الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المحطات الكبرى للفلسفة الأوروبية

هاشم صالح

2009 / 8 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



تعجبني هذه الكتب الموجهة للطلاب الجامعيين أساسًا والتي تقدم لهم المادة الأولية الضرورية لتوسيع معلوماتهم فيما بعد. فهذا الكتاب الذي ألّفه الباحث دومينيك فولشيد الأستاذ في جامعة "مارن لافالي" بضواحي باريس يتخذ العنوان التالي: المحطات الكبرى للفلسفة الكلاسيكية والحديثة والمعاصرة. وهو صادر عن المطبوعات الجامعية الفرنسية. ويستعرض المؤلف فيه عناوين أهم الكتب الفلسفية التي ظهرت في أوروبا منذ القرن الثالث عشر وحتى اليوم. وبالتالي فهو يعدّد أسماء مئات الكتب التي أثرت على الفكر البشري. بالطبع فإننا لن نستطيع أن نذكرها هنا جميعاً لأنها تتجاوز إمكانية عشرات المقالات فما بالك بمقالة واحدة؟ ولكني سأتجول في جنبات الكتاب متوقفاً عند بعض المحطات التي أراها أساسية. وأعتذر للقارئ مسبقا عن هذه النزهة الصاروخية الظالمة لأنها تتوقف بسرعة شديدة عند بعض المحطات فقط مهملة محطات أخرى قد لا تقل أهمية إن لم تزد. ولكن ما في اليد حيلة. قبل ان أدخل في صلب الموضوع سوف أقول فقط بان المؤلف أتحف المكتبة الفرنسية بعدة مؤلفات تستحق الاهتمام مثل: الفلسفة الألمانية من كانط إلى هيدغر، وروح الإلحاد ومصيره، والفلسفات الكبرى، الخ..

سوف أتوقف أولاً عند كانط، مؤسس الحداثة الفلسفية بامتياز. فكتابه نقد العقل الخالص الذي ظهر عام 1781 يقسم تاريخ الفلسفة إلى قسمين، ما قبله وما بعده. وعندما ظهر الكتاب لأول مرة كان مليئاً بالمصطلحات العويصة، والغموض، والاختلاط. ولم تظهر أهمية الكتاب وعظمته إلا بشكل تدريجي. وكانط يقدم كتابه كدراسة منهجية للإجابة على الأسئلة التالية: ما الذي أستطيع أن أعرفه في هذه الحياة؟ ما الذي أستطيع أن أفعله؟ ما الذي أستطيع أن آمله وأرجوه؟ في الواقع ان كانط كان يريد أن يضع حداً لتيارين فلسفيين سائدين في عصره: التيار الدوغمائي الميتافيزيقي ذي اليقينيات القطعية والنهائية التي لا تقبل أي نقاش، والتيار الارتيابي الشكوكي الذي لا يثق بأي شيء. فهذان التياران أثبتا فشلهما بعد أن انخرطا في مناقشات عقيمة حول أسئلة ميتافيزيقية لا طائل من ورائها. في هذه اللحظة بالذات ظهر كانط لكي يفتح للفلسفة أفقاً جديداً، ولكي يجعلها مفيدة لتقدم الجنس البشري. وهنا تكمن عظمة هذا الفيلسوف وأهميته. فهو يرى أن الشيء الأساسي الذي حصل في عصره هو العلم الطبيعي الفيزيائي الرياضي: أي علم نيوتن القائم على التجريب واكتشاف قوانين الكون. وبالتالي فلم نعد قادرين على التفلسف بشكل ميتافيزيقي –أي مجاني- بعد ظهور علم نيوتن. فالفلسفة منذ الآن فصاعداً ينبغي أن تكون تفكيراً حول العلم ونتائجه ومناهجه، وليست تهويماً في فراغات الميتافيزيقا والثرثرات التي لا تستند على أي شيئ. وهذا يعني اننا لم نعد قادرين على قول أي شيء كما كان يفعل الخطاب الفلسفي العمومي السابق، وانما ينبغي أن يتوافق كلام الفلسفة مع كلام العلم الذي هو ووحده الموثوق واليقيني. بمعنى آخر لقد انتهى العهد الذي كنا نقول فيه كل شيئ عن اللاشيء، أو اللاشيء عن كل شيء. وبكلمة علم، كان كانط يقصد كما ذكرنا العلم الفيزيائي – الرياضي الذي أسسه نيوتن على أسس صلبة بعد أن اكتشف قانون الجاذبية الكوني وبعض القوانين الطبيعية الأخرى.

