الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة التاسعة)

سعدون محسن ضمد

2009 / 8 / 10
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الخطيئة شرط الفناء

عندما يحقق الصوفي توحيد الصفات ويشهد على أن ليس في الوجود موصوف غير الواحد، سيكون واقفاً على عتبة توحيد الذات، أي عتبة الفناء التام، وسيكون شرط تجاوز هذه العتبة هو فناء ذات الصوفي بذات الله، ومعنى فناء ذاته هو انهدام أناه وانمحاء استقلاله (وتسامي) هويته.. لكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟ كيف يمكن التحقق بالإلوهية والخروج من البشرية والتخلص من كل الشكوك التي تعوق ذلك:
(أأنت أم أنا هذا في رداءين.. حاشاك حاشاك من اثبات اثنين
بيني وبينك إنيي ينازعني.. فارفع بلطفك إنيي من البين)..
والبينية التي يتحدث عنها الحلاج هنا هي بينية الذات، ذاته الحائرة والمترددة بين حدين، حدها الإنساني وحدها الإلهي، أو كما يعبر المتصوفة، حد الناسوت وحد اللاهوت.. والشكوك التي تطرحها الأحوال التي يعاني خلالها الصوفي مصاعب الانتقال من ناسوته إلى لاهوته تأتي من أسباب كثيرة، منها ما يتعلق بالموروثات الدينية كتحريم القول بالحلول او الاتحاد. وهو ما يوقف الصوفي مرددا بين تصديق مايجزم به من مشاعر واحاسيس ومعارف تدفعه اتجاه الايمان بوحدة الوجود، وبين الخوف من أن تكون هذه المشاعر أو الاحاسيس نوعاً من أنواع السقوط في محذورات دينية ناشئة من أوهام إدراكية. وهنا يجدر بي تثبيت حقيقة مهمة هي أن العلاقة بين سرعة العروج بمدارج التصوف وبين كون عقلية الصوفي منطقية هي علاقة عكسية. فالتفكير المنطقي هو سبب آخر من الأسباب التي تنشأ عنها شكوك الصوفي بصدق فناءه. فكلما كانت تركيبة منظومة الوعي خاصة الصوفي منطقية أكثر كانت سرعته في العروج أقل؛ فأكثر أحوال ومقامات التصوف لا منطقية؛ كما هو الأمر مع مقام التوكل الذي يُجَمِّد فيه الصوفي خياراته ويتخلى شيئاً فشيئا عن إرادته، أو أحوال التوحيد وهو يؤمن أن أفعاله أو صفاته أو ذاته هي أفعال وصفات وذات الله. فهذا الإيمان هو الآخر لامنطقي، فكيف يصدق إنسان ما، أن فعله للأشياء وممارسته لها إنما هو نوع من أنواع الوهم وأن الحقيقة تقول بأن فاعل الأشياء الحقيقي وممارسها الأوحد هو الله؟
منظومة الوعي المنطقية تطرح تساؤلات كثيرة حول معقولية القول بوحدة الوجود. الأمر الذي يجعلها مصدراً من مصادر التشكيك بجدية الأحوال والمقامات التي يمر بها الصوفي. ومن هنا نجد أن أغلب رياضات الصوفية، بالذات منها التي تتعلق بما بعد مقامات التوكل، تركز على تمييع الجهد المنطقي في منظومة الوعي الصاعدة في رحلة العروج نحو الفناء. ولأن كثرة اعتماد المنطق في منظومات الوعي أمر نسبي، تكون المنظومة التي تلجأ للمنطق بمستوى أقل هي الأقدر على تحقيق أحوال ومقاقات التصوف بصورة أسرع.. والأمر هنا أشبه بلحظات الإبداع التي تشترط اللامنطق، فمثلاً التفكير الذي يشكل رحماً لولادة الشعر أو الفن التشكيلي هو تفكير لا يحكمه المنطق بصورة تامة، بينما التفكير الذي يشكل رحماً لولادة البحث العلمي تفكير يتحكم به ويسوده المنطق.
لقد عبرت أبيات الحلاج السابقة بشكل مباشر عن الشكوك المنطقية التي تعيق تصديقه بفناءه، خاصة وهو يقول: (أأنت أم أنا هذا في ردائين؟؟)، فهنا الشك مخيف، لأنه شك (بالأنا.. بالهوية)، أنا أم أنت؟ وهو شك منطقي، فكيف أكون أنا ومع ذلك أكون أنت؟ وعندما يصل الشك حدود الضمير (أنا) فمن المؤكد أنه سيكون شكاً مرعباً، لأنه يكشف عن أن الشاك يسعى جاهداً للتخلي عن ذاته ونزع أناه، ولا يمكن أن تكون عملية نزع الأنا سهلة أو خفيفة..
بالاضافة للأسباب المنطقية التي تعيق تحقيق الفناء يأتي سؤال الخطيئة ليطرح نفسه من جديد وبقوة أكثر، إذ ليس هناك مبعث على تردد الصوفي من عبور ناسوتيته أكثر من ممارسته الخطيئة، ومهما كانت ممارسات الصوفي للأخطاء خلال فنائي الأفعال والصفات ممارسات نابعة عن توحيد حقيقي فإنها لا تمكنه تماماً من عدم التردد أو الشك؛ خاصَّة وأن وقوف الصوفي عند عتبة الفناء بالذات المطلقة (الله) يدفعه اتجاه استحضار حالات الكمال والتجرد عن كل ما يبعث على الارتكاس بالانشغالات (المتدنية) وأهمها انشغالات الجسد، وهي أكثر الانشغالات التي تقطع حالات التأمل التي هي الزاد الوحيد الصالح لرحلة العروج للفناء التام. كما أن الخطيئة تحضر هنا بشكل كبير لأن الصوفي يعجز وهو في حالات الفناء عن ممارسة طقوسه العبادية. فليس من المعقول أن يؤدي عبادة الصلاة (مثلاً)، أو الصيام أو أي عبادة أخرى، لأن هذه العبادات جميعها تشترط (البينية) وتجعلها حاضرة في وعي الصوفي، بينما هو يسعى جاهداً لرفع هذه البينية التي تعيق فناءه أو تتنافى وإيمانه بأن ليس في الوجود سوى الله. الصوفي يريد أن يعبر الناسوت إلى اللاهوت، لكن العبادة تبقيه ثابتاً بناسوته؛ لأن الله لا يعبد نفسه. والعقدة الصعبة في هذا الموضوع هي ترك العبادات، فهي خطأ وخطيئة وذنب ولا يخطر على ذهن الصوفي قبل وصوله للفناء أنه سيفكر يوماً بترك ـ بل بمجرد التهاون بـ ـ موضوع العبادات، خاصة وأن العبادات هي الوسيلة الأكثر فاعلية بالنسبة إليه في رحلته التي أوصلته إلى تخوم الفناء فكيف يمكن له أن يتخلى عنها؟
إن التساؤلات المنطقية والخوف من الوقوع بما يسمى بـ(شبهة الحلول والاتحاد) والخوف من ترك العبادات هي الشكوك أو الأسباب التي دفعت الحلاج إلى أن يطلب من الله رفع البينية بينه وبين ألوهيته (فارفع بلطفك إنيي من البيني). وهي كلها شكوك يمكن أن تختصر بقبول أو عدم قبول عملية ممارسة الخطأ التي قلنا سابقاً بأنها شرط تحقيق الفناء بصورة تامة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ليس اخر
دانيال ( 2009 / 8 / 10 - 05:41 )
افتح الباب لباقي متصوفة بغداد ان يتابعون نفس الطريق
لماذا تتابع سير سد الابواب واطلاق الانا المتعظمة على انها اخر من قال، واستولى على كل الحقيقة، انه فعلا طريق الانبياء كلهم يعرفون ويلوحون ومنهم من صرح على انه اخر الانبياء وكذلك قال ابن عربي انه اخر الاولياء وعند المذاهب اخر (الائمة) منقذ وابدي، وتتداول الانا المعظمة على انها اخر ذات ستقول الحقيقية اعتقد قول انك اخر متصوفة بغداد خطئية اكبر من خطئية النبوة ياصديقي الجميل


