الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إيراتوسثينس القوريني

شيماء الشريف

2009 / 8 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إيراتوسثينس القوريني (275 – 194 ق.م. – التواريخ تقريبية)
بقلم: شيماء الشريف (باحثة دكتوراه بآداب الإسكندرية)

ربما لا يعرف الكثيرون صاحب هذا الاسم اليوناني، بل ربما يظنونه أجنبيـًّا، لكنهم لو ارتحلوا مع كاتبة هذا المقال، فإنهم سيعرفون أن هذا الاسم لم يلمع إلا على أرض مصر، وأنه لو لم يأتِ إلى مصر لابتلعه التاريخ كغيره ممن ملأوا الدنيا صخبا وغادروها دون أن نعرف عنهم حتى أسماءهم.

إيراتوسثينس القوريني هو ثالث مدير لمكتبة الإسكندرية القديمة وهو معلم ولي عهد الملك بطليموس الثالث يوروجيتس، وهو واضع أسس العلم الذي نعرفه الآن باسم الجغرافيا وأسس العلم الذي نعرفه باسم الكارتوجرافيا (علم رسم الخرائط)، وهو أول من كتب تاريخ الإغريق مستندا إلى الترتيب التاريخي للأحداث ومنقحا التاريخ من الأساطير فيما عُرف باسم الكرونولوجيا (مراعاة الترتيب الزمني للأحداث)، وهو أول من رسم خريطة الأرض على كرة وأول من أثبت كرويتها بتجربة عملية لا تحتمل الشك، وهو أول عالم في تاريخ الإنسانية ينجح في قياس محيط الكرة الأرضية بهامش خطأ لا يتجاوز 1% عن أحدث القياسات، وهو أحد علماء الفلك المعدودين في تاريخ المكتبة القديمة، كما أنه كان عالما في الرياضيات فهو صاحب ما يسمى "غربال إيراتوسثينس" للتعرف على الأرقام الأولية (التي لا تقبل القسمة إلا على نفسها وعلى رقم 1) والمعروف حتى الآن، كما أن له كتابات أدبية ولغوية.
وربما لا يصدق البعض أن يجمع فرد واحد كل هذه العلوم التي تفككت في عصرنا الحالي إلى عشرات الفروع والتخصصات الدقيقة، ولكنها طبيعة العصر الذي كان يعيشه إيراتوسثينس، هذا العصر الذي لم يعرف التخصص لكن كان له في الوقت نفسه الفضل الكبير على الإنسانية في وضع أسس العلم التجريبي القائم على قواعد المنهج العلمي.
ولد إيراتوسثينس بن أجلاوس في قورينة بليبيا حوالي عام 275 ق.م.، ومن مسقط رأسه اكتسب لقبه الذي لازمه حتى الآن بعد وفاته بأكثر من ألفي عام، وقد كانت هذه المدينة إحدى المدن الثقافية في العالم القديم وكانت مركزًا منيرًا لنشر الثقافة الهللينيستية، فتعلم فيها إيراتوسثينس في طفولته المبكرة وصباه ومطلع شبابه، ثم كان عليه أن يغادرها بعد فترة في طريقه إلى مدينة أثينا والتي كانت مركزا تعليميا وثقافيا كبيرا، وقد تركزت دراسته بها على الفلسفة، هذا بجانب الرياضيات والعلوم اللتان كانتا تدرَّسان في أكاديمية أفلاطون وفي ليسيوم أرسطو اللذان كانا مركزا التعليم الرئيسيين في أثينا واللذان تلقى إيراتوسثينس تعليمه فيهما. وقد أدى تشكيله الفلسفي إلى تأليفه بعض الكتب الأدبية والفلسفية التي لفتت الأنظار إليه وأدت إلى استدعائه من قِبل الملك بطليموس الثالث يوروجيتس للحضور إلى مصر ليكون معلما لابن الملك وليحصل على منحة دراسة وإقامة في الموسيون (معبد ربات العلوم والفنون الذي كان بمثابة مركزا بحثيا ضخما أو جامعة على أعلى مستوى في هذا العصر)، وقد كان كل من الأمرين – وظيفة معلم ابن الملك وعالم مقيم في الموسيون - مرتبط غالبا بالآخر.

وقد بدأ إيراتوسثينس حياته العلمية الحقيقية في مصر التي مكث بها حوالي خمسين عامًا حتى وفاته، وبدأت مسيرته العلمية في الموسيون من عالم وباحث مقيم إلى أن أصبح الباحث المقيم الأول، ثم، بعد أبوللونيوس الرودسي المدير الثاني للمكتبة، صار إيراتوسثينس مديرًا لمكتبة الإسكندرية القديمة ليصبح رسميا ثالث مدير لها في تاريخها الطويل. وقد كان لهذا المنصب الكثير من الفضل على التشكيل العلمي والأكاديمي لإيراتوسثينس الذي وجد تحت يده كل كنوز العلم التي كانت معروفة في العالم القديم في هذا الزمان والتي اجتمعت للمرة الأولى في التاريخ بفضل البطالمة في مكان واحد هو مكتبة الإسكندرية.
وقد أطلق رفقاء إيراتوسثينس في المكتبة القديمة لقبين عليه تأكيدا لغزير علمه وتنوع اختصاصاته: اللقب الأول هو "بنتاثلوس" وهو لقب له دلالة في مدح شخص متعدد المواهب والتخصصات وكان يطلق في هذا العصر على الرياضيين الذين يجيدون ممارسة جميع أنواع الرياضات التي كانت معروفة في هذا العصر مثل رمي الرمح والمصارعة وغيرها. أما اللقب الثاني فهو "بيتا" وهو اللقب الأكثر شهرة حيث كانوا يلقبونه "المعلم بيتا"، وبيتا هو الحرف الثاني من الحروف الهجائية اليونانية وهو يعني أن من يحمله يحتل المرتبة الثانية في كل العلوم، إلا أن الحقيقة كما بيناها أن إيراتوسثينس كان الأول في العديد من فروع العلم.

وكان العمل الأشهر لإيراتوسثينس هو قياس محيط الكرة الأرضية والذي تم بناء على تكليف من الملك بطليموس الثالث يوروجيتس الذي مات قبل معرفة نتيجة مطلبه الملكي، فأكمل ابنه الملك بطليموس الرابع فيلوباتور وتلميذ إيراتوسثينس المسيرة وقام بتقديم تمويل كامل من الخزانة الملكية لهذه المهمة التي انتهت بنتيجة تاريخية. فقد قرأ هذا العالم الذي كان يتميز بقوة الملاحظة في إحدى لفائف البردي في المكتبة أن الشمس في ظهر يوم 21 يونيو تتعامد على مدينة سيين (أسوان حاليا) لدرجة تجعل من الممكن في هذا الوقت من العام تحديدا رؤية أشعة الشمس تخترق الآبار لتضيء المياه في الأعماق المظلمة، كما أنه لا يكون للمسلات ظل في هذا التوقيت. ولفت هذا الأمر نظر إيراتوسثينس، فقرر اختبار الأمر بوضع عصا رأسية في الإسكندرية في التوقيت ذاته، فوجد أن لها ظلا وقد أثار ذلك دهشته، وذلك لأن أشعة الشمس تسقط متوازية على الأرض، فإذا كانت الأرض مسطحة فإن هذه الأشعة المتوازية لابد أن تكون لها نفس الزاوية في كل مكان عندما تتزامن وذلك وفقا للهندسة الإقليدية، أما أن يكون الأمر غير ذلك، فإن هذا أكبر دليل على كروية الأرض. وقام بالتالي بقياس زاوية سقوط الشمس على العصا الرأسية في الإسكندرية فوجدها 7.2 درجة، ثم مد في افتراض رياضي الخط الرأسي للعصا في الإسكندرية والخط الرأسي للعصا في أسوان وأثبت أنهما سيلتقيان في مركز الأرض بزاوية تعادل 7.2 درجة وهي نفسها الزاوية بين أشعة الشمس والعصا في الإسكندرية، كما اكتشف أن الإسكندرية وأسوان تقعان على نفس خط الطول، فما كان منه في ضوء كل هذه المعطيات إلا أن ترأس حملة لقياس المسافة من الإسكندرية إلى أسوان عن طريق الاستعانة بشخص محترف في السير بشكل منضبط يمكِّن من قياس خطواته، وكانت هذه مهنة موجودة حيث يتم الاستعانة بهؤلاء المشائين ( إذا جاز التعبير دون أن يختلط المعنى مع مدرسة أرسطو الشهيرة) لقياس المسافات الطويلة التي كان يتعذر قياسها بأدوات القياس المتاحة في هذا العصر، وكان هو يتابع هذا المشَّاء عبر سفينة مجهزة في النيل ارتحلت حتى أسوان لإنجاز هذه المهمة، وكان من نتيجة كل ذلك الحصول على المسافة بين المدينتين والتي تقدر بحوالي 800 كيلومتر. ولاستكمال منهجه العلمي وبحسبة بسيطة، تمكن إيراتوسثينس من قياس محيط الأرض (7.2°/800 كم × 360°) لتكون النتيجة حوالي 40.000 كيلومتر وهو قياس لا يختلف إلا بأقل من 1% عن أحدث القياسات التي تتم بأحدث الأجهزة. وهكذا قيس محيط الكرة الأرضية قبل مائتي عام من ميلاد السيد المسيح بأبسط الأدوات، والأهم أن وراء هذه الأدوات البسيطة عقل يفكر ومنهج علمي يتحرى قواعد التجريب والمشاهدة والمقارنة.

