الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نيكولا ساركوزي والدين كبضاعة سياسية

ياسين تملالي

2009 / 8 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لم ينقطع أملُ الكنيسة الكاثوليكية منذ انتصار الثورة الفرنسية في 1789 في أن تعود إليها "كبرى بناتها"، فرنسا، نادمة على شنق "أخر النبلاء بأمعاء آخر القسيسين". وقد بدأ أملُها يتحقق بتولي نيكولا ساركوزي كرسي السلطة، فالرئيسُ الفرنسي يخص المسلمين وحدَهم بـ"واجب احترام مبادئَ العلمانية" ويبدي مرونةً كبيرة في تأويل نفس المبادئ عندما يتعلق الأمر بالمسيحية.

في 12 سبتمبر 2008، دعا ساركوزي وهو يستقبل بابا الفاتيكان في الإليزيه إلى "علمانية إيجابية" قائلا : "لا نبجل أحدا على أحد ولكننا فخورون بجذورنا المسيحية". وكان كلامه صدى لما صرح به في روما، في ديسمبر 2007، حين قال: "في مجال توصيل القيم وتعلم التمييز بين الخير والشر، لن يستطيع المدرس أبدا أن يعوض القسيس." ولم يحدد عن أية قيم يتحدث، قيم الأب بيار الإنسانية أم قيم "صكوك الغفران"، قيم "القسوس العمال" في أمريكا اللاتينية أم قيم كهنة ديكتاتورياتها البائدة.

وقد يبدو هذا الكلام مفاجئا على لسان رئيس دولة اشتهرت بتعاملها الصارم مع مظاهر التدين السافرة (خصوصا الإسلامية منها) داخل مؤسسات الدولة، إلا أن الحقيقة غيرُ ذلك. لن تفاجئنا تصريحات ساركوزي إذا ذكرنا أنه رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بذريعة "هوية أوروبا اليهودية-المسيحية" وأنه خص مسألة الأديان في فرنسا بكتاب طويل زعم فيه أن دور القيم المسيحية في تناسق المجتمع لا يقل أهمية عن دور القيم الجمهورية.

وقد عبر ساركوزي في كتابه "الجمهورية والأديان والأمل" (2004) عن إيمانه بأن "للدين، في مطلع الألفية الثالثة، دورا مركزيا" وأنه "أحد أعمدة الأمل" في المجتمع. ولم يتخل عن هذا الخطاب بعد ترشحه للرئاسة، ففي حوار نشرته "فامي كريتيان" (العائلة المسيحية/ مجلة كاثوليكية) في 21 أفريل 2007 قال بالحرف الواحد : "شهدت المسيحية ولادة أمتنا وساهمت في أعظم فترات تاريخها (...). أعتقد أنه من الضروري أن تشارك الأديان - خصوصا في بلادنا الكاثوليكية - في نقاشات المجتمع الكبرى." وهو إن خفف من حدة "لاعلمانيته" خلال حملته الانتخابية، فلأسباب تكتيكية، إذ كانت منافسة أقصى اليمين تستلزم التركيزَ على "خطر الإسلام المتطرف"، وهل أنفعُ من إشهار لواء العلمانية لتجنيد الفرنسيين ضد هذا الخطر ؟

وقد سرت الكنيسة الرومانية بانتخاب ساركوزي أيما سرور، ففي حوار نشرته اليومية الكاثوليكية الإيطالية "أفينيري" (10 مايو 2007) أثنى ذراع الباب الأيمن، الكاردينال جان لويس توران، على مواقفه "البالغة الانفتاح على الأديان"، بل وبرر تقاربه مع أمريكا ومساندته لإسرائيل بزعم أن "فرنسا وأوروبا لا يمكنهما العمل غلى عزل هذين البلدين" (هكذا). وكما لو أراد إثبات حسن ظن الكنيسة الرومانية به، كتب الرئيس الفرنسي رسالة طويلة إلى البابا في جوان 2007 تحدث فيها عن تاريخ "الروحانية الأوروبية" المجيد وواجب دعم "الأقليات المسيحية المضطهدة" في شتى أصقاع العالم.

ولا يتردد ساركوزي منذ انتخابه في تقمص شخصية عالم اللاهوت في كل مناسبة ومكان، حتى خارج فرنسا، فخلال زيارته للرياض في يناير 2008، أشاد فيما يشبه الموعظة الكنسية بـ"ميراث الأديان التمدني" قائلا إن "الله المتعالي هو محرر الإنسان". وكان المستمعون إليه من صفوة النظام الملكي، ولم يقل لنا متى سيتحرر الإنسان السعودي من ربقة آل سعود ولا إذا كان حرمانُ السعوديات من سياقة السيارات أحد مظاهر "التمدن الديني".