لقد أحدث كانط ثورة كوبرنيكية في مجال الفلسفة تشبه الثورة التي أحدثها كوبرنيكوس في مجال علم الفلك. فكما أن كوبرنيكوس قال بدوران الأرض حول الشمس وليس العكس فإن كانط قال بضرورة دوران الفلسفة حول العلم. فالعلم الفيزيائي-الرياضي الذي يكتشف قوانين الطبيعة والكون هو أساس المعرفة. وهكذا فصل كانط بين الفلسفة والعلم بعد أن كانا مختلطين على مدار العصور السابقة، وأعطى الأولوية للعلم، وأسس ما ندعوه حالياً بالإبستمولوجيا: أي فلسفة العلوم.
أما المحطة الكبيرة الثانية في تاريخ الفلسفة فهي بالطبع: هيغل الذي جاء بعد كانط مباشرة. وكتابه "فينومينولوجيا الروح" او علم تجليات الروح والفكر في التاريخ لا يقل شهرة عن كتاب كانط: "نقد العقل الخالص". وكان هيغل قد نشر عام 1807 نصاً بعنوان: نظام العلم. وقال بأن فينومينولوجيا الروح ليست إلا الجزء الأول من هذا النظام. ولكنها في الواقع بقيت الجزء الوحيد. أما الكتاب الثاني الذي نشره هيغل فهو: موسوعة العلوم الفلسفية (1817). وهو يقول فيه بأن الفلسفة تقدم نفسها بنفسها وتسبق كل شيء. ثم يقول بأن هناك جذوراً تاريخية للفلسفة، وبالتالي فينبغي أن ندرس كل فلسفة داخل الإطار التاريخي الذي ظهرت فيه. فالفلسفة بنت عصرها وهدفها حل المشكلة الكبرى في كل عصر. ولكن ما هي علاقة اللاهوت (أو علم الدين) بالفلسفة. وكيف يمكن أن نصالح بينهما؟ من المعلوم ان اللاهوتيين يقولون بأن الحقيقة المطلقة للدين تتعارض مع الحقائق المصغَّرة أو اللايقينية للعقل. بل ويستسخفون حقائق الحياة الدنيا العابرة والزائلة. ولكن هيغل يقول بأن الفلسفة والدين لهما نفس المحتوى ويتناولان نفس المشكلة ولكن بطريقتين مختلفتين. فالدين يعبّر عن الحقيقة المطلقة بطريقة التصوير المجازي والانبجاسات المذهلة للخطاب النبوي،هذا في حين أن الفلسفة تعبر عنها بطريقة مفهومية، منطقية، عقلانية. وبالتالي فالتفلسف يعني الانتقال من مرحلة التصور الخيالي، إلى مرحلة الفهم المصطلحي أو العقلاني للأشياء. ولا يوجد تعارض بين الفلسفة وجوهر الدين. ولكن يوجد تعارض بينها وبين قشور الدين او الفهم السطحي للدين.

أما المحطة الثالثة التي سأتوقف عندها فهي أوغست كونت وكتابه المشهور: "دروس في الفلسفة الوضعية (1830-1842). وفيه يرى كونت أن المعرفة ليست بحثاً مجانياً وإنما تهدف إلى فائدة البشرية وتقدمها وتحسين أوضاعها. ولا يمكن اختزال الوضعية إلى مجرد عقيدة علموية: أي متطرفة في عبادة العلم والثقة به. فالفلسفة الوضعية تعرف أنه يستحيل التوصل إلى المعرفة المطلقة، وبالتالي فالعلم ليس قادراً على كل شيء على عكس ما تتوهم النزعة العلموية. وهذا يعني أنه يوجد فرق بين الوضعية والعلموية. فهما ليسا شيئا واحدا على عكس ما نتوهم في أحيان كثيرة.