وظل إيراتوسثينس يترأس مكتبة الإسكندرية حوالي أربعين عاما، لم يكن فيها موظفا معيَّنًا من الملك ينتظر راتبه الشهري، بل كان عالما بالمعنى الحرفي للكلمة، يتفاعل مع مكان عمله ويجعل منه سبيلا للإنجاز والإبداع، وفي عهد إيراتوسثينس تم إنشاء المكتبة الابنة في السيرابيوم (منطقة كوم الشقافة حاليا) والتي تم تأسيسها لكي تستوعب الأعداد الهائلة من البرديات التي لم يتسع لها المبنى الرئيسي للمكتبة الموجود في الحي الملكي المطل على البحر.
كان إيراتوسثينس يتعلم لآخر لحظات حياته، وكان يواصل الليل بالنهار في ارتشاف رحيق العلم والبحث، إلا أنه للأسف أصيب بالعمى وهو شيخ في حوالي الثمانين من عمره، وترك منصبه كمدير للمكتبة، ويبدو أن عيناه كانتا الحياة بالنسبة له، فهاتان العينان هما من كانتا تساعداه على الاستزادة من العلم وعلى الملاحظة العلمية وعلى النظر إلى الكون بتمعن، فما كان منه إلا أن قرر الانتحار وانتحر بالفعل بالامتناع عن الطعام، فمات جوعا.

لقد رُوي الكثير عن هذا العالم الجليل، ولكن للأسف لم يتبق لنا من أعماله المكتوبة شيئا، بل عرفناه عن طريق من جاءوا بعده والذين لم يكن أحد منهم يمل من الحديث عنه، فقد اعترف الجميع بفضله حتى من اختلفوا معه، وظل الجميع يقرون بأنه كان حقا "المعلم بيتا". ولم نعرف أبدا ما الذي أصاب إنتاجه الفكري المكتوب، هل ضاع فيما ضاع من ثروة المكتبة القديمة أم سُرق أم ماذا حدث؟ لا أحد يعرف، لكن المدهش في الأمر أن تختفي أعماله بالكامل ويظل هو موجودا بأفكاره وإسهاماته واعتراف العلماء بمكانته العظيمة في تاريخ الإنسانية.
إن مناخ العلم الذي رسخه البطالمة في مصر هو السبب الأول في التألق العلمي لإيراتوسثينس وتخليد اسمه، لقد كان البطالمة رعاة للعلوم والفنون، وكانوا ينفقون أموالا طائلة من الخزانة الملكية خدمة لتجربة علمية واحدة، فأكسبوا مصر الريادة وصنعوا من الإسكندرية عاصمة عالمية للثقافة والعلوم والفنون، وإذا كانت الإسكندرية قد اكتسبت سمعتها كمدينة كوزموبوليتانية فإن الفضل الأول بالتأكيد يرجع إلى البطالمة الذين فتحوا أبوابها على مصراعيها منذ اللحظة الأولى لإنشائها، واستقبلوا الوفود والتجار والديانات واللغات واللفائف والبرديات والبضائع المتنوعة والأفكار، حتى أن بعض المؤرخين اعتبروها مدينة قائمة بذاتها (مجاورة لمصر - Ad Aegyptum ) وليست جزءًا من مصر.