وقد أثار زهوُ ساركوزي الدائم بكاثوليكيته ضجة كبيرة في فرنسا، ورأت فيه القوى اليسارية تعديا على مبدإ "حياد الدولة" في مجال الأديان، وألحت على أن الرئيس ممثل كل الفرنسيين لا المتدينين منهم فقط - ولا طبعا فقط الكاثوليك. وذكرت بعض هذه القوى بأن منعَ الحجاب في المدارس جاء تطبيقا لقانون 1905 المكرس لعلمانية الدولة، فكيف يجاهر ساركوزي بميوله الدينية بهذه الشكل شبه الكرنفالي ؟

وقد يقال إن الرئيس الفرنسي شديد التسامح مع المسلمين وأنه نصب في 2003، حين كان وزيرا للداخلية، "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية". والواقع أن أغلبية أعضاء هذه الهيئة من الإسلاميين وأن تسليم مقاليد الإسلام في فرنسا إلى الإخوان وجماعة الدعوة والتبليغ ينم عن تصور غريب للمسلمين، كمتعصبين لا يمكن أن يمثلهم سوى متعصبين. وقد تجلى هذا التصور في عدة مناسبات، فساركوزي كثيرا ما يصف تركيا بـ"الدولة المسلمة المعتدلة" وكما لو أن الإسلام في جوهره تطرف وعنف، وأن فظائع الرجم في إيران – و"البلد الصديق"، السعودية - لم تسبقها في القرون الوسطى محارقُ أعدها الفاتيكان "للكافرين".

هل يؤمن الرئيس الفرنسي حقا بأن "المدرس لن يعوض أبدا القسيس في مجال توصيل القيم" ؟ نعم إذا اعتبرنا أن القيم المعنية هي القيم السائدة، تلك التي تزعم أن العالم موجود كما هو منذ الأزل ولا يمكن تغييره. ومن الواضح أن خطاب ساركوزي الديني جزء من خطة إيديولوجية متكاملة هدفها إضفاء شرعية جديدة على الرأسمالية الفرنسية وتغليف مصالحها بغلاف من "القيم الخالدة" بعد أن استهلكت قيمها الاستهلاكية.

لم يدعُ الرئيس الفرنسي بعدُ إلى "حروب صليبية جديدة"، ولكنه كجورج بوش، يبدو مقتنعا بجدوى الدين في تجنيد الطبقات الحاكمة حوله وتخدير الفئات المحكومة التي تهدد مصالح الرأسمالية. ليس غريبا، من هذا المنظور، أن يثمن الكاردينال جان لويس طوران في حديثه ليومية "أفينيري"، دعوتَه إلى "احترام النظام والسلطة" وأن يشير إلى "حساسية الكاثوليك الفرنسيين" لمثل هذه الدعوات.

"لا تناسق للمجتمع بدون الدين"، يقول ساركوزي في "الجمهورية والأديان والأمل". ولا يعني تناسق المجتمع في مفهوم حامي الرأسمالية الفرنسية الجديد غيرَ الإيمان بأن الإنسان فُطر على استغلال الإنسان وأن العمل وسيلة الثراء الوحيدة وأن الفقر سببه الكسل والاتكال. كان "اعمل أكثر لتكسب أكثر" أحد شعارات حملة ساركوزي الانتخابية، وقد أثبتت الأحداث أنه يعني في واقع العمال "اعمل أكثر لتكسب أقل"، ويمكننا تحويره على ضوء المواعظ الساركوزية المؤثرة ليصبح : "آمن أكثر لتعمل أكثر (وتكسب بالطبع أقل)".

ويذكر الرئيس الفرنسي من حيث استعماله الخطاب الديني لحماية مصالح الطبقات الحاكمة، بأحد أسلافه الميامين، نابوليون بونابرت، وهو من قاد مثله ردة عنيفة على العلمانية الفرنسية. كتب إمبراطور فرنسا في 1801: "كيف يعم النظام دولة بدون الدين ؟ لا يمكن لمجتمع أن يوجد بدون تفاوت الثروات ولا يمكن أن يستمر تفاوت الثروات بدون الدين." وكما جاء خطاب ساركوزي في 12 سبتمبر 2008 في سياق توطيد العلاقات السياسية مع الكرسي البابوي، كتب بونابرت هذه الجملة البليغة لتبرير تطبيع علاقاته مع الفاتيكان، بعد سنوات من العداوة تلت ثورة 1789.

ياسين تملالي
كاتب وصحفي جزائري

22 سبتمبر-أيلول 2008










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟


.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة




.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي