قُسِمنَ عَلى الغَواني لَما أُمْهِرنَ إِلاّ بِالطّلاق.


مقال ودراسة مهمة للاستاذ ياسر غريب..ارتأيت ان اعيد نقله بدون تعليق لاهمية الموضوع من حيث استسهال التدليس والتحريف في بعض الكتب والمراجع الذي اعتمدت عليها كتب الفقه والتفسير حد الاتكاء والتنزيل بمرتبة تترجرج ما بين كلام الخالق والمخلوق وتكريسها كحد فاصل ما بين الخطأ والصواب والكفر والايمان والتوصية الضمنية على اتباعها كنوع من ابراء الذمة تجاه السماء ..دون الالتفات لحقيقة انها من انتاج انسان غير منزه يعتريه ما يعتري كل البشر من نقص او اختلاف وحب ظهور..وخصوصا اسلوب تغليب النفس المحكي واداب الفن الشعبي على حساب الرصانة العلمية المطلوبة في هكذا مباحث مما يفقدها القدسية المضفاة عليها قسرا وينفي عنها المرجعية والمصدرية العالية التي تمثلها كنص معتمد من قبل اغلب المتصدين للشأن الفقهي في دراسة تلك الفترة الحرجة من التاريخ الاسلامي..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - والهدف من التشكيك بالتاريخ ؟؟؟؟؟؟؟
صلاح يوسف ( 2009 / 7 / 21 - 21:03 )
تصبح جميع الدراسات الناقدة التي قام بها المفكرون العرب من القمني لكامل النجار لوفاء سلطان لحسن حنفي لخليل عبد الكريم لحسين مروة ........ كلها لاغية ؟؟؟؟؟؟ أنا لم أقابل في حياتي أكثر فهلوة وشطارة مثل أتباع الإسلام السياسي أو مؤيديهم - بوعي - أو بدون وعي !!!!
ملاحظة: القرآن نفسه تم تدوينه بنفس الطريقة !!!!!!!!


2 - الآفة في الرواة
ضياء عباس ( 2009 / 7 / 21 - 21:10 )
بحث قيم وكما يقال فان آفة الاخبار رواتها ان المؤرخين يدونون الاخبار بغض النظر عن صحتها وسقمها ومن هنا تأتي مهمة الباحثين في تنقية التراث من الشوائب الحكايات المنحولة والقصص الخرافية ومقارنة الواقعة الواحدة باكثر من مصدر للتحقق من صدقيتها


3 - السيد صلاح المحترم
جمال الهنداوي ( 2009 / 7 / 21 - 21:41 )
سيدي الفاضل..اشكر تفضلك بالرد..ولكني لم افهم ماذا تقترح..هل نكرس كتب التراث لكي نجد ما نتسلى بشتمه مستقبلا..وسؤال شخصي ان سمحت..ارى انك وضعتني ضمن اتباع ومريدي الاسلام السياسي..واعتبر ان وصف الشطارة والفهلوة مدحا كريما منك يستحق الشكر والامتنان..ولكن هل اعتبرتني من ضمن الواعين ام غير الواعين..مع فائق احترامي سيدي العزيز


4 - السيد جمال الهنداوي
صلاح يوسف ( 2009 / 7 / 22 - 09:07 )
لا يوجد فيما يتعلق بالكتابة أمور يمكن تشخيصها، فالكاتب شخصية عامة أو شبه عامة وحديثه قد يصنع رأياً عاماً، ومن السخف اعتبار ذلك أموراً شخصية، فالرؤساء والمشتغلين بالسياسة هم أيضاً شخصيات عامة ويجوز انتقادهم.
أما عن اتهامك بالفهلوة والشطارة فهو ليس شخصياً كما اعتقدت، بل رد بسيط على مصطلح ( اعتباطي ) الذي اتخذته مستهلاً في مقدمة حديثك عن التاريخ.

أما دعوات غعادة كتابة التاريخ فهي دعوة إسلامية بحتة يقومون بها عن وعي وسابق إصرار بعد الفضائح المخزية لأفعال محمد وإرهابه وإجرامه وقتله للأسرى واغتصابه للنساء وتنكيله بالمعارضين الذين لم يروا دليلاً واحداً على نبوته فكان رده بقتلهم وحرق كرومهم. هل من يقوم بحرق الكروم إنسان سوي ؟؟؟؟

الوسيلة الوحيدة للهروب من هذه السيرة المخزية هي التشكيك في التاريخ كله من خلال التشكيك في شخصية وأمانة ابن إسحاق، فمن يكون ابن إسحاق هذا يا سيدي الكريم ؟ لماذا لم تأتي على ذكر مفسري القرآن ؟ ما رأيك في ابن كثير ؟ الطبري ؟ محمد بن سعد ؟

ثم انت تقول ( هذا على الرغم من عدم التعرض بعد لما أثير حول ابن إسحاق من ادعاء الإمام مالك وهشام ابن عروة بأنه كان دجالاً أو كذاباً!! فالمشكلة – إذا أخذ هذا الادعاء على محمل الجدّ- لن تتعلق فحسب بالطريقة التي ارت


5 - السيد صلاح المحترم
جمال الهنداوي ( 2009 / 7 / 22 - 13:01 )
سيدي الفاضل..ممتن جدا لك سيدي لمتابعتك الواعية والمضيفة والمضيئة للموضوع..قد اجرؤ على الادعاء باننا لا نختلف كثيرا على مبدأ رفض القبول بالتاريخ المدون على علاته..ولكننا قد نختلف في طريقة حسم الموضوع والتوصل الى نتائج معينة والتوجه بها الى مثابات جديدة ننطلق منها الى الامام..فيا سيدي العزيز..نحن نتكلم عن مجتمع له اشتراطات ومنطلقات قد لا تتطابق تماما مع ما نراه..والنظر الى هكذا ملاحظات كمراحل محروقة عفا عليها الزمان ويجب الغائها وتجاوزها قد يكون محبذا – وانا من المحبذين - في بعض الحوارات الفردية او التجمعات والمنتديات ذات الاستعداد المسبق لتقبل هذه المقاربة لموضوعة الدين والتراث..ولكنها لن تكون مفيدة جدا في محاولة السير في طريق التنوير لمجتمع افتضت حريته الفكرية لقرون ..ولن تقوى امام خطبة واحدة من خطيب مجهول ومن منبر متواضع عن سير خالد بن الوليد على الماء او نزول الله الى الارض على دابة مطهمة..
وارجو ان لا اكون مبالغا ان قلت ان هذا الكلام الذي يراه شخصكم الكريم نوع من الموافقة على- دعوة الإسلام السياسي الساذجة بالتشكيك في أمهات الكتب وشطب تاريخ الإسلام - خاصة المخازي ! –- مع التأكيد اني لم اصادف هكذا دعوة..يراه غيرك - وهم كثر- نوع من الكفر والهرطقة والتطاول على مقام العلماء الاعلام

اخر الافلام

.. 82-Al-Aanaam


.. هل هبط آدم من الفضاء ؟




.. -اليهود مش هينسوهم-..تفاصيل لأول مرة عن قادة حرب أكتوبر


.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية.. الكلمة الفصل للميدان | 202




.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية: تماسك في الميدان في مواجهة