الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذاكرة

نزار حمود
أستاذ جامعي وكاتب

(Nezar Hammoud)

2009 / 7 / 24
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


طوال شهري تموز - آب من العام 1759، وفي إطار حرب السنوات السبع التي يعتبرها العديد من المؤرخين أول حرب كونية جرت أحداثها على أرض أوروبا ومستعمرات ماوراء البحار، كان الأسطول البحري الإنكليزي يجوب أنحاء نهر سان لوران كذئب ٍ جائع ٍ باحثا ً عن نقطة ارتكاز آمنة يستطيع الرسو بها كي يسيطر على مدينة الكيبيك ومن خلال ذلك... إخضاع فرنسا الجديدة وقطع خيراتها عن فرنسا الأم. هذه الأحداث كانت بعد ثلاثة أشهر من حصار ٍ مضن ٍ للمدنيين والعسكريين في مدينة الكيبيك. في الثالث عشر من أيلول وجد الأميرال الإنكليزي ساندرز ضالته وقام، بدون مواجهة مقاومة تذكر، بالإنزال في نقطة فولون. كان الجانبان متكافئين من حيث العدد إلا أن الفرنسيين كانوا أقلَ خبرة ٍ وتمرس في فنون القتال والعديد منهم كان من المدنيين الذين حملوا السلاح رفضا ً للهيمنة البريطانية على البلاد. أما نتيجة المعركة التي عرفت فيما بعد باسم معركة سهول أبراهام فقد كانت خسارة الجانب الفرنسي لمدينة الكيبيك وسقوط مونتريال بعدها بسنة واحدة. لقد اضطرت فرنسا إثر هذه الأحداث لتوقيع معاهدة باريس في العام 1763 التي تنازلت بها لبريطانيا عن فرنسا الجديدة (الكيبيك) والأكادي وجزيرة كاب بروتون وما يسمى بالضفة اليسرى لنهرالميسيسيبي. أما عن الخسائر البشرية فقد كانت خسائر كل ٍ من الجانبين نحو الستمائة قتيل. الخسائر في أرواح المدنيين، طبعا ً من الجانب الفرنسي، كانت هامة ومن الصعب تقديرها لانعدام الإحصائيات والتعتيم الرسمي على ذلك. لقد قمت ُ في العام الماضي بزيارة أحد الأديرة المستخدم حاليا ً، وفي الماضي، كمشفى في مدينة الكيبيك وشاهدت قذائف المدفعية التي قصف بها الإنكليز هذا الدير على الرغم من إيواءه للمئات من المرضى والمصابين. لقد استمرت المعركة الفعلية خمسة عشرة دقيقة فقط إلا أن نتائجها كانت حاسمة جدا ً بالنسبة للشعب الفرنسي الذي قرر البقاء في الكيبيك والعيش به.
اليوم .... وبعد مرور 250 عام على هذه المعركة قامت لجنة تقصي أحداث المعارك الوطنية الكندية بمحاولة إعادة تمثيل المعركة على اعتبار أنها جزء هام من تاريخ كندا الوطني. كان المفترض أن يقوم بهذه العملية الاحتفالية مئات من الشباب وهم مرتدين ملابس ذلك الزمن من خلال إعادة تشكيل عملية الإنزال وإلحاق الهزيمة بالجيش الفرنسي. وهنا كانت المفاجأة!!
الذي حصل هو أن اللجنة تلقت التهديد تلو الآخر بإفساد هذا الاحتفال لابل بتخريبه بالقوة إن لزم الأمر من خلال القيام بعمليات تفجيرية. مصدر التهديدات بقي مجهولا ً لعدم تبنيه رسميا ً من أية جهة معروفة أو غير معروفة. وماكان من اللجنة إلا أن تخلت عن الأمر برمته منعا ً لأعمال العنف والتخريب التي قد تهدد سمعة الوطن الكندي. يقول أندريه جونو رئيس اللجنة المذكورة أعلاه إن "الدرس الذي فهمناه، وبوضوح شديد، هو أن حساسية الناس لذكرى هذه المعركة المؤلمة كانت أعلى بكثير مما تصورنا على الرغم من مرور 250 سنة... وقد فاجأنا هذا الأمر". لقد دافع أندريه عن لجنته بقوله إنه لم يكن يقصد الاحتفال وإظهار الفرح بالهزيمة! الحزب الكيبيكوازي من جانبه طالب وبشدة بإلغاء الاحتفال. ستيفان هاربر استهجن المطالبة بالإلغاء قائلا ً إن كندا وطن واحد لايتجزأ. رئيس الحزب الليبيرالي الكندي أغناتييف قال إن لكل ٍ الحق في إبداء رأيه في وطن حر ككندا ولكن ليس عن طريق العنف. لقد تبين للجنة، فجأة، أن الشعور بالظلم والقهر لا يموت حتى ولو مر عليه 250 سنة. هذا مع العلم أن كندا تعيش بظل قانون يحمي حقوق كل الأعراق والأقليات... في ظل دستور مصمم على أسس ديمقراطية تهتم بإرساء العدل والحق حتى مع الحيوانات.
المهم في كل ذلك هو أننا في الشرق الأدنى المعــذب مطالبون بأن ننسى ماحصل قبل ستين سنة فقط. أن ننسى فلسطين الـ 48 وحتى فلسطين الـ 67. أن ننسى لواء اسكندرون. أن ننسى العنف وحمامات الدم. لابل أن ننسى أن أراضينا وقرانا قد قسمت بالمسطرة على الخريطة وحُمـِّـلت كل قطعة ٍ منها علما ً وكشك حدود وشعارات طنانة. ومن يتذكر ذلك فهو متهم ٌ بعدم التماهي مع متطلبات العصر وفهم واقعياته. يطالبنا معسكر الاعتدال العربي الشهير وسيء الصيت في آن معا ً، أن ننسى على الرغم من استمرار القتل والتهجير والتدمير وما غزة إلا آخر الفصول الدموية ضمن مسرحية مبكية مضحكة طويلة تمر طبعا ً بقمع الحكومات الوطنية لشعوبها والمتاجرة بإرادتها ودمائها. في كندا ورغم كل النعيم والترف المادي والفكري الذي تعيشه، وجد من يقول لا وبعنف ٍشديد للإحتفالية الـ 250 بمعركة سهول أبراهام. الجرح القديم أعيد فتحه من جديد وإذا به مازال غائرا ً أمام الأعين والدم يشخب فيه. المُصاب ما زال جللا ً في القلوب والعقول. أما في الشرق البعيد فنحن مطالبون بالنسيان وكأن الذاكرة الحية قد باتت جذاما ً قاتلا ً لابد من معالجته.
إن للشعوب ذاكرة لاتموت ولو بعد 250 سنة. لقد بينت أحداث منطقة الشرق الأدنى الأخيرة أن هذه الذاكرة أقوى بكثير مما يتصور زعماء العصر وأسياد الزمان الجدد وعلماء المصطلحات وتغيير المفاهيم والقيم. هذه الذاكرة هي كالجذر الضارب عميقا ً في الأرض الذي يفاجأ الجميع مع كل ذوبان ثلج. والحياة دوائر...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل وقعت جرائم تطهير عرقي في السودان؟ | المسائية


.. اكلات صحية ولذيذة باللحمة مع الشيف عمر ????




.. عواصف وفيضانات في العالم العربي.. ظواهر عرضية؟


.. السنغال: 11 مصابا في حادث خروج طائرة من طراز بوينغ عن المدرج




.. الجامعات الإسبانية تعرب عن استعدادها لتعليق تعاونها مع إسرائ