كان ينبغي أن نذكر أيضاً كتب هيغل عن "فلسفة التاريخ"، و"تاريخ الفلسفة". ففيما يخص الأولى يرى هيغل أن التاريخ ليس عبارة عن مجرد فوضى مجانية أو أحداث تتطاحن وتتعاقب بدون هدف أو غاية. وإنما هو عقلاني له سبب ونتيجة. والله، أو العناية الإلهية، هو الذي يقود التاريخ ويوجهه ويشرف عليه. وأما الفيلسوف فهو وحده القادر على تفسير معنى التاريخ بشكل استرجاعي، أي بعد أن يكون قد حصل وتحقق. فأحداث التاريخ المتبعثرة والمتشتتة بحاجة إلى فيلسوف كبير لكي يفسرها ويفهمها ويجد الرابطة الخفية التي تصل بينها. كما أنه يمكن للفيلسوف أن يستشرف حركة التاريخ في المستقبل أي أن يتنبأ بما سيحصل. والناس يحققون عن طريق أعمالهم في التاريخ المخططات الكبرى للعناية الإلهية، ولكن بشكل غير مباشر وبدون أن يشعروا. أما بشكل مباشر فإنهم يخضعون لأهدافهم وانفعالاتهم الهائجة ومصالحهم الآنية المتضاربة. وبالتالي فالتاريخ عقلاني على الرغم من كل المظاهر اللاعقلانية والفوضوية والإجرامية التي قد تحدث فيه. وأما فيما يخص تاريخ الفلسفة فيقول هيغل بما معناه: إن الروح المطلقة كانت تتجسد في التاريخ من خلال كبار الفلاسفة. وبالتالي فهي قد تجسّدت في شخص سقراط أو أفلاطون أو أرسطو، مثلما تجسدت في شخص ديكارت أو كانط..
في كل عصر يظهر فيلسوف كبير لكي يجسّد العقلانية الفلسفية في شخصه. وفي كل مرة كانت العقلانية تصعد درجة إضافية وتنضج أكثر فأكثر حتى وصل النضج إلى ذروته في فلسفة هيغل نفسه. وبالطبع فقد كان يعتقد بأن الروح المطلقة تجسدت في شخصه على أفضل صيغة. وعلى هذا النحو راح هيغل يستعرض تاريخ الفلسفة منذ أقدم العصور وحتى وقته. ولكنه قدم عن الفلاسفة السابقين صورة ذاتية أكثر مما هي موضوعية لأنه رآهم من خلال منظوره الشخصي ومشروعه الفلسفي. وبالتالي فهيغل قدم التاريخ الفلسفي للفلسفة وليس التاريخ التاريخي للفلسفة. ولكن هذا لا ينفي أهمية عمله. على العكس، فإننا نجد فيه ملاحظات شديدة الإيحاء والأهمية (انظر ما يقوله مثلاً عن ديكارت أو سواه من الفلاسفة والدور الذي لعبوه في التاريخ أو في تقدم المعرفة البشرية). انه يلخصهم بجرة قلم واحدة او حتى بعبارة مقتضبة كأن يقول عن ديكارت مثلا بأنه: مدشن الحداثة الفلسفية أو الفلسفة الحديثة التي أغلقت العصور الوسطى وفلسفتها السكولائية التكرارية الاجترارية الرتيبة، أو إنه البطل المقدام للفكر. هذه العبارة تنطبق على ديكارت بالفعل لأنه لم يكن فقط عالما ضخما ويمتلك معلومات غزيرة عن كل شيء تقريبا. وإنما كان أيضا جريئا جدا ولولا ذلك لما تجرأ على القيام بأكبر انقلاب فلسفي في عصره: أي الانقلاب على أرسطو وفتح صفحة جديدة في تاريخ الفلسفة. أتوقف هنا لحظة لكي أقول بان الفلاسفة الكبار من وزن ديكارت او كانط او هيغل..هم عبارة عن ظهورات في التاريخ، تماما كالأنبياء. ولذلك فهم نادرون جدا ويعدون على أصابع اليد الواحد في كل قرن أو حتى قرنين. وما ان يظهر الفيلسوف الكبير حتى يشعر الناس بان شيئا ما قد حصل، بأن الأفق المسدود قد انفتح.. يشعرون بان عقدة التاريخ قد حلت بعد طول استعصاء، أو أن أسارير التاريخ قد انفرجت. وهكذا يتنفس التاريخ الصعداء بعد طول تأزم واحتقان.