2 - يا واحد
الناصري كما يسمي نفسه ( 2009 / 8 / 10 - 12:30 )
سلمت يا صديقي، ودمت باقياً ببقاء الحبيب سرمداً أبدياً، ولم تُعرف يوماً مطلقاً للأنانية المتعظمة كما يقول الأخ دانيال، بل عهدناك جميلاً بجمال الحق جل في علاه. وقولك آخر ليس الآخر بمعنى الفرد كما فهم دانيال العزيز بل هو نموذج يمثل كل المتصوفة بما اختزلوه من نتاج السابقين، وعلينا أن ننظر إلى الكثرة بعين الوحدة. فكأنك تحاكي المتصوفة كلهم وتمثلهم، فأنت هم وهم أنت. تقبل تحياتي ومروري ببضاعتي المزجاة.
(هذا المقام وهذه أسراره
رفع الحجاب فأشرقت أنواره
وبدا هلال التم يسطع نوره
للناظرين وزال عنه سراره
فأنار روض القلب في ملكوته
وأتت بكل حقيقة أشجاره) ابن عربي


3 - دانيال والناصري.. تحياتي
سعدون محسن ضمد ( 2009 / 8 / 10 - 15:59 )
انا الآن آخر من أعلن عن خطاياه الصوفية واعترافاته على رؤوس الأشهاد، كشفت رحلتي كما رأيتها وحاولت بما استطيع من موضوعيه ان اسردها بجيدها ورديئها وأهم ما حرصت عليه أن ارفع عنها انتفاخاتها الفارغة وتضخماتها غير المفهومة بالنسبة لي، إذن أنا آخر من خرج من سرداب التضخمات وأعلن عن عري (الحقيقية) وزيف الكثير من مفرداتها، وبانتظار أن يعترف مثل هذه الاعترافات غيري سابقى أنا أخر الصوفية (المعترفين).. ثم انني اسمي الصوفية هنا بأسماء الخطيئة فأين الأنا المتعظمة؟ اما الأنبياء فقالوا بالخاتمية وليس الآخرية، ابن عربي قال بانه خاتم الأولياء ولم يقل بانه آخرهم، فالاخرية تشير (دلالياً) لغير ما تشير له الخاتمية.

صديقي العزيز الناصري، اشكرك على مرورك الكريم واطرائك الذي لا استحق الكثير من روعته، في الحقيقة لم افهم الآخرية كما عرفها الاخ دانيال ولو خطر على بالي هذا التعريف لما تجرأت عليه، لكنني تشبثت بها في تعليقي على تعليقه للمزاح فقط، انا ادعي بانني صوفي وقد لا اكون كذلك لو عرضت تجربتي للنقد والتمحيص.. واذا كان الأخ دانيال يستخدم اسماً مستعارا واذا كان نفس الشخص الذي خطر على ذهني الآن فهو الذي يستحق أن يكون خاتم الصوفية وليس آخرهم وحسب..
شكرا لكما ودمتما صديقين.

اخر الافلام

.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض


.. واشنطن وبكين.. وحرب الـ-تيك توك- | #غرفة_الأخبار




.. إسرائيل.. وخيارات التطبيع مع السعودية | #غرفة_الأخبار


.. طلاب بمعهد ماساتشوستس يقيمون خيمة باسم الزميل الشهيد حمزة ال




.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