الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة الثامنة)

سعدون محسن ضمد

2009 / 8 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الـمُذْنب

انتيهت في الحلقة السابعة عند سؤال يقول: ماذا إذا استمرت عملية ممارسة الأخطاء إلى ما لا نهاية؟ والجواب على هذا السؤال يتوقف على فهم معادلة يتصارع فيها طرفان: طرف الأحوال والأفكار والمشاعر والأحاسيس التي تلجئ الصوفي لممارسة الخطيئة. وطرف، المميزات الشخصية والبنية الأخلاقية الذي سيتحكم بطبيعة الممارسة ونوعية الأخطاء. فهذان المحددان سَيَخُطّان أمام كل صوفي خطه الذي لا يجوز له أن يتخطاه تحت أي مبرر. صحيح أن في أحوال التوحيد من المبررات ما يسمح بممارسة أي خطأ أو ذنب ومهما كان كبيراً، لكن يبقى الإنسان محكوماً بحدوده وممكناته.
معي كانت الأخطاء منسجمة مع طبيعة شخصيتي. ومع أنني ذهبت في عملية ممارستها لمديات كنت أعتبرها بعيدة وقاسية ولكنها بقيت ـ على الأقل وفق رؤيتي الحالية ـ ضمن المديات المقبولة والمعقولة والتي تندرج فيما يمكن اعتباره مدى تسمح به بنيتي الأخلاقية.. وهو مدى يتعلق، وربما ينحصر، بممارسة بعض الرغبات الجسدية العابرة.
لكن حتى هذه الممارسات (العابرة) كانت مسبوقة ومتبوعة بصراع مرير تنازعني خلاله خوفان: الخوف من عدم ارتكاب المعصية، وهو خوف مدفوع بإرادة تجنب الشرك بالله. والخوف من ارتكابها وهدفه أن تكون ممارسة المعصية خالية من أي غاية نفسية وهي متعلقة فعلاً ومحصورة بإرادة تحقيق التوحيد..
هذا الصراع إذا تمكن من شخصية تتصف بمستوى جيد من التلقائية والحرص على تحقيق الأهداف بإخلاص فأنه سيهدد بنوع من أنواع الفصام.. وهو تهديد لا يستطيع أن يدرك مدى إمكانه إلا من مر بالصراع الذي اشرت إليه قبل قليل والذي يمكن تسميته بـ(صراع الكثرة والوحدة)، والذي يخوض خلاله الصوفي مصاعب عبور كثرته باتجاه وحدته، أو الانتقال من إنسانيته إلى إلهيته. فمن الواضح بأن إيمان الصوفي بالوهيته لا يمكن أن يكون سهلاً ومن دون عقبات إدراكية هائلة، إذ كيف يمكن لبشر ـ يعاني ويحزن ويخاف ويحتاج ـ أن يصل بوعيه لحالة تجعله يصدِّق بأنه متوحد مع الله لدرجة تؤهله ادعاء الألوهية؟. إن تحقيق مثل هذه الحالة من حالات الوعي لا تكون سهلة وخالية من الصراع والشك والخوف إلا على المجنون أو الأبله..
بالنتيجة؛ هناك صراع. وأكثر محطات هذا الصراع قسوة هي محطة ممارسة الذنب.. لأن التصوف في أصله عملية محاصرة للذنب والخطيئة، على الأقل لأن الذنب يبعد الروح عن تأملاتها ويتركها فريسة سهلة لمدارات الجسد. والصوفي لا يصل للمراتب العليا من الذوق والشهود إلا بعد أن يتطهر عن ممارسة جميع أنواع الأخطاء ومهما كانت صغيرة وتافهة، وذلك من خلال رياضات شاقة يصل من خلالها لأعلى مراتب الزهد والتقشف. وخلال تجربتي الشخصية كان الوصول لعتبة الخطيئة يمثل نهاية انهيار تام ومتسارع بدأ بترك الرياضات أولاً.. وكانت رياضات التقشف قد وصلت بي للحدود القصوى من عمليات محاصرة الجسد والحد من سلطته، أي لدرجة الامتناع عن تلبية حاجاته اليومية الضرورية. بغرض كسر قيوده التي يحكم بها الروح.. لكن في لحظة ما بدا لي الأمر مضحكاً تماماً، فكيف يمكن للجسد أن يحد من انطلاقات روح ممزوجة مع الروح الأعلى ومتحدة معه؟ كيف يمكن لبعض الممارسات التافهة أن تهز ثقتي من تحقق ألوهيتي؟ هذا السؤال أدى أول الأمر للتخلي عن التزامات الرياضات الجسدية، واستمر إلى أن وصل لحدود ارتكاب المحرم أو الممنوع..