الألمان مثلا عندما ظهر كانط هللوا له وفرحوا كثيرا وعرفوا انه نبيهم الجديد الذي سيهديهم إلى المنهج الصحيح، إلى طريق الخلاص. لقد اطمأنوا ولم يعودوا خائفين على مستقبلهم، فالرجل المنتظر ظهر أخيرا. الرجل القادر على كشف الحقيقة أصبح بين ظهرانيهم.. نفس الشيء يمكن أن يقال عن هيغل. وأما العرب فلا ظهورات ولا من يحزنون.. لا يوجد مفكر واحد قادر على أن يفهم ما الذي يحصل الآن بالضبط: أي في عمق العمق. كلنا نلف على أنفسنا وندور في حلقة مفرغة تائهة.. كلنا نتخبط في عصر هائج مائج..وذلك لأنه تنقصنا شخصيات فكرية لا أقول في حجم ديكارت أو جان جاك روسو أو كانط أو هيغل، فهذا مستحيل، وإنما في حجم تلامذتهم او حتى تلامذة تلامذتهم..

أنتقل الآن إلى كيركغارد (1913-1855). فهو تلميذ هيغل مثل ماركس. ولكنه انقلب على الأستاذ كما فعل فيلسوف الشيوعية وإن يكن لأسباب وغايات مختلفة تماماً. وقد كرس نفسه للفلسفة الوجودية والذاتية وأنكر الفلسفة الموضوعية الباردة القائمة على العلم: أي فلسفة هيغل في الواقع. لم يمارس كيركغارد التدريس الجامعي كما فعل أستاذه شيلينغ أو هيغل. وقد حورب في زمنه كثيراً لأنه كان يمشي عكس التيار. ولكن تأثيره سيكون ضخماً فيما بعد لأن الناس رأوا فيه الفيلسوف الوجودي الأول. وبعده انقسمت الفلسفة الوجودية إلى قسمين: قسم مؤمن بزعامته، وقسم ملحد يتزعمه هيدغر أو سارتر. وقد ركّز كيركغارد همّه على مصطلحات غريبة على الفلسفة: كالوجود، والفرد، والاستملاك، والتناقض، والتكرار، والذاتية، والسريرة الداخلية،والخشية، والقلق، واليأس…وكل فلسفته كانت موظفة لحل مشاكله الشخصية وبخاصة مشكلة القلق الرهيب الذي كان يكتسحه من الداخل فلا يكاد يتركه يرتاح لحظة واحدة، وكذلك شعوره العميق بالخطيئة والذنب. ولكن بما ان القلق أصبح فيما بعد مشكلة عامة في الغرب بالإضافة إلى فكرة العبث واللامعقول فان أسهم كيركيغارد الفلسفية إذا جاز التعبير ارتفعت كثيرا حتى أصبح الرجل واحدا من كبار فلاسفة الغرب. بل وأصبح كبيرا على بلده الصغير الذي أنجبه: الدانمارك. كيركيغارد مفكر ذاتي لا موضوعي على عكس هيغل. انه مفكر تراجيدي من الطراز الاول ولذلك نشعر بحداثته وأخوته لنا نحن أبناء العصور التراجيدية. انه يتحدث لنا من القلب الى القلب..وقد لخصه هيدغر بعبارة واحدة قائلا: انه المفكر المسيحي الوحيد الذي كان على مستوى عصره. كان يطرح هذا السؤال الرائع: كيف يمكن ان تصبح مسيحيا في بلد كله مسيحيين؟ وكان يقصد بذلك جوهر الدين بالطبع لا قشوره وامتثاليته وطقوسه واكراهاته وقيوده. ولهذا السبب كان من ألد أعداء رجال الدين في عصره لانهم كانوا لا يزالون سطحيين فارغين او منافقين او أصوليين متزمتين في معظمهم تماما كما هو عليه الحال عندنا حاليا. من أشهر كتبه: الخشية والارتعاش، مفهوم القلق، محطات على طريق الحياة، رسالة في اليأس والقنوط، الخ..ومن كثرة ما عانى من زمنه وأناس عصره كان يشعر أحيانا وكأنه يكتب او يعيش على حافة الجنون..