وفي ضوء كل ما سبق، يحق لنا أن نتساءل من يا ترى يستطيع الآن أن يعيد لمصر مجدها القديم؟ ومن يستطيع أن يصنع إيراتوسثينس آخر بمعطيات العصر الحديث؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كلمة السر : الإنفتاح
المعلم الثاني ( 2009 / 8 / 8 - 21:03 )
أشكر الباحثة المتميّزة على مقالتها المفيدة والمبسّطة ..وأجد أعظم حكمة في ما جاءت به كخلاصة للموضوع فقد كتبت:
(((إذا كانت الإسكندرية قد اكتسبت سمعتها كمدينة كوزموبوليتانية فإن الفضل الأول بالتأكيد يرجع إلى البطالمة الذين فتحوا أبوابها على مصراعيها منذ اللحظة الأولى لإنشائها، واستقبلوا الوفود والتجار والديانات واللغات واللفائف والبرديات والبضائع المتنوعة والأفكار، حتى أن بعض المؤرخين اعتبروها مدينة قائمة بذاتها (مجاورة لمصر - Ad Aegyptum ) وليست جزءًا من مصر.)))

نعم الحل الوحيد هو في الانفتاح نحو كل الثقافات والحضارات خاصة المتقدمة منها أي الحضارة الغربية...الأوربية الأمريكية..وأقولها عالم بنفور البعض من كل شيء يأتي من بلاد الكفر عملا بعقيدة الولاء والبراء

لم يرتعد بناة الكسندرية وجلا وخوفا من غزو ثقافي يأتيهم من الخارج بل إنهم رحّبوا بكل فكر جديد

واستطاع العبقري الأجنبي المولد محمد علي أن يعيد بناء إكسندريّة جديدة بعد عصور التخلف والإهمال حتى أستعادت كوزموبوليّتها بعودة الجاليات الأجنبية إليها...ثم عادت للاضمحلال بعد سيطرة الضباط الأشرار وعلى رأسهم الحاقد الذي نجح بسياساته في إعادتها إلى ما قبل محمد علي العظيم..ووتشاء الصدف أن يكون كل من ألكسندر ومحمد على من م


2 - أحسنت
برهان تراما ( 2009 / 8 / 8 - 22:11 )
أحسنت ياسيدتي مقالتك ممتازة , الموضوع شيّق والمضمون كامل, لقد أجدت وأتمنى لك التوفيق في اتحافنا بالمقالات المشابهة, ولا أخفيك بأنني شعرت ببعض الغيرة حيث أنني كنت أهيئ نفسي للكتابة بعد عامين من الآن وصدقيني أن أول ماكنت سأكتبه هو مقالة عن هذا العالم الفذ الذي لم يذكره التاريخ بأكثر مما وررد في مقالتك الجميلة لغة وموضوعا

اخر الافلام

.. نازح من غزة يدعو الدول العربية لاتخاذ موقف كالجامعات الأمريك


.. 3 مراحل خلال 10 سنوات.. خطة نتنياهو لما بعد حرب غزة




.. جامعة كاليفورنيا: بدء تطبيق إجراءات عقابية ضد مرتكبي أعمال ا


.. حملة بايدن تنتهج استراتيجية جديدة وتقلل من ظهوره العلني




.. إسرائيل تعلن مقتل أحد قادة لواء رفح بحركة الجهاد