هذا الصراع عبَّرت عنه أحوال الحلاج بشكل دقيق، وقد ورد في كتاب اخبار الحلاج ص23 ما يؤكد قسوة (صراع الوحدة والكثرة): "قال إبراهيم الحلواني دخلت على الحلاج فوجدته يصلي [....] ثم قال يا إله الآلهة ويا رب الأرباب ويا من (لا تأخذه سنة ولا نوم) رد إلى نفسي لئلا يفتتن بي عبادك. يا هو أنا وأنا هو، لا فرق بين أنّيتي وهويّتك إلا الحدث والقِدَم. ثم رفع رأسه ونظر وضحك في وجهي ضحكات، ثم قال: يا أبا إسحق أما ترى أن ربي ضرب قدمه في حدثي حتى استهلك حدثي في قدمه، فلم تَبق لي إلا صفة القديم، ونطقي في تلك الصفة. والخلق كلهم أحداث ينطقون عن حدث. ثم إذا نطقتُ عن القِدَم ينكرون علي ويشهدون بكفري ويسعَون إلى قتلي. وهم بذلك معذورون، وبكل ما يفعلون بي مأجورون".
حال الحلاج هنا يكشف عن أزمات نفسية تتعلق بصراع الوحدة والكثرة، وكيف أن العودة للكثرة ليس متاحاً له، لأنه مستغرق بوحدته، لكن هذه الوحدة تكلفه الكثير وتهدد حياته، الحلاج لا يستطيع أن ينافق نفسه ولا يستطيع أن يعيش ازدواجية رخيصة وبالتالي فمن المؤكد أن ممارسته الذنوب تحت ضغط توحيد الأفعال كانت تعرضه لشكوك الناس واتهاماتهم وهذا ما قصده بقوله (فلم تبق لي إلا صفة القديم).
ما أريد أن أصل إليه هو أن ممارسة الذنب مرحلة لا بد منها لكل صوفي يتحقق في أولى مراتب التوحيد. بل أن الوقوع بدائرة الذنب هو شرط التوحيد الأفعالي، وأن تجنب هذه الدئرة يُبقي التوحيد مشكوكاً به عند الصوفي، وشكوكه هذه ستمنعه حتماً من الدخول في أحوال التوحيد الأخرى، التي هي أحوال نفسية شعورية يشعر من خلالها على نحو لا يقبل أي شك بأن أفعاله وصفاته وذاته هي أفعال وصفات وذات الله.. دائرة الذنب تحقق توحيد الأفعال وتؤهل لمرحلة توحيد الصفات، وهي مرحلة تملي نوعاً آخر من أنواع (الانزلاقات). بل المشكلة تتعقد عندها، وتزداد تعقيداً في توحيد الذات، وبالتالي يبقى السؤال عن جواز ممارسة الذنوب ومدى شمول هذا الجواز لارتكاب الذنوب الكبرى سؤالاً يؤرق الصوفي ويختبر قدرته على الصمود ويمثل المحك الحقيقي لقابليته على أن يحقق مرحلة الفناء التام..
في توحيد الصفات لا يعود هناك متعلق بصفات الحسن والقبح غير الله؛ فما دام ليس ثمة غير فاعل واحد، إذن فليس هناك غير موصوف واحد بالصفات، ومهما كانت قبيحة أو مكروهة.. عندما يفعل الصوفي الخطأ بعنوان أن الذي يمارسه هو الله وحده، سيعترف بعد ذلك بان الله أصبح مخطأ وموصوفاً بصفات المخطئين، أي سيكون سارقاً وكاذباً وازدواجياً وووووو الخ.
وهكذا سيشهد الصوفي وبمستوى إدراكي شهودي عال بأن الصفات كلها متعلقة بموصوف واحد. وهذا ما يفسر محبة الصوفية لكل الناس حتى المجرمين منهم وبوصفهم تجليات حقيقية للمحبوب المطلق، بل أن محبة المخطئين تعبر عن حال عال من أحوال فناء الصفات والتي يستغرق خلاله الصوفي بأحوال من الشهود تنكشف له خلالها مستويات رائعة من مستويات وحدة الوجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و