في عام 1863 صدر كتاب "حياة يسوع" لأرنست رينان (1823-1892) وأمّن له شهرة واسعة. وفيه يطبق المنهج التاريخي على النصوص المسيحية ويثير عاصفة من الاحتجاجات في أوساط المتديّنين المسيحيين المعتادين على النظرة التبجيلية او التقديسية للأمور. ولذلك صدمتهم النظرة التاريخية في العمق. ولكن من الناحية الفلسفية يمكن القول بأن كتاب "رينان" الأساسي هو "مستقبل العلم" الذي صُمّم عام 1848 دون ان يصدر إلا في نهاية حياة المؤلف عام 1890. وفيه يعبّر رينان عن إيمانه المطلق بالعلم ومستقبله وأنه سوف يحلّ جميع مشاكل البشرية. وقد اتهمه بعضهم بالنزعة العلموية المتطرفة بسبب مغالاته في تقدير إمكانيات العلم الفيزيائي – الرياضي – البيولوجي. كما وعابوا عليه قوله بأن العلم سيحل محل الدين المسيحي في أوروبا نهائيا. ولكن هل كان مخطئا الى مثل هذا الحد يا ترى؟ ألم تصبح هذه المجتمعات جنة الله على الأرض: اي علمية، علمانية، حديثة، مليئة بالحريات الفردية والجماعية؟
وأما في القرن العشرين فينبغي أن نذكر "الفلسفة العمليّاته أو البراغماتية" لوليام جيمس (1842-1910). وقد صدر كتابه عام 1907 وساهم في شهرة هذه الفلسفة وانتشارها، بل وهيمنتها على العقلية الأمريكية. وملخص نظرية جيمس هو أن قيمة فكرة ما تقاس بمدى فائدتها العملية لا بمدى صحتها او عدم صحتها. نقول ذلك ونحن نعلم أن الحقيقة هي عبارة عن صيرورة في حالة الحصول وليست معطى جاهزاً. ولا يمكن التحقّق منها إلا بمقدار الرضى الذي تقدمه للفرد. ينتج عن ذلك إمكانية تواجد عدة حقائق في ذات الوقت. وهذا هو مبدأ التعددية. وأما الفيلسوف الكبير الثاني الذي أثر على العقلية الأمريكية فهو بالطبع جون ديوي (1859-1952). وقد عاش عمراً طويلاً يقارب القرن كما نلاحظ. ومن أهم كتبه "الطبيعة البشرية والسلوك"، الصادر عام 1922. وقد اشتهر ديوي داخل مناخ الفلسفة البراغماتية بتشكيل تيار يدعى بالفلسفة الأدواتية. وهي فلسفة تعتبر المعرفة بمثابة أداة الممارسة العملية وإلا فلا نفع لها. فالفلسفة إذا لم تساعدنا على حلّ مشاكلنا اليومية او الحياتية لا تستحق نصف ساعة عناء. وقد اشتهر "ديوي" أيضاً بأنه فيلسوف التربية الأمريكية. فجميع التلاميذ تربّوا على نظرياته البيداغوجية التي أثبتت فعاليتها ونجاحها. وقد ساهم هذا الفيلسوف الكبير في تأسيس العلوم الاجتماعية الأمريكية. ونلاحظ أن نظريته تستمد عناصرها من كبار فلاسفة الماضي وبخاصة أرسطو وهيغل. والبعض يعتبر نظريته بمثابة ثورة كوبرنيكية في مجال علم النفس والتربية. وقد أولى هذا الفيلسوف أهمية كبرى للمحيط الاجتماعي الذي ينشأ فيه الطفل أو التلميذ واعتبر أن تأثيره حاسم على تربيته وتشكيل شخصيته. وبشكل عام فان العقلية الاميركية مطبوعة بالفلسفة البراغماتية او الذرائعية ولكن ليس بالضرورة بالمعنى الانتهازي الرخيص او المبتذل للكلمة.

في عام 1947 يصدر كتاب مهم لمؤسّسي مدرسة فرانكفورت: هوركهايمر (1895-1973)، وتيودور أدرنو (1903-1969) بعنوان: جدلية العقل. وقد هاجما فيه العقل الغربي الذي تحول إلى أداة للهيمنة والسيطرة ليس فقط على الطبيعة وإنما على الناس أيضاً. ثم أصدر هوركهايمر كتاباً بعنوان "كسوف العقل". وقال فيه بأن تحويل العقل إلى مجرد أداة حسابية باردة هدفها الربح والهيمنة هو أساس الشر في العالم المعاصر. فالعالم البورجوازي أو الرأسمالي يستخدم العقل ليس كأداة تحرير وإنما كأداة لاستغلال الآخرين أو استعمارهم والهيمنة عليهم بأكبر فعالية ممكنة. بل إنه يستخدمه داخل المجتمعات الغربية نفسها من أجل استغلال الطبقات العمالية الكادحة وذلك لمصلحة تراكم رؤوس الأموال لدى الطبقات البورجوازية العليا. وبالتالي فالعقل قد يُستخدم في طريق الخير، وقد يُستخدم في طريق الشر، لأنه أداة فعالة، وأحيانا فتاكة، للتوصل إلى الغايات والأهداف. ويعتبر نقد مدرسة فرانكفورت للحداثة الغربية من أقوى أنواع النقد وأكثرها جذرية. ولكن بعض المفكرين أصبحوا يعتقدون الآن بأن هذه المدرسة بالغت في نقد العقل والعقلانية حتى كادت تطيح بفكرة العقل ذاتها. وهذا ما اتُّهم به أيضاً ميشيل فوكو الذي سار على خطى مدرسة فرانكفورت..لكن هذه مسألة شائكة تستحق وقفة متأنية. وربما كانت أخطر مسألة فكرية مطروحة على فلاسفة الغرب حاليا ومنذ خمسين سنة. ولذا فسوف نخصص لها دراسة خاصة ومطولة هي الآن قيد الإعداد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - امتنان
جورج خوام ( 2009 / 8 / 2 - 08:06 )
هذه هي الكتابات المثمرة والتي يجب ضخها في الفكر العربي في مرحلة ما بعد الحداثة الكونية.
صح قلمك

اخر الافلام

.. -علموا أولادكم البرمجة-..جدل في مصر بعد تصريحات السيسي


.. قافلة مساعدات إنسانية من الأردن إلى قطاع غزة • فرانس 24




.. الشرطة الأمريكية تداهم جامعة كولومبيا وتعتقل عشرات الطلاب


.. أصداء المظاهرات الطلابية المساندة لغزة في الإعلام • فرانس 24




.. بلينكن يلتقي من جديد مع نتنياهو.. ما أهداف اللقاء المعلنة